حين يعجز الفقراء عن شراء الثلج.. خزانات الشوارع تروي عطش المدينة

ما إن تغادر منزلك في مدينة الحديدة حتى تلتقي عيناك بخزانات السقيا المنتشرة في كل زاوية؛ بأحجام وألوان مختلفة، تملأ الأزقة والحارات الشعبية والشوارع الرئيسية، وحتى واجهات المحال والأسواق والمؤسسات العامة والخاصة.
هذه الخزانات تحولت إلى رمز للتكافل الاجتماعي الذي يميز أبناء المدينة، المعروفين بصفائهم وروحهم المسالمة. وفي الوقت نفسه، تعكس حجم المعاناة التي يعيشها سكان الحديدة في ظل موجات الحر الخانقة وندرة المياه الصالحة للشرب، إذ أصبحت "السقيا" مبادرة يومية لا غنى عنها لحماية حياة الناس في واحدة من أكثر المدن حرارة في اليمن.
صهاريج الخير
خلال السنوات الأخيرة، بادر عدد من فاعلي الخير في المدينة إلى نصب خزانات مياه بلاستيكية صغيرة بسعات مختلفة في الشوارع الرئيسية، وأحاطوها ببناء مكسوٍّ بالسيراميك، مع توصيلها ببرادات كهربائية. في أسفلها وُزعت حنفيات صغيرة عُلقت بجانبها أكواب بلاستيكية يستخدمها المارة للشرب.

تأتي هذه المبادرات في ظل اتساع رقعة الفقر، حيث يعجز الكثير عن شراء مياه باردة، فيما تعتمد عليها أيضًا أسر فقيرة لا تملك ثمن الثلج.
يقول محمد (اسم مستعار)، صاحب محل تجاري في المدينة: "أحرص يوميًا على تعبئة خزان المياه الذي وضعته أمام محلي، ليستفيد منه المارة، خصوصًا في ساعات النهار الأولى وحتى بعد الظهيرة، مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل مرهق".
عون للفقراء
في صيف الحديدة اللاهب، تتحول خزانات السقيا إلى طوق نجاة حقيقي لذوي الدخل المحدود. فالكثير من السكان في الأحياء الشعبية يعجزون عن شراء الثلج أو توفير المياه الباردة لأسرهم، فيلجأون إلى هذه الخزانات لتعبئة أوعيتهم المنزلية، محاولين تخفيف وطأة الحر وتأمين أبسط حقوقهم في شربة ماء باردة.
تقول أم هنادي، وهي من سكان المدينة:
"عندما لا أستطيع شراء الثلج بسبب ضيق الحال، أذهب إلى خزان السقيا القريب وأعبئ منه البرادة الخاصة بي.
حتى في الأيام التي ينعدم فيها الثلج، أجد في هذا الخزان عونًا لي ولأطفالي لتخفيف العطش في أوقات الظهيرة".
ثقافة متجذّرة
يرى الناشط علي مغربي الأهدل أن هذه الخزانات ليست ظاهرة جديدة، بل امتداد لثقافة التكافل المتأصلة في المجتمع اليمني، ويقول: "المجتمع اليمني عُرف منذ القدم بروح التعاون والمبادرات الذاتية، وبرز ذلك في مشاريع سقيا الماء، كحفر الآبار وبناء البرادات والخزانات، سواء للمارة أو للأحياء السكنية، وهي من أرقى أشكال العطاء التي تحفظ كرامة الإنسان".
ويضيف الأهدل:
"رغم بساطة هذه المشاريع، إلا أنها تقدم خدمة جوهرية لشريحة واسعة من الناس، وتعيد ترميم الروح الجماعية في ظل الانهيارات المتلاحقة التي تعيشها البلاد".
مبادرات تُبقي الأمل
باتت مبادرات "السقيا" اليوم واحدة من أبرز ملامح التكافل المجتمعي في الحديدة، إذ تواصل تزويد الناس بالماء البارد في ظل تقاعس الجهات الرسمية عن أداء دورها في تأمين أبسط الخدمات الأساسية. إنها مبادرات إنسانية تُبقي الأمل حاضرًا في مدينة يرهقها الحر وتفتقد أبسط مقومات الحياة.