صنعاء 19C امطار خفيفة

جمال عبدالناصر.. 55 عامًا من الخلود(5)

هل كان عبدالناصر ديكتاتورًا؟!

هل سخّر موارد الدولة لتحقيق مكاسب شخصية؟

من يتأمل سيرة جمال عبدالناصر يدرك أنه كان من طينة الرجال الذين لا تلوّثهم الدنيا، ولا يغريهم زخرفها. ويمكن الجزم بثقة تامة منذ البداية بأنه لم تُسجَّل واقعة فساد واحدة يمكن نسبتها إلى جمال عبدالناصر؛ لسبب بسيط هو أن عبدالناصر كان زاهدًا في كل مظاهر الدنيا تقريبًا، في مأكله، ومشربه، وملبسه، وسكنه، وفي مال يكتنزه، بل حتى في المجد الذي كان بين يديه. لم يعرف الترف طريقًا إلى حياته، ولم يُغوِه البذخ ولا المظاهر. كان يأكل ما يأكله أغلب الناس من أبناء شعبه، ويلبس ما يلبسه أبناء الطبقة الوسطى مما صُنع في مصر، ويسكن في ذات البيت المتواضع الذي عاش فيه قبل أن يصبح رئيسًا، ويرفض رفضًا قاطعًا أن يعيش في قصر.
يقول محمد حسنين هيكل: "كان مسلكه الشخصي طوال حياته فوق الشبهات، وليس في استطاعة أحد مسّ مسلكية عبدالناصر، لأنه كان قاسيًا على نفسه حرصًا على هذه المسلكية". ويضيف: "إن غرفة نوم جمال عبدالناصر أقل شأنًا بكثير من غرفة نوم أيٍّ مِنّا. وعندما بطّنوا له سريره بالجلد اعتبر أن ذلك نوع من أنواع الترف! إن جمال عبدالناصر لم يعرف لذة الحياة، ولا لذة السفر، ولا لذة الحياة العائلية، حتى مجده لم يستمتع به.. كان طول الوقت يعمل... لم يكن للرجل -وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه في مصر أو في العالم العربي أو في الدنيا الواسعة كلها- شهوة في طعام أو شراب. وكان أفخر الطعام عنده على حد تعبيره لحمًا وأرزًا وخضارًا.. وماذا يأكل الناس غير ذلك؟! كان تساؤله ذلك مشوبًا بالدهشة والاستغراب حينما كنت أقول له في بعض المرات مداعبًا: إن الدنيا تقدمت، ومع التقدم تطور المطبخ، ولم يعد الطعام وسيلة للشبع، ولكنه أصبح فنًا من فنون الحياة.. وكان ذلك في رأيه تجديفًا يكاد يقترب من الكفر بنعمة الله... وفي إحدى الزيارات إلى الاتحاد السوفياتي كانت مائدة العشاء الذي اقامته القيادة السوفياتية أنواع من الأطعمة الفاخرة بالإضافة إلى الكافيار. ولاحظت كيف أن عبدالناصر كان يأكل بشكل رمزي. وبعدما عدنا إلى بيت الضيافة دخل أحد المرافقين وبيده صينية وضعت عليها أطباق الجبنة والجرجير والطماطم التي أعدت سلفًا قبل مغادرة القاهرة. وتعشى عبدالناصر في غرفته ونام".
ويرى الكاتب البريطاني ويلتون واين في كتابه "قصة البحث عن كرامة"، "أن أحدًا من الناس لم يستطع أن يزعم أنه قد أثرى على حساب الأمة. وزيارة إلى منزل عبدالناصر تظهر لكل امرئ كيف احتفظ الرجل بحياته البسيطة... فعبدالناصر وأفراد أسرته لا يزالون يسكنون... في ذلك المنزل الذي كانوا يسكنون فيه يوم كان ضابطًا بسيطًا في الجيش".
ويروي الصحافي الأمريكي سيروس سالزبرجر في كتابه "آخر العمالقة"، أنه عندما رأى عبدالناصر لأول مرة عام 1955 أعطاه شعورًا بوفرة النشاط، والشجاعة، والتواضع، وعدم الاهتمام بالثروة.
لم يسعَ إلى مال، ولم يفتح حسابًا في بنكٍ أجنبي، لأنه كان على يقين بأن الحاكم الذي يملك يُصبح عبدًا لما يملك، ويفقد قدرته في التعبير عن الفقراء.
يقول هيكل: "كان من المعايير الصارمة التي ألزم بها نفسه ألا يملك أرضًا أو عقارًا.. ولم يكن ضد الملكية كمبدأ، ولكنه كان ضد تجاوز الحدود فيها، في مجتمع أغلبيته الساحقة من المعدمين. وكان رأيه أن الحاكم في مصر لا يجوز له أن يتملك، لأنه بذلك يفقد قدرته على التعبير عن مصالح الأغلبية، ويجد نفسه -مهما حسنت نواياه- يعبّر عن مصالح الأقلية. لا اعتراض لديه على تملك الناس، إلا أن هذا الاعتراض كان قائمًا بالنسبة لشخصه. وكان يرى أن التّملك لا يتماشى ووضعه كمسؤول عن التحول الاجتماعي في مصر. يضاف إلى ذلك أنه كان يرى أن التملك لا حدود له، وأنه كلما تملك الشخص شعر برغبته الاستزادة في التملك".
وكتب الصحافيان والسياسيان السوفييتيان أيغور بيلاييف ويفغيني بريماكوف: "إنه لم يكن لديه حسابات جارية في البنوك الأجنبية، وكان أسلوب حياته متواضعًا إلى أقصى الدرجات، وبقي على حاله، رب أسره لا يعلق الغبار بثوبه!".
وينقل الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين عن د. علي الجريتلي: "كان عندي رئيس اتحاد المصارف السويسرية، المشهورة بحساباتها السرية، وقال: لقد أرهقتنا المخابرات الأمريكية والإسرائيلية بحثًا وتنقيبًا عن حساب سري لعبدالناصر في بنك سويسري فلم تجد، وكانت لا تصدق أنه لا يملك أي حساب خاص في الخارج".
وجاء في تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية بعدما أضناها البحث في البنوك السويسرية عن حساب سري لعبدالناصر: "الرجل أكثر كبرياء من أن يفسد!".. The man is too proud to be corrupted.
وهل فكّر عبدالناصر في ثروة يؤمِّن بها حياة أولاده من بعده؟ يجيب هيكل: "كان ذلك أمرًا لم يخطر على بال عبدالناصر.. بل العكس، ذلك أنه كان يعتقد اعتقادًا جازمًا لم يخالجه فيه شك أن أسرته لن تحتاج شيئًا من بعده. وأذكر -والله شاهد- مرة تحدثنا فيه عن أولاده ومستقبلهم، وكان قوله "إنني أعرف الناس في بلدنا، وأعرف طيبة قلوبهم، وأعرف أنهم من بعدي سوف يضعون أولادي في عيونهم".
حاول الرئيس الأمريكي عن طريق المخابرات المركزية الأمريكية شراءه بالمال كما فعل مع غيره من القادة الذين استجابوا لذلك، لكن الأمر كان مختلفًا مع عبدالناصر. يقول هيكل: "تصوّر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور أن النظام المصري بعد الثورة على استعداد لمسايرة السياسة الأمريكية، بادر فوضع تحت تصرف سلطة الدولة العليا في مصر ثلاثة ملايين دولار لكي تصرف سرًا في أي وجه تراه هذه السلطة ضروريا لأمنها. وأحدث تقديم هذا المبلغ لسلطة الدولة في مصر وقتها دهشة واكتنفته ظروف مثيرة، ثم تقرر توجيه المبلغ إلى بناء برج القاهرة وشبكة مواصلات مع العالم فيه. وأصبح برج القاهرة بعد هذه القصة رمزًا عاليًا لسخافة السياسات الخفية للولايات المتحدة الأمريكية".
كانت لدى عبدالناصر اعتمادات ضخمة بوصفه رئيس الجمهورية كغيره من الرؤساء، لم يجرؤ أحد الادعاء بأنه سخّر فلسًا واحدًا منها لمصلحته الشخصية أو لمصلحة أسرته.
يقول هيكل: "كان [عبدالناصر] نموذجيًا في كل شيء، ومثاليًا في كل شيء. رافضًا التملك، غير قابل للفساد الشخصي، سعيدًا بأن مجتمعًا جديدًا بدأ في مصر".
عاش عبدالناصر كل حياته عفيفًا، قانعًا بحياة بسيطة هي حياة أغلب أبناء شعبه من الطبقة الوسطى، عزيز النفس، طاهر اليد، يقظ الضمير، لا يشوب مسلكه الشخصي أي شائبة. وعندما رحل كان كل ما تركه من حطام الدنيا قرابة أربعة آلاف جنيه مصري، وذِكرًا طيبًا يسكن وجدان الملايين.
فهل يمكن أن يكون مثل هذا القائد دكتاتورًا؟!
............
التالي: قراءة في ملامح شخصيته الإنسانية!

الكلمات الدلالية