علي عبدالمغني ناصري حتى إن لم يوجد تنظيم ناصري!
تابعت ما نشرته "النداء" في خمس حلقات عن كتاب الأخ حسن شكري، الذي يحمل عنوان "علي عبدالمغني"، وأجد أنه من الضروري الرد على ما جاء في كتابه، بخاصة أنني أعرف الأخ حسن من سبعينيات القرن الماضي، بالقاهرة، وأعرف درجة ثقافته العالية، وتواضعه الجم، ومرونته بالتعامل الراقي مع من يختلف معهم فكريًا.
وبالرغم من الأسلوب الإنشائي الجميل والسلس الذي كتب به موضوعه، وبذكاء، فليسمح لي الأخ حسن أن أقول له إن ما كتبه هذه المرة من أول موضوعه في الحلقة الأولى، إلى حلقته الأخيرة، قد ظل يحوم حول انتماء الشهيد علي عبدالمغني، محاولًا إقناع القارئ تلميحًا ببعثيته، ولم يحسم ذلك بشكل صريح وواضح، هل هو ناصري أو بعثي، إذ قام الأخ حسن شكري، وبأسلوب فني وذكي، بالتمهيد وتقديم مبررات لابتعاد حزب البعث عن جمال عبدالناصر، بالرغم من شعبية عبدالناصر الهائلة في الوطن العربي، كما قال، وبخاصة بعد الانتصار على العدوان الثلاثي.
ومن تبريرات الأخ حسن أن الدستور الذي قدمه عبدالناصر بعد العدوان الثلاثي عام 1956، لم يكن ديمقراطيًا، وهذا ما لفت نظري، وكأن حزب البعث قد كان في ذلك الوقت ينضح ديمقراطية، سواء في مستوياته الحزبية أو بعدما حكم ساحتين عربيتين هما سوريا والعراق، بحيث كانت تصرفاتهما لا ديمقراطية إذا لم أقل دموية مع القوى السياسية في الساحتين، أو حتى في بنيتهما الحزبية، وداخل الهيكل الحزبي، وكيف كانت تتم التصفيات البينية، ناهيك عن الصراع بين الفرعين العراقي والسوري.
وإذا كان الأخ حسن شكري يؤمن بالديمقراطية الليبرالية، وينتقد جمال عبدالناصر بأنه غير ديمقراطي، وفي مرحلة الخمسينيات، فإنه لم يقل لنا كيف قبل شخصيًا الالتزام للحزب الاشتراكي اليمني، ووصل إلى عضوية لجنته المركزية، وهو حزب يتحدث عن ديكتاتورية البروليتاريا، ولا يؤمن بالديمقراطية التي انتقد عبدالناصر عليها، حيث كان شعار الحزب لا صوت يعلو على صوت الحزب. عمومًا ما علينا.
وأعود إلى ما كتبه الأخ حسن، فبالرغم من إشارته إلى جريمة الانفصال بدمشق، وبعض الارتدادات على تلك الجريمة من القيادات القومية للبعث، إلا أنه أيضًا يتجاهل كل النتائج التي ترتبت على مشاركة حزب البعث في جريمة الانفصال في 28 سبتمبر 1961، لأن الأمور لم تقف عند انفرط الالتزام الحزبي، بل أدت إلى التخلي تمامًا عن الانتماء لحزب البعث، بل الانتقال بالانتماء إلى الفكر الناصري كما حدث بالعراق من قبل أهم مؤسسي الحزب الشهيد المناضل فؤاد الركابي، الذي جعل حزب البعث بعد انقلابه عام 1968 ووصوله إلى الحكم، يقوم بتصفيته جسديًا، وبطريقة بشعة، وكذا في الأردن انفرط الحزب بقيادة المفكر القومي عبدالله الريماوي، الذي ألف كتابًا عن تجربته بالحزب تحت عنوان "التجربة المرة"، وحتى في سوريا نفسها ترك الكثيرون من أعضاء الحزب الذي دفع مطاع صفدي أن ينشر كتابًا عن تجربته الحزبية تحت عنوان "حزب البعث مأساة المولد ومأساة النهاية"، وإن الذين تركوا الحزب شكلوا تنظيمات سياسية ناصرية مثل الدكتور جمال الأتاسي الذي أسس الاتحاد الاشتراكي العربي في سوريا، أو أحزابًا قومية أخرى مثل حزب الوحدويين الاشتراكيين بقيادة فائز إسماعيل. وكانت الانسحابات والانشقاقات التي حدثت في العراق والأردن وسوريا، هي ردود فعل للتوقيع على وثيقة الانفصال من قيادة حزب كان شعاره يقول "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة بالوحدة والحرية والاشتراكية"، ولذلك كانت خلاصة مأساة المولد ومأساة النهاية هي تجربة مرة.
وقد حدث ذلك في اليمن أيضًا، حيث ترك الكثير من أعضاء الحزب وتخلوا عنه، وتبنوا الفكر الناصري تلقائيًا، أما الذين استمروا بالتزامهم بالحزب فقد اختفوا وناموا نومة أهل الكهف خجلًا وعجزًا عن مواجهة الجماهير، لأنهم لا يستطيعون أن يقدموا أي تبرير عن مشاركة قيادتهم المفروض أنها قومية ووحدوية، في جريمة الانفصال الإقليمية. وقد وصل الأمر في عدن إلى أن الجدران قد امتلأت بالشعارات المناوئة للبعث، بل إن بعضها قد تجاوز الحدود بالتعبير مثل "لا تنسب الكلب للبعثي تظلمه فدية الكلب تساوي ألف بعثاوي"، وذلك ما جعلهم يختفون تمامًا، ولم يبدأوا بالظهور إلا من بعد نكسة 1967، وتحديدًا في حركة 5 نوفمبر 1967 الرجعية، وساعد على اختفائهم أن الحزب كان سريًا.
وعمومًا، وبافتراض أن الشهيد علي عبدالمغني كان متعاطفًا مع البعث، فإن جريمة الانفصال قد جعلته يحدد موقفًا من تلك الجريمة، وأصبح ناصري الهوى والهوية، إذ وثق علاقاته وتواصله مع عبدالناصر، ولم تكن العلاقة وذلك التوثيق عبر القائم بالأعمال المصري محمد عبدالواحد فحسب، بل كان أيضًا عبر المناضل عبدالغني مطهر، إذ كلفه بحمل رسالة منه إلى الزعيم جمال عبدالناصر، يطلب فيها دعم الجمهورية العربية المتحدة عند القيام بالثورة، إذ سافر عبدالغني مطهر بالفعل إلى القاهرة في 16 أغسطس 1962، وقد أكد ذلك المناضل عبدالغني مطهر في كتابه "يوم ولد اليمن مجده"، وأيضًا محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الغليان"، بالإضافة إلى كتاب محمد فتحي الديب، مدير مكتب الشؤون العربية برئاسة الجمهورية، "أيام جمال عبدالناصر".
كما أن الفيلم الذي يحمل عنوان "جمال عبدالناصر"، والذي أخرجه المخرج السوري مصطفى العقاد، ورد اسم عبدالغني مطهر، إذ يسأل الرئيس جمال مدير مكتبه هل وصل التاجر اليمني عبدالغني؟
ومثله كل من تخلوا عن حزب البعث الذي طعن الأمة في أعظم أمانيها، وداس على أهم أهدافه، وهي الوحدة. وأنا أجزم بأن البعثيين قد تخلوا عن الانتماء إلى الحزب، بالرغم من محاولة ممارسة التمويه ببعض الهياكل التي لا تذكر اسم الحزب صراحة، وإنما بأسماء أخرى، مثل الانخراط في حزب الشعب الاشتراكي، وتشكيل الرابطة الطلابية العربية في عدن، التي كانت تمارس التوعية والتثقيف في الأوساط الطلابية، باسم العروبة والوحدة العربية، وأهمية النضال ضد الاستعمار. وقد كنت أنا شخصيًا عضوًا في الرابطة الطلابية العربية بمنطقة عدن الصغرى، وكنا نعقد اجتماعاتنا التثقيفية كمجموعات كل مجموعة لا تزيد عن خمسة أفراد فقط، وكنا نجتمع عند ساحل كود النمر، وقد انتشر الانتماء إلى الرابطة الطلابية إلى درجة أن أصبح كل طلاب المدرسة المتوسطة بالبريقة أعضاء، باستثناء طالبين، لأنهما كما قيل ليسا عربًا، فأحدهما صومالي، والآخر من أصول هندية، ولكن تم اكتشاف الأمر بأن الرابطة الطلابية العربية هي مجرد غطاء سري لحزب البعث بعد اكتشاف أن قيادة الرابطة قامت بإرسال برقية تأييد للرئيس السوري أمين الحافظ، وهو القيادي البعثي المعروف، وتحمل البرقية تأييدًا له لما قام به من خرق لاتفاقية 17 أبريل 1963 لتوحيد الأقطار الثلاثة: مصر وسوريا والعراق. وبعد اكتشاف تلك البرقية قام رئيس الفرع بالبريقة المرحوم محمد سعد علي مهيم، من أبناء لحج، والمسؤول المالي المرحوم محمد أحمد محسن، من أبناء الضالع، بإبلاغ الطلاب بمضمون البرقية، وتقرر التخلي عن الرابطة باعتبارنا ناصريين مؤيدين لجمال عبدالناصر.
والخلاصة أن علي عبدالمغني والجماهير اليمنية كانت ناصرية بالعاطفة والفكر، بالرغم من عدم وجود تنظيم ناصري في تلك الفترة.
أتمنى أن يتقبل الأخ حسن شكري وجهة نظري. مع تحياتي وتقديري له.