من إغلاق واشنطن إلى شرم الشيخ
سلام غزة بين طموح ترامب وحسابات الشرق الأوسط
لم يمضِ عام ونيف على عهد الرئيس ترامب حتى دخلت الولايات المتحدة مرحلة من الارتباك السياسي والاقتصادي منذ مطلع شهر أكتوبر، إذ أدى إغلاق مؤسسات الدولة، في ما يُعرف بـ"الإغلاق الفيدرالي"، إلى توقف الخدمات وتعطل رواتب مئات الآلاف من الموظفين، بينما قدّم البيت الأبيض الإغلاق كخطوة إصلاحية مالية ضرورية.
لكن الواقع كان مختلفًا، إذ مثّل الإغلاق فشلًا سياسيًا في تمرير ميزانية داخل الكونغرس، بسبب الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين حول أولويات الإنفاق، فترامب أراد زيادة التمويل للجدار الحدودي وبرامج الأمن الداخلي، بينما تمسّك الديمقراطيون بحماية برامج الرعاية الصحية والدعم الاجتماعي. النتيجة كانت ركودًا مؤقتًا في عمل الحكومة، وتقديرات بخسائر بمليارات الدولارات أسبوعيًا، مما عمّق القلق في الشارع الأميركي.
وفي خضم هذه الفوضى الداخلية، اختار الرئيس الأميركي تحويل الأنظار إلى الخارج، معلنًا إطلاق مبادرة هدنة في غزة، ومقدّمًا ما سماه "صفقة سلام شاملة"، الهدف الظاهر كان تحقيق إنجاز خارجي يُعيد له صورته على المسرح الدولي، وربما يفتح له الطريق نحو جائزة نوبل للسلام التي طالما حلم بها.
لكن المبادرة ووجهت بانتقادات من فاعلين دوليين ودوائر سياسية داخلية، لأن التهدئة لم تُبنَ على أسس سياسية واضحة تضمن استدامتها، فاعتبرها الديمقراطيون محاولة لتلميع صورة رئاسية في لحظة ضعف داخلي.
في هذه اللحظة، جاء الدور المصري الحاسم. فقد التقطت القاهرة خيط الأزمة، واستثمرت مكانتها الإقليمية وموقع شرم الشيخ كمنصة دبلوماسية لاستضافة محادثات موسعة حول وقف النار، وتأمين ممرات إنسانية، وإطلاق حوارات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
مؤتمر السلام في شرم الشيخ سعى إلى جمع طرفي النزاع بمشاركة دول عربية ومراقبين دوليين.
كما عملت مصر على طرح صيغ للتفاهم تراعي الأمن الإقليمي، وتخفف معاناة المدنيين، وتحافظ على توازنات دقيقة مع القوى الإقليمية الكبرى، مع هدف واضح يتمثل في تحقيق سلام شامل يحفظ حدودها ويمنع أية سياسة تهجير لأبناء غزة.
المشهد الإقليمي بدوره ازداد تعقيدًا بظهور متغيرات جديدة. فإيران لعبت دورًا خلفيًا حذرًا رحّبت بالتهدئة لتخفيف التوتر، لكنها ربطت أي اتفاق طويل الأمد بضمانات سياسية وإلغاء الضغوط عنها، ما جعل قضية غزة جزءًا من مسارات أوسع تتعلق بالاتفاق النووي وأمن الخليج معًا.
واستمرار الحديث عن مفاوضات نووية بين واشنطن وطهران أعاد رسم ميزان القوى في المنطقة، حيث إن أي ضغط إضافي على الملف النووي الإيراني يمكن أن ينعكس سلبًا على استقرار الشرق الأوسط، ويؤثر على فرص السلام في غزة.
أما قضية الحوثيين فبقيت ضمن الملفات المعقدة، إذ يستخدمون كورقة ضغط في البحر الأحمر يمكن أن تؤثر على خطوط الملاحة الدولية، ما يجعل أي اتفاق في غزة مرتبطًا بقدرة الفاعلين الإقليميين على ضبط الجبهات الأخرى لتجنّب اهتزاز الاستقرار قبل الوصول إلى تسويات سياسية دائمة.
ومن الجانب الإسرائيلي، لم يغير التصريح الأميركي حول الهدنة الكثير، بل زاد تل أبيب حذرًا في المرحلة المقبلة. فالحكومة الإسرائيلية تواجه ضغوطًا داخلية من قوى سياسية ترفض أي تنازل، وضغوطًا جماهيرية تطالب بوقف الحرب وإطلاق سراح الأسرى واستقالة نتنياهو، فيما تواصل الموازنة بين خياراتها الأمنية والاقتصادية قبل القبول بأي اتفاق مؤقت.
الخشية الإسرائيلية من فراغ أمني أو من إعادة تموضع الفصائل المسلحة، جعلت أي اتفاق هشًا ما لم يصاحبه إطار أمني دولي وإجراءات تنفيذية واقعية.
وعلى الساحة الدبلوماسية الدولية برزت أسئلة محورية: هل يمكن لصفقة مبنية على تهدئة مؤقتة أن تتحول إلى عملية سلام حقيقية دون مشاركة فلسطينية فاعلة؟
وهل سيقدّم مؤتمر شرم الشيخ خطة عمل لإعادة الإعمار وضمانات أمنية، أم سيبقى منصة لخطابات سياسية وإنفاق أموال طائلة باسم الإعمار؟
خصوصًا بعد الانتقادات التي طالت الرئيس ترامب باستغلاله ملفات الشرق الأوسط لتحقيق مكاسب سياسية ومالية خلال زياراته السابقة لدول الخليج، وهو ما زاد من شكوك مراقبيين سياسيين.
الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، تسعى لأن تجعل الاتفاق مشروطًا بتعهدات دولية واضحة لتأمين التمويل وضمان رقابة أممية تتابع التنفيذ وتحفظ أي تقدم يُحرز على الأرض.
أما في الداخل الأميركي فقد تحولت مبادرة غزة إلى ساحة صراع سياسي. الديمقراطيون استغلوا أزمة الإغلاق الفيدرالي للتأكيد أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تعوّض إخفاق الإدارة في إدارة شؤون المواطنين.
الرسالة التي خرجت من الكونغرس كانت واضحة: استقرار الداخل وثقة المواطنين في مؤسسات الدولة هما الأساس لأية مصداقية على الساحة الدولية.
إن السلام، كما اتضح، لا يُصنع عبر التصفيق في المؤتمرات ولا بتغريدات السياسيين، بل يحتاج إلى بناء ثقة طويلة الأمد، وإعادة إعمار واقعية، وإشراك سياسي حقيقي للفلسطينيين، وضمانات أمنية راسخة.
في هذا الإطار، يبقى الدور المصري محوريًا بفضل إرادتها الدبلوماسية وقدرتها على جمع الأطراف، وامتلاكها شرعية إقليمية تخولها تحويل التهدئة المؤقتة إلى مسار تفاوض مستدام.
أما الدروس في واشنطن فكانت قاسية، فالرئيس الذي لا يستطيع ضبط مؤسسات بلاده يصعب أن يُقدَّم كراعٍ للسلام العالمي. الرمزية وحدها لا تكفي، لأن الجائزة الدولية ليست سوى انعكاس لقيم القيادة وقدرتها على تحقيق الاستقرار الداخلي قبل السعي إلى تصدير الحلول للخارج، ومع ذلك كانت الجائزة من نصيب الفنزويلية المعارضة، ما يجسد مدى تعاون وتكاتف الديمقراطيين بهذا الشأن.
وإذا نجح مؤتمر شرم الشيخ في تحويل هدنة هشة إلى خطة عمل شاملة، فسيكون ذلك بفضل تضافر الجهود المصرية القطرية والإقليمية والدولية، بينما إذا استمرت الفوضى السياسية والاقتصادية في واشنطن، فكل محاولات السلام ستتحطم على صخور الخلافات الأميركية الداخلية.