7 أكتوبر بين البطولة والفخ
"كانت إسرائيل مهددة وجوديًا قبل 7 أكتوبر... أما الآن فنحن نصنع شرقًا أوسط جديدًا".
"مقتل حسن نصر الله مثل منعطفًا تاريخيًا جديدًا في تاريخ إسرائيل".
تصريحان لـ"نتن ياهو" عقب ما سماها الضربة الافتتاحية لإيران.
منذ الساعات الأولى لهجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، بدا المشهد كأنه نقطة تحوّل تاريخية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنه مع مرور الوقت انقلب إلى مأساة استراتيجية بكل المقاييس. فالمعطيات التي تراكمت عبر التحقيقات، والتسريبات الاستخبارية، وتحليلات مراكز الدراسات العسكرية والأمنية الغربية، تكشف، شيئًا فشيئًا، أن حماس وقعت في فخ إسرائيلي محكم، صُمم مسبقًا ليكون الشرارة التي تُشرعن مشروع تصفية القضية الفلسطينية، وضرب محور المقاومة، وتنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الجديد".

قبل الهجوم بأسابيع، لم تكن إسرائيل تجهل ما يُحضّر في غزة. بل كانت تعرف بتفاصيل دقيقة للغاية، تؤكدها وثائق وتسريبات وتحقيقات لاحقة. وثيقة "جدار أريحا" التي كشفت عنها صحيفة "نيويورك تايمز" (30 نوفمبر 2023)، تتكون من 40 صفحة، تضمنت خطة الهجوم التي نُفذت لاحقًا حرفيًا: اقتحام جماعي، دراجات نارية، طيران شراعي، احتجاز رهائن، واختراق حدود غزة. كما أن وثيقة فرقة غزة بتاريخ 19 سبتمبر 2023، حذّرت صراحة من اجتياح محتمل واحتجاز ما بين 200 و250 رهينة. ولم تكن تحذيرات الشاباك في يوليو 2023 أقل وضوحًا، إذ حذرت من تصدع الداخل الإسرائيلي بما يمنح خصوم إسرائيل فرصة للهجوم.
ومع كل هذه المعطيات، لم تتخذ القيادة الإسرائيلية أي إجراءات وقائية حقيقية. بل تم تجاهل التحذيرات، أو بالأدق تم توظيفها في خطة أعقد: السماح للهجوم بالوقوع، واستثماره كذريعة ذهبية لحرب شاملة تُعيد هندسة الجغرافيا السياسية والعسكرية للمنطقة. وكما أشار تحليل منشور في "War on the Rocks" في أكتوبر 2024: العدو لم يُفاجَأ بل انتظر اللحظة. لم تكن ضربة في خاصرته، بل في صدر غزة نفسها.
خضع نتنياهو لاحقًا لاستجوابات في الكنيست، وتسريبات عدة أظهرت علمًا مسبقًا على أعلى مستوى سياسي. تقارير إعلامية نُشرت في 2024 تحدّثت عن اتصالات غير مباشرة بين شخصيات في حماس وشخصيات إسرائيلية، ما يثير أسئلة مقلقة عن وجود شكل من "التنسيق غير المباشر"، أو على الأقل استغلال المعلومات التي كانت بحوزة إسرائيل منذ البداية. بعض التحليلات تذهب إلى أن نتنياهو رأى في "طوفان الأقصى" الفرصة السياسية الذهبية للهروب من أزمته الداخلية، والتي كانت تهدد نظامه بالانهيار بفعل موجات احتجاجات غير مسبوقة ضد خططه القضائية. وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة نتنياهو على وشك الانهيار، منحها الهجوم فرصة تاريخية لإعادة تعريف إسرائيل كضحية، وشحن الجبهة الداخلية، وحشد الغرب خلفها، كما جاء في Sentinel Security Review، يناير 2024.
بمنطق العمل المقاوم، كانت خطة حماس غير مسبوقة في الجرأة والاختراق، ولكنها افتقدت البعد الاستراتيجي في توقيتها وتداعياتها. إذ رغم نجاحها التكتيكي في البداية، فإن قرار أسر مئات الرهائن والاحتفاظ بهم طيلة أشهر، حوّل الورقة إلى أداة مميتة بيد إسرائيل. ما كان يمكن أن يُستثمر في مفاوضات، تحوّل إلى مبرر لشن أوسع عملية عسكرية وأمنية وسياسية ضد غزة ومحور المقاومة. كل يوم تأخرت فيه حماس عن تقديم مبادرة إنسانية، كان يمنح إسرائيل المزيد من الشرعية الدولية للاستمرار في إبادة غزة. وكما ورد في مقال "نداء من أعماق الجرح"، في يوليو 2025، فإن الرهائن، بدل أن يكونوا ورقة تفاوضية، صاروا الذريعة الوحيدة التي يحتاجها العدو ليمضي حتى النهاية في مشروع الإبادة.
بعد عامين، لم تعد نتائج الهجوم محل شك أو اختلاف في التقييم: 183,000 شهيد وجريح ومفقود، أكثر من 300,000 وحدة سكنية مدمّرة، نصف مليون مشرد داخل غزة، واختفاء شبه كامل للبنية التحتية المدنية والطبية والتعليمية. لكن الأخطر من الكارثة الإنسانية كان التمدد الإسرائيلي الإقليمي غير المسبوق. فقد تم اغتيال قادة كبار في حزب الله، وعلى رأسهم حسن نصر الله، مع استمرار الضربات المنتظمة على جنوب لبنان. في إيران، نفذت إسرائيل اختراقات سيبرانية شلّت الدفاعات الجوية، وأدت إلى اغتيال عشرة علماء نوويين في منشآت حساسة، وفقًا لتقارير استخبارية غربية. كما دخلت طائرات F-35I الإسرائيلية عمق إيران في غارات وصفت بأنها "نزهة تقنية"، بسبب تعطيل أنظمة الإنذار المبكر والدفاعات الجوية، مما أثار تساؤلات عن مدى عمق الاختراق الإسرائيلي.
كل ذلك ترافق مع عودة السلطة الفلسطينية تحت عباءة الإدارة الإسرائيلية -العربية المشتركة، وتحييد غزة عن أي فعل عسكري، وتحجيم دور فصائل المقاومة إلى الحد الأدنى. بهذا المعنى، فإن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي بشّر به المحافظون الجدد قبل عقدين، وجد لحظة ولادته في طوفان الأقصى. فبينما كانت غزة تُباد، كانت واشنطن وتل أبيب تعملان بصمت لإعادة تعريف المحور: تحييد إيران دون حرب شاملة، إنهاك حزب الله، وإخراج غزة من المعادلة.
لم تُهزم حماس وحدها. هُزم النموذج. هُزمت المقاومة حين فقدت الاتصال بعقلها الاستراتيجي. وهذا ليس اتهامًا، بل توصيف لواقع أنتجته مغامرة محسوبة بشكل خاطئ. فالمقاومة ليست بطولة فردية ولا قرارًا منعزلًا. وكل عملية كبرى تحتاج إلى تنسيق مع الحلفاء، ودراسة لحظة العدو الداخلية، ووعي بموازين القوة الإعلامية والسياسية، وخطة لما بعد الضربة، لا الاكتفاء بـ"الحدث". حماس، في 7 أكتوبر، تصرفت كأنها تقود معركة تحرير، بينما العدو يمتلك بنك أهداف جاهزًا، وغرف عمليات منسقة مع حلفائه الغربيين، وينتظر لحظة الصدمة لينقض بكل ما يملك.
ما جرى في 7 أكتوبر ليس نصرًا تاريخيًا، بل لحظة تاريخية حُوّلت بذكاء استخباري إلى فخ كارثي. الهجوم بدأ كتحرك للمقاومة، لكنه انتهى كمفتاح لإعادة رسم خريطة الصراع وفق الرؤية الصهيونية. والسؤال الآن: هل كانت "حماس" أداة غير واعية في تنفيذ مشروع إسرائيل؟ وهل كان بإمكانها، لو تصرفت بحكمة، أن تحرم العدو من الذريعة، وتنقذ القطاع من الإبادة؟ وهل المقاومة اليوم قادرة على إعادة تعريف دورها، أو ستُكرّر الأخطاء ذاتها بأسماء جديدة؟
حان وقت إعادة النظر... لأن ما بعد 7 أكتوبر لن يشبه ما قبله. وإذا لم تُقرأ اللحظة بعين النقد العميق لا الشعارات، فإن القادم أسوأ... ليس لغزة وحدها، بل لفلسطين والمنطقة بأسرها.
--------------------
* صورة مرفقة تبين غزة ما قبل وما بعد 7 اكتوبر
المصادر والإشارات المعتمدة:
- تحقيق "نيويورك تايمز"، 30 نوفمبر 2023.
- هيئة البثّ العامّة "كان"، ديسمبر 2023.
- War on the Rocks، أكتوبر 2024.
- Sentinel Security Review ،يناير 2024.
- مقالات "نداء من أعماق الجرح" و"بين الصفعة والخديعة الكبرى"، يوليو 2025.
- فيديو على اليوتيوب عن جلسة استجواب لبنيامين نتنياهو في الكنيست وتسريبات استخبارية منشورة خلال 2024-2025.