المدينة التي تعيد تدوير الخيبة
لم تسقط تعز يومًا، ولم تنهض تمامًا أيضًا.. هي المدينة التي تجيد فنّ الوقوف على الركام، تزيل الغبار عن كتفها، ثم تواصل السير في ذات الدائرة التي تبدأ بالمجد وتنتهي في المكاتب الحزبية.
مدينة محكومة بلعنة البطولة. كلما حاولت أن تستعيد وجهها المدني، خرج عليها بطل جديد بملامح قديمة، يلوّح بشهادة في النضال، ويطالب بحق الامتياز مدى الحياة.
تاريخها القصير الطويل يشبه سردية المخلص الذي نجا من التنين ليصبح هو التنين ذاته. فحين تحوّل المقاومون إلى موظفين في أسطورة لا تنتهي، صار الخوف من "الانقلابيين الجدد" مادة تسويقية أكثر منه واقعًا أمنيًا. صارت البطولة سلعةً تتنقل بين البيانات والمنصات، يُباع فيها المجد بالكيلو، والولاء بالتصريح.
تعز -تلك الفكرة التي وُلدت من رحم الرفض- أُعيدت صياغتها على من يكتبون سيرتهم في دفاتر السلطة. لم يعد للرصاصة ذاكرة، ولا للدم معنى إلا حين يُستدعى لتبرير صفقة أو تسوية. المدينة التي كانت تُحاصر من الخارج، باتت اليوم تُخنق من الداخل بأيدي من نسوا أن الشرف ليس رخصة للتسلّط.
يقولون إن النقد خيانة، كأن الحقيقة عورة ينبغي سترها بعباءة المقاومة. كل من تساءل: من قتل؟ من نهب؟ من اختطف المدينة إلى صومعة حزبه؟ يُصنّف في خانة الأعداء، لأن البطولة في نسختها التعزية لا تحتمل مراجعة. يكفي أن تكون "من الجماعة" لتُعفى من الحساب، وأن ترفع شعار "الخطر الحوثي" لتبرر كل خراب آخر.
المدينة اليوم لا تبحث عن بطل، بل عن ضمير. عن مقاوم لم ينسَ أن البندقية التي حملها لتحرير تعز، ليست صكّ ملكيةٍ لها. عن رجل لا يضع الثورة في جيبه كوثيقة تملّك. عن صوت لا يخاف من الحقيقة أكثر مما يخاف من السلاح.
في تعز صارت البطولة مهنة، والنقد جريمة، وصار الدم المسفوك تفصيلًا صغيرًا في خطاب النصر الكبير. كل شيء يُعاد إنتاجه: الأعداء، الشعارات، وحتى الكذب نفسه. والنتيجة أن المدينة التي أرادت أن تُخلّد حكايتها، أصبحت عالقة في تكرارٍ أبديٍّ للحظة السقوط الأولى، تلك التي لم تحدث رسميًّا، لكنها تتكرر كل يوم بوجهٍ جديد وصوتٍ مألوف.