في الذكرى الـ62 لثورة 14 أكتوبر... ذاكرة تحرر في ظل سلطات بلا شرعية
"الحياة بلا ثورة أشبه بفصول بلا ربيع في الصحراء"
"أنا داعية حياة، مادامت الحياة هي الرجاء نفسه"
جبران خليل جبران
"لا شيء يبقى نفسه... والدهر دولاب ودائر،
ولكل ليل آخر... مهما بدا من دون آخر"
توفيق زيّاد
تطلّ علينا الذكرى الثانية والستون لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963، واليمن تعيش واحدًا من أحلك فصول تاريخها؛ بلاد تتنازعها سلطات أمر واقع فقدت الشرعية، وتحولت أحلام التحرر إلى خرائط تمزق، لا مشاريع بناء. وبين احتفال رسمي بارد وواقع مأزوم، يبقى السؤال المُلحّ: ماذا بقي من روح أكتوبر في وطن يتآكله النسيان؟
ثورة 14 أكتوبر لم تولد من فراغ، بل من تراكم قهر الاستعمار البريطاني على مدى 129 عامًا، ومن جرحٍ مفتوح في ذاكرة الجنوب اليمني. منذ أن صعد راجح بن غالب لبوزة الشهيد الأول في جبال ردفان، أدرك اليمنيون أن زمن الصمت انتهى، وأن التحرر ليس بيانًا سياسيًا، بل قرار بالاستشهاد من أجل كرامة وطن.

لم تكن أكتوبر ثورة جنوبية صِرفة، بل الامتداد الطبيعي لثورة 26 سبتمبر في الشمال، والابنة الشرعية لوعي يمني واحد. حمل المقاتل اليمني في كلتا الثورتين البندقية نفسها، تحت شعار واحد: لا سيد على أرض اليمن، ولا علم يعلو فوق علم الحرية. ومن رحم تلك المرحلة، برزت أسماء بحجم التاريخ: فيصل عبداللطيف الشعبي، سالم ربيع علي، قحطان الشعبي، عبدالفتاح إسماعيل، محمد علي هيثم... رجال لم يحكموا كزعماء، بل مضوا كمؤسسين.
واجهت الثورة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، لا بجيشٍ منظم، بل بذاكرة لم تخضع. استخدمت بريطانيا كل أدواتها: شراء الولاءات، تقسيم القبائل، تكوين محميات عميلة، لكن مشروعها انهار أمام جيل قرر أن يمنح حياته لا أن ينتظر شرعية تُمنح له. وجاء الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 تتويجًا لملحمة لم تعرف الهزيمة.
غير أن الثورات، بعد النصر، تدخل امتحانها الأصعب: صراع المصالح. ما إن رحل الاستعمار، حتى تقاتلت الفصائل، وضاعت البوصلة بين الأيديولوجيا والحكم، لكن جوهر أكتوبر بقي نقيًا؛ ثورة وُلدت من أجل وطن، لا من أجل سلطة.

اليوم، وبعد 62 عامًا، يقف اليمن على مفترق سؤال مؤلم: هل خُنّا ذاكرة أكتوبر؟ السلطات المتنازعة تتحدث باسم الوطن، لكنها بلا مشروع وطني. تحتفل بالثورة، لكنها تمارس نقيضها. أخطر ما يواجه الثورة ليس العدو الخارجي، بل محاولات توظيفها في صراعات الهويات الضيقة.
أكتوبر ليست ذكرى، بل معيار. من يحتفل بها بحق، عليه أن يؤمن أن الوطن ليس غنيمة، وأن السيادة لا تُدار بالولاءات الخارجية. الثورة لم تكن حدثًا في الماضي، بل فكرة تحتاج أن تُبعث في الحاضر.
وغني عن البيان أنني لا أكتب عن الذكرى الـ62 للتمجيد، بل للتحذير. إن ثورة لا تتحول إلى مشروع دولة، تتحوّل مع الوقت إلى لافتة سياسية، وشعار بلا روح. ولأن أكتوبر علمتنا أن الكرامة أولًا، فإن أصدق وفاء لها اليوم هو أن نعيد تعريف الوطن: دولة قانون، لا دويلات، وسيادة قرار، لا تبعية نفوذ.