صنعاء 19C امطار خفيفة

التحول إلى الحروب الرخيصة

يعيش اليمن منذ سنوات في منطقة رمادية ومربكة من اللاسلم واللاحرب. فبينما تتوقف الجبهات العسكرية عند حدود معينة، تتواصل حروب أخرى موازية، تعيد تعريف الصراع وتمنحه أشكالًا جديدة. هذا النوع من الحروب لا تُطلق فيها رصاصة، لكنها تُحدث ما لا تفعله القذائف: تجفيف الثقة، وتفكيك المؤسسات، وإفقار المجتمع. إنها المثال الأوضح على ما يمكن تسميته "الحروب الرخيصة" تلك التي تُدار بأدوات بسيطة وتتمتع بقدرة على إلحاق الضرر دون تحمّل كلفة المواجهة المباشرة.

منذ نقل البنك المركزي إلى عدن في نهاية عام 2016، اشتعلت حرب اقتصادية صامتة، لكنها شديدة القسوة. تتابعت فصولها بتصعيد متدرج: ففي ديسمبر 2019 منعت سلطات صنعاء تداول الطبعات الجديدة من العملة الصادرة عن بنك عدن، وفي نهاية 2022 بلغت المواجهة ذروتها بمنع تصدير النفط نتيجة تهديد الحوثيين للشركات ولموانئ التصدير. ثم جاء عام 2023 ليشهد حظر استقبال الغاز المنتج في مناطق الحكومة واستبداله بالمستورد، وأقدمت سلطات صنعاء مطلع 2024 على سكّ عملات معدنية جديدة بدعوى معالجة أزمة السيولة. وتُوّج هذا المسار في يوليو 2025 بإعلان البنك المركزي في عدن استكمال نقل المنظومة المصرفية إلى الجنوب، بينما ردّ البنك في صنعاء بطباعة أوراق نقدية جديدة. هكذا تحولت مؤسسات الدولة الاقتصادية وقرارات مؤسساتها المنقسمة إلى أسلحة في حرب باردة داخلية، تُستنزف فيها موارد البلاد ويُعمَّق الانقسام المالي حتى صارت العملة الوطنية نفسها رمزًا للانقسام لا للوحدة.
بموازاة الحرب الاقتصادية، تتصاعد منذ عام 2015 حرب سيبرانية بدأت حينها خجولة ومحدودة التأثير، لكنها ما لبثت أن تحولت منذ 2024 إلى ساحة مواجهة جديدة. فبين يوليو وأغسطس 2025 فقط، شهدت مناطق سيطرة جماعة أنصار الله أربع هجمات إلكترونية واسعة النطاق استهدفت الاتصالات والإنترنت والقطاع المصرفي، وتسببت في تعطيل الخدمات وإرباك البنية التحتية المدنية. اتخذت هذه الهجمات شكل حملات متتابعة ومترابطة، تجاوزت المواقع الرسمية إلى المؤسسات الحيوية، واستخدمت تقنيات متقدمة مثل هجمات تعطيل الخدمة (DDoS)، مصحوبة بحملات دعائية وتسريبات إعلامية مكثفة بدت مصممة لزيادة الأثر النفسي والسياسي.
تُظهر هذه الحروب المتزامنة تحولًا إلى الحروب الرخيصة والممكنة، وهو تحوّل يعكس تغيّرًا لافتًا في بنية الصراع. فبدل أن تُستخدم القوة العسكرية لحسم المواجهة، باتت الحرب الاقتصادية والسيبرانية وسيلتين لتجاوز الجمود الميداني وممارسة الضغط بأقل تكلفة ممكنة. ومع ذلك، لا يمكن فصل هذا التحول عن الإطار الأوسع للصراعات المعاصرة؛ فمازال الحاصل يعكس اتجاهًا عالميًا أوسع نحو الحروب الهجينة التي تمزج بين الأدوات العسكرية والرقمية والإعلامية والاقتصادية. لقد أصبح الفضاء السيبراني ميدانًا موازيًا للقتال لا يقل أهمية عن ميادين الحرب التقليدية، بل يتيح فرصًا أوسع للتأثير من دون تكلفة بشرية أو مادية مباشرة.
تتمتع الحرب السيبرانية بخصوصية تجعلها أكثر خطورة ومرشحة للاستمرار والتفاقم، إذ توفر هامش إنكار واسعًا يسمح بإحداث أضرار كبيرة دون تحمل تكاليف مهمة. إن أحد أهم مظاهر خطورة هذا النوع من الحروب يكمن في أنها تُعيد تعريف مفهوم الردع والسيادة، إذ يمكن أن تخاض من قبل الدول والجماعات غير الرسمية أو حتى من قبل الأفراد والهواة. وهو ما قد يجعل قرار الحرب والسلم ولو جزئيًا بيد الفاعلين غير الرسميين. وبهذا المعنى، بمكن لحروب كهذه أن تخلق ديناميتها الخاصة غير المنضبطة التي يصعب التحكم فيها وتوجيها. قد تؤدي عمليات صغيرة الحجم إلى تصعيد واسع، خاصة في بيئة متفجرة كالشرق الأوسط.
وفي اليمن تحديدًا، تُحوّل الفوضى المستمرة البلاد إلى بؤرة جذب للمتطرفين الإلكترونيين المنفلتين. ويصعب تجاهل أو استبعاد احتمال وقوف جماعات منفلتة لا علاقة لها بأطراف الصراع، أو أفراد، وراء الهجمات الأخيرة على صنعاء. فالجماعة التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجمات الأخيرة لا تُعرف هويتها على وجه الدقة. ومع هامش الإنكار الذي توفره، وصعوبة الإسناد والمسؤولية يصبح الردع تحديًا. وهذا النوع من الهجمات يمكن أن يدفع باتجاه تأزيم المشهد وزيادة تعقيداته. فهي تعمل على تآكل الخط الفاصل بين حالتي الحرب والسلم، وتزيد من احتمالات الانزلاق إلى تصعيد أوسع أو تصعيد غير محسوب.
إنه بالفعل عصر الحروب الرخيصة والممكنة. حروب تُخاض بلا جيوش جرارة ولا بيانات نصر ولا اقتحام حدود، لكنها قادرة على إعادة تشكيل الخرائط السياسية والاجتماعية ببطءٍ وعمقٍ لا يقلان خطورة عن الحروب التقليدية.

الكلمات الدلالية