ثورة 14 أكتوبر.. بين فجر الحرية وغيوم التراجع
لم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر مجرّد حدث عابر في تاريخ الجنوب العربي، بل كانت زلزالًا أعاد رسم خرائط الوعي والهوية، وفتح صفحة جديدة بعد أكثر من قرنٍ من الوجود البريطاني الذي بدأ منذ دخول القوات البريطانية عدن عام 1839. وخلال تلك الحقبة الطويلة، ورغم أنها كانت فترة استعمارية في جوهرها، فإنها شهدت نهضة مدنية واقتصادية وثقافية جعلت من عدن واحدة من أكثر المدن العربية تنظيمًا وازدهارًا. كانت المدينة تضج بالحياة: ميناء من أنشط الموانئ في المنطقة، مدارس ومسرح وإذاعة وصحف ودور سينما، وشوارع نظيفة تخضع لنظام بلدي متطور، حتى وُصفت بأنها "لؤلؤة التاج البريطاني في الشرق الأوسط".
لكن هذا الازدهار لم يكن إلا وجهًا من وجوه التناقض؛ إذ ظل مبنيًا على إرادة المستعمر الذي يرى في التقدم وسيلة للسيطرة لا غاية لخدمة الإنسان. ومع ذلك، أسّس ذلك الواقع لوعي اجتماعي وثقافي متقدّم، فالمواطن العدني حينها عرف النظام، والانضباط، والاحترام المتبادل، وشهد انفتاحًا فكريًا مبكرًا جعل من المدينة منارةً في محيطٍ مضطرب. لذلك حين اشتعلت شرارة الثورة في جبال ردفان عام 1963 بقيادة راجح لبوزة، لم تكن مجرد انتفاضة مسلّحة، بل كانت لحظة انفجارٍ لذاكرةٍ طويلة من الإحساس بالكرامة المهدورة. كانت ثورة أكتوبر نداءً للإنسان الجنوبي كي يستعيد صوته وقراره، وحقّه في أن يكون سيد أرضه ومستقبله.

جاء الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 كفجرٍ طال انتظاره، وبدا أن الجنوب العربي يولد من جديد تحت اسم "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية". كان الحلم أكبر من الجغرافيا، والآمال المعلّقة على الثورة لا تُحصى: بناء دولة مدنية حديثة، وإحياء التعليم، وتنظيم الإدارة، وترسيخ العدالة الاجتماعية. وفي سنواتها الأولى، حملت الثورة وعدًا صادقًا بالنهضة، وكانت الثقافة والفنون حاضرة في مشهد التحرر، تعكس طموح مجتمع يريد أن يتنفس بعد قرون من السيطرة.
غير أن هذا الفجر المشرق لم يكتمل؛ فمع مرور الوقت، بدأت التصدّعات تظهر في جدار الحلم. سرعان ما تحوّل الاختلاف الفكري بين رفاق الأمس إلى صراعٍ دموي على السلطة، وتغلّبت الأيديولوجيا على العقل الوطني. سيطرت الاتجاهات الاشتراكية المتشددة على مفاصل الدولة، فتمّ إقصاء الكثير من الكفاءات، وجرى تأميم الاقتصاد بشكل أربك الدورة الإنتاجية، وتراجع الاستثمار. تحوّلت عدن من مركزٍ تجاري عالمي إلى مدينةٍ تئنّ تحت وطأة العزلة والفقر.
وبينما كان عهد الإدارة البريطانية يتميز بقدرٍ من الانضباط الإداري والوضوح المؤسسي، غابت هذه القيم بعد الاستقلال تحت شعارات الثورة والتحرير. فالإدارة التي كانت تُدار بنظام دقيق تحوّلت إلى بيروقراطية مترهلة، والميناء الذي كان يعجّ بالحركة خفت ضجيجه، والمصانع أُغلقت، والمكتبات خلت من روّادها. انهارت البنية الاجتماعية التي كانت تقوم على التنوع والانفتاح، وحلّت محلّها ثقافة الانغلاق والخوف من الاختلاف. لقد خسر الجنوب ما هو أثمن من الثروة: خسر النظام والوعي المدني اللذين تشكّلا في زمن الاستعمار، وهما الركيزتان اللتان كان يمكن أن تكونا قاعدة لبناء وطنٍ حرّ ومستقر.
ثم جاءت الوحدة اليمنية عام 1990 لتضيف فصلًا جديدًا في معادلة الأمل والخيبة. فقد استبشر الجنوبيون بها خيرًا، لكنهم سرعان ما أدركوا أن الوحدة تحوّلت من شراكة إلى تبعية، ومن حلمٍ قومي إلى وسيلة للهيمنة السياسية. بعد حرب 1994 دخل الجنوب مرحلة التهميش والإقصاء، جرى تسريح كوادره، وتهميش عدن ومينائها، وتحويل ثرواتها إلى مراكز النفوذ في الشمال. كان ذلك سقوطًا آخر لروح أكتوبر، حين وجد أبناء الثورة أنفسهم غرباء في وطنٍ حلموا بتوحيده.
اليوم، بعد أكثر من ستة عقود على انطلاقة ثورة 14 أكتوبر، تبدو الحاجة ماسّة إلى مراجعة تاريخية لا تقوم على التمجيد الأعمى ولا على جلد الذات، بل على الفهم العميق لمسار التحولات. لقد كانت الثورة فجرًا للحرية بلا شك، لكنها أخفقت في بناء الإنسان والمؤسسات التي تصون تلك الحرية. فالتحرر من الاستعمار لا يكتمل بخروج الجيوش الأجنبية من الأرض، بل ببناء مجتمعٍ يملك الوعي والمسؤولية والقدرة على إدارة نفسه بعد التحرير.
ومع كل ما مرّ به الجنوب من انكسارات وصراعات، تبقى ثورة 14 أكتوبر رمزًا خالدًا لإرادة الإنسان حين يرفض الخضوع. إنها ذكرى تذكّرنا بأن الشعوب يمكن أن تصنع حريتها، لكنها إن لم تصنع وعيها فستفقد تلك الحرية من جديد. وبين عدن الأمس وعدن اليوم مسافة من الألم والحنين، لكن في قلب هذه المدينة التي علّمت المنطقة معنى التنوير، لايزال هناك قبسٌ من نور أكتوبر ينتظر من يوقظه من رماد الصراع على مدى هذه السنين.