صنعاء 19C امطار خفيفة

11 أكتوبر.. صورة الحمدي و"زمن إبراهيم"

يتذكر قطاع كبير من اليمنيين 11 أكتوبر من كل عام بوصفه يومًا مأسويًا في تاريخهم المعاصر، ففيه أزهقت روح رئيسهم الذي عقدوا عليه آمالًا كبيرة في إعادة صياغة روح الدولة الحديثة، بعد سنوات طويلة من الفوضى والانفلات والفساد. بنوا هذه الآمال على ما لمسوه من إنجازات تنموية متسارعة على الأرض خلال ثلاث سنوات وبضعة أشهر من حكمه الذي بدأ مع 13 يونيو 1974، وانتهى بمقتله في 11 أكتوبر 1977، عشية سفره إلى عدن في زيارة كان يتوقع منها التسريع بخطوات وحدوية يتبناها وبقوة الرئيسان الحمدي وسالمين.

الرئيس ابراهيم الحمدي وسالمين

في استعادات كثيرة، تذكرت بعض تلك الفترة حين كنت طفلاً في العاشرة، ومنها اليوم الذي أعقب اغتياله حين قلت في مادة عنوانها (الحمدي وزمنه ... استعادة من مخزون ذاكرة طفل في العاشرة) في 15 يونيو 2020:
"في صباح تشريني باكر، لم أزل أحس بلسعاته الباردة تضرب وجهي الذي غسلته أول نهوضي من نوم ثقيل وأنا في طريقي إلى الدكان، كانت تملأ فضاء المدينة أصوات تسجيلات المقرئين المنبعثة من ميكروفونات المساجد. وحين وصلت إلى الدكان كانت كل الآذان مشنفة إلى الراديو الذي يذيع بيانات نعي استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي، ورفعت المدينة الحزينة الخرق السوداء بدل الأعلام التي كانت لم تزل تحتفظ ببهاء ألوانها وسطوع نجمتها الخضراء الوحيدة، ولم يمضِ على تركيبها في الواجهات سوى أسبوعين بمناسبة احتفالات الذكرى الخامسة عشرة لثورة الـ26 من سبتمبر.
بعض من أهالي منطقتي الذين عادوا من صنعاء إلى قراهم بعد اغتيال الحمدي، والذين كانوا يعملون ويسكنون في منطقة “باب اليمن”، حملوا في حقائبهم، إلى جانب ملابسهم وهداياهم، صورًا مختلفة بالأبيض والأسود -مزججة ومحمية بلاصق كرتوني– للرئيس المغتال مع أبنائه ومع سالمين (الرئيس سالم ربيع علي) ومع الجنود. صور مدنية وعسكرية عديدة له، وحملوا أيضًا الكثير من حكايات حزن صنعاء على اغتياله، ومنها البكاء المرير للمولّدين اليمنيين الذين كانوا يسمونه بالأب، ويروون مشاهداتهم للأحذية وهي تتطاير في وجه الغشمي -الرئيس الذي خلفه واتُهم باغتياله- من قبل المشيعين الغاضبين الذين رافقوا جثمان الرئيس الحمدي وأخيه عبدالله إلى المقبرة القريبة من محل إقامتهم."

بين الكاتب والمكتوب عنه !!

قبل أيام قليلة أنهيت قراءة كتاب الصديق أنور العنسي الذي أسماه (زمن إبراهيم)، الذي أعاد، وبلغته الرشيقة والسلسة، نحت صورة الرجل وزمنه بكثير من المحبة الفارطة التي يستحقها، فجاء الكتاب كوثيقة وجدانية راقية، تكثف صورة الرجل بمحبة الكاتب وعاطفته، وليس المؤرخ وأدوات تشريحه، رغم محاولاته الاعتماد على شهادات مختلفة عن الشخصية المحورية وزمنها، وقراءة الأحداث بشيء من التحليل المكثف، غير أن الاستدخالات الكثيفة لبعض من سيرة الكاتب بسيرة الحمدي تعزز أيضًا هذا المنحى.
يقول في تقديمه للكتاب:
"لا أنكر أن ثمة بعدًا شخصيًا وإنسانياً مؤثرًا وعميقًا رسمه (إبراهيم) في حياتي، كجار وأخ أكبر عرفته في صباي وشبابي، لكنني لا أكتب هنا بالضرورة عني، ولا عنه، بل أزعم أنني أكتب عن مرحلة عاشتها البلاد بقيادة بطلها الشعبي إبراهيم.. جزءًا من قصة حلم كاد أن يتحقق في لحظة يقظة خاطفة من الزمن، بل عما تيسر من مأساة اليمن في جغرافيا التاريخ وملهاته في تاريخ الجغرافيا، أو عن (حالة) تمثل جيلي العريض الذي وجد في إبراهيم فرصة نادرة، قائدًا، ورائدًا واعدًا، تجسدت في شخصه كل صفات الزعيم الحقيقي صاحب الحضور الجاذب منقطع النظير، والرؤية البعيدة في ارتباط الماضي عنده بالحاضر والمستقبل، وكذلك في الإرادة الصلبة، والتفاني في العمل، والتضحية، وإيثار المصلحة العامة على ما عداها.
ربما أبدو للبعض هنا متحدثًا عن زمني الخاص في زمن إبراهيم.. هذا صحيح إلى حد ما، لكن الأمر ليس بالضرورة كذلك، بل أنا أقدم نفسي كـ (حالة) أو مثال لما كان عليه حال الآلاف أو عشرات الألوف من فتية وفتيات البلاد الذين أزعم أن الحمدي أخذ بأيديهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى بدايات الطريق الصحيح نحو أمانيهم وأحلامهم الكبار."

النبش في تراب التذكر

يبدأ النبش من البحث عن شجرة الحمدي العائلية التي نبتت في البداية فوق تراب قرية (حَمِدَه) بمحافظة عمران، والفاعل الحيوي في هذه الشجرة هو القاضي محمد الحمدي والد الرئيس، الذي عاش، بحكم وظيفته كقاضٍ متنقلاً بين كثير من مناطق اليمن المتوكلي وبعض من سنوات ما بعد سبتمبر، وفي تنقلاته الكثيرة اقترن بثمان زوجات ومنهن زوجته الأخيرة (ميمونة عبد الفتاح الخطيب) التي أنجب منها إبراهيم وشقيقه عبد الرحمن وشقيقتين.
المهم في هذا النبش الحديث عن نباهة الطفل، وعن سفره برفقة والده إلى روما - ملحقين بوفد الإمام كثير العدد- بعد أن طلب منه الإمام ذلك أثناء توديع الأول له في مطار تعز، وبقائهما لعشرين يومًا في روما، وهذه المعلومة يقدمها شقيق الرئيس الحمدي محمد للكاتب، وهي معلومة جديدة للكثيرين.
تتلمُذ الطفل الصغير على يد الشخصية الوطنية حسن السحولي - معلومة مهمة أيضًا في هذا الفصل لما كان للسحولي من حضور مؤثر في سياق المعارضة السياسية، ولاحقاً خلال مراحل دراسته في (جامع المدرسة الشمسية) وغيرها نهل مزيدًا من المعارف والعلوم الشرعية على يد عدد من علماء الدين في عصره، وبعد ذلك التحق بالمدرسة التحضيرية بصنعاء (في الغالب المدرسة العلمية)، ثم التحق لفترة وجيزة بكلية الطيران التي افتتحت في العام 1959، وعودته من جديد إلى ذمار لمساعدة والده (بعد خلاف مع السلال رئيس الكلية حول رسوم الدراسة، رغم تسوية الأب للأمر مع ولي العهد البدر كما يقول الكاتب، ومع ذلك عاد ولم يكمل الدراسة، ولم يواصل أي نوع آخر من الدراسة).

عن مرحه وعادته

من التفصيلات المثيرة للاهتمام إعادة تقديم الوجه الآخر من شخصية الحمدي، وهو الوجه المرح، وارتباطه أيضًا بشخصيات مرحة من مدينة صباه وشبابه (مدينة ذمار)، إذ كان خلال زيارته الدائمة للمدينة يجمع في مقيله مثل هذه الشخصيات ويتبادل معها النكت والحكايات المسلية، ويذهب الكاتب العنسي إلى أن الحمدي هو من طبع في الذاكرة الشعبية أن ذمار هي مصنع النكتة في اليمن:
"لم تكن ذمار وحدها المدينة الوحيدة المتسمة بروح السخرية والظرافة، فلقد كان لكل منطقة في البلاد أسلوبها في التعبير عن فلسفتها في الحياة، لكنني أستطيع (اتهام) إبراهيم بأنه هو من ربط ذمار في أذهان كثيرين بالنكتة، بل وجعلها عنوانًا لها، بينما كانت معروفة أكثر بغير ذلك من العلوم والمعارف والآداب والتراث الضارب في أطناب الأرض والزمن."
المقصود والمتعمد في إنتاج الصورة الذهنية عن الزعيم
كما أرادها في هيئته ومظهره الخارجيين، ودرجة صوته ونبرته عند حديثه مع الآخرين أو الخطابة بين الجموع، وأسلوبه في الحياة عمومًا قد تكون سلوكيات تلقائية وعفوية، إلا أنها ربما قد تكون متعمدة ومقصودة لرسم صورة ما للزعيم الذي أراده الحمدي أن يكون، بل والجزء من السياسة، لكنها كلها كانت مفاتيح لولوج عالم الرجل، ومداخل لسبر أغواره، والوعي باللاوعي عند إبراهيم الذي كان كل ذلك إلى جانب وعيه العالي الدافع خلف قراراته الهامة وسياساته العامة.
أما عن زيه حسب ما يرد في الكتاب فقد كان له "زيه الخاص بجيوب خالية من أي شيء سوى قلمه، لكن ذلك الزي المصمم بذوقه كان معبرًا عن رجل ذي ميول شعبية أقرب إلى البسطاء أو إلى ري الثوار والقادة المحاربين في بعض دول العالم الثالث ذوي المزاج الثوري اليساري. كان ذلك الزي يحتوي بأناقة استثنائية جسد إبراهيم؛ ذلك الجسد المشدود والمتوتر، الممتلئ بالطاقة والحيوية والنشاط، مثل عضلة واحدة. معظم ملابس إبراهيم من هذا الطراز كان يتم تفصيله وخياطته لدى (ترزي) معروف لديه في مصر، ويجري إرساله إليه من قبل أستاذه وصديق أسرته السحولي، وغيره من أفراد أسرته وأصدقائه."
وعن طعامه وطريقة نومه يقول العنسي:
لم يكن أشهى لإبراهيم أكثر من الأطعمة اليمنية التقليدية، وخصوصًا البسيط منها المعروف في مناطق ذمار وصنعاء كالشفوت والسحاوق والسلتة وغيرها من الوجبات اليمنية التقليدية (مثل العصيد والمخبوزات)، وأنه في رحلاته الخارجية كان يعتذر عن دعوات العشاء في المطاعم الفاخرة، ويفضل الذهاب لتناول الوجبات العربية البسيطة، وكان يفضل تناول الطعام على الأرض، ويشارك ضيوفه أيضًا هذه الطريقة.
وفي نومه اعتاد الحمدي منذ الطفولة النوم على الحصير والفرش البسيطة التي توضع على أرضية الغرف والحجرات، وأن مرافقيه كانوا ينزلون الفرش من على الأسرة في الفنادق والقصور التي يُستضاف فيها في زياراته الخارجية ويضعونها على أرض الحجرة حتى ينعم بنوم هادئ.
في تفصيلات أخرى
الكتاب تطواف بديع في رحلة الرئيس المغدور وملامسة بارعة للمغيب والمهمل في سيرته القصيرة، والأكثر ثراء وحيوية في تاريخ اليمنيين. يقول الكاتب:
"عاش إبراهيم حياته الطبيعية القصيرة مرة واحدة، لكنه عاش ولا يزال يعيش على شفاه الناس وفي وجدانهم وذاكرتهم مئات آلاف المرات."
اعتقل الحمدي بعد قيام ثورة سبتمبر مباشرة نيابة عن والده، بتهمة الشك في ولائه للنظام الجمهوري، وتم الإفراج عنه بواسطة زميله السابق في كلية الطيران يحيى المتوكل، وعاد إلى ذمار برفقة العامل الجديد القاضي عبد الكريم العرشي الذي أعاده إلى موقع والده الذي كان يشغله في العهد السابق.
لم يستمر طويلًا في ذمار إذ سرعان ما التحق في مكتب الفريق العمري، وتدرج في الوظيفة حتى وصل إلى موقع مدير المكتب والشخص الأكثر تأثيرًا في قراراته. ترافَق من جديد مع يحيى المتوكل في زنزانة واحدة في السجن الحربي المصري، حين تم إيداع أعضاء الحكومة اليمنية المناوئة للسلال ومرافقيهم في 1966 السجن الحربي، ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد نكسة يونيو 1967. وبعد العودة إلى صنعاء وتحديدًا بعد انقلاب نوفمبر 1967 لمع نجمه بسرعة بتسلمه الكثير من المواقع الحيوية في الجيش والأمن التي وصل فيها إلى موقع نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الموقع الذي كان يشغله قبل تسلمه السلطة في 13 يونيو 1974، بالاتفاق مع سلفه القاضي عبد الرحمن الأرياني، ونافذي مراكز القوى (الأحمر وسنان ومجاهد) وبمباركة سعودية، غير أنه سرعان فكك هذه المراكز مستقلاً بقراره ومستوقدًا بطموحه الكبير كزعيم أمة، وهو ما عجل بتصفيته في مثل هذا اليوم 11 أكتوبر 1977.

الكلمات الدلالية