علي عنبة.. صوت الفطرة اليمنية الذي غنّى للناس ورحل بصمت

في شوارع صنعاء وأزقتها، لا تكاد تمر دون أن يلامس سمعك صوته الدافئ. إنها نغمة مألوفة يعرفها كل من اعتاد ركوب حافلات النقل العامة أو الدراجات النارية في المدينة. فصوت الفنان علي عنبة صار جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية، يرافق الناس في أفراحهم وأحزانهم على حد سواء.
يقول أحد سائقي الدراجات النارية: "نسمعه لأنه يحس بنا.. بحبنا، وبوجعنا.. هذا فنان مننا وفينا."
كان علي عنبة، المولود عام 1979 في خولان الطيال بمحافظة صنعاء، ابنًا لأسرة موسيقية بسيطة. تعلم العزف على يد والده محمد عنبة، صانع العيدان والمزامير المعروف في الأوساط الشعبية.
نشأ علي في حي مسيك، حيث ارتبط اسمه ولقبه بـ"العنبة" بسبب شجرة عنب كانت تزين فناء منزلهم، لتصبح لاحقًا اسمًا فنيًا عالقًا في ذاكرة اليمنيين.

بدأ مشواره بالغناء في الأعراس الشعبية، مجبرًا بخاطِر الفقراء بإحياء حفلاتهم دون مقابل. وكان، رغم بساطته، يرفض الألقاب الكبيرة، مكتفيًا بتعريف نفسه في مقابلاته قائلاً: "أنا فنان شعبي بسيط."
لكن البساطة لم تحجب موهبته، فقد تجاوزت أغانيه حدود الأحياء الشعبية لتصبح جزءًا من التراث الغنائي اليمني الحديث.
مدرسة في جبر الخواطر
أسس علي عنبة فرقة فنية مع أشقائه، منهم يحيى ونسيم وبسام ووسيم، الذين تعلموا منه الغناء والعزف. كان مثالًا في الحنو والمسؤولية تجاه عائلته وجيرانه، ولم يتوقف عن دعم المواهب الصغيرة أو تشجيع أشقائه على إكمال تعليمهم.
وفي عام 2016، حين فقد نجله أصيل، ظلّ يستقبل المعزين بابتسامته المعتادة، يصافحهم ويلتقط معهم الصور رغم حزنه العميق، خشية أن “يكسر بخاطر أحد”، كما قال المقربون منه.
شاعر وملحن
كتب علي عنبة معظم أغانيه، ولحن الكثير منها بنفسه، مؤمنًا بأن الفنان يجب أن يعيش الكلمة قبل أن يؤديها. أعاد تقديم الأغاني التراثية بروح جديدة.

قدّم ألبومات راسخة في ذاكرة الجمهور مثل: "شعبيات بير العزب"، "قالوا حرام"، "شمس الغروب"، "البنت كبريت"، "عاشق لك"، إلى جانب أغنيات لاقت تفاعلاً كبيراً مثل "اتحداك تنساني"، "يا هاجري"، "عزيز النفس"، "هن هن"، و"من دمع عيني".
ورغم إنتاجه عددًا من الفيديو كليبات في التسعينات، إلا أن معظمها لم يُعرض في القنوات الرسمية آنذاك، ما حرمه من الانتشار الذي استحقه مبكرًا.
من المحلية إلى الإقليم
شارك عنبة في مهرجانات فنية داخل اليمن وخارجها، أبرزها مهرجان صلالة في عُمان، مهرجان الأغنية العربية في القاهرة، كتارا في قطر، موسم الرياض، ومهرجان جدة غير.
نال محبة الجمهور بفضل صوته الشجي وإخلاصه للفن الشعبي، فصار جزءًا من وجدان اليمنيين الذين وجدوا في صوته مرآةً لحنينهم وأحلامهم.
الرحيل الصادم
خلال الأعوام الأخيرة، ابتعد عنبة قليلًا عن الساحة الفنية، قبل أن يعود بقوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مطلقًا سلسلة "ميدلي" من أشهر أغانيه، شاركه فيها عدد من الفنانين الشباب.

وفي سبتمبر الماضي، غادر إلى مصر ساعيًا لبدء حياة جديدة له ولأسرته، إلا أن القدر لم يمهله طويلًا؛ إذ أُصيب بنوبة سكر حادة في العاشر من أكتوبر، أودت بحياته بعد 18 يومًا فقط من وصوله إلى القاهرة.
نعاه الفنانون والجمهور بحزن بالغ، وقال عنه الفنان حسين محمد: "كان مدرسة نتعلم منها.. غادرنا فجأة بلا وداع."
وداع يليق به
أثارت صورة جثمانه وهو يُنقل في سيارة عادية إلى مطار القاهرة موجة غضب بين اليمنيين الذين اعتبروا ما حدث تقصيرًا رسميًا في حق فنان يمثل جزءًا من وجدانهم.
ووصل جثمانه لاحقًا إلى صنعاء بعد الصلاة عليه في جامع عمر بن الخطاب بحي مسيك، ليوارى الثرى في مقبرة المشهد، وسط حضور شعبي كبير يليق برجل غنّى للناس من القلب ورحل بصمتٍ يشبه نُبله.