جمال عبد الناصر.. 55 عاماً من الخلود (4)
هل كان عبدالناصر ديكتاتورًا؟!
شرعية عبدالناصر
يُقصد بالشرعية في المفاهيم الدستورية والسياسية، مدى القبول الذي تتمتع به السلطة السياسية في المجتمع، أي ذلك الرضا الجمعي عنها. فالأصل أن السلطة هي أداة ينشئها المجتمع لإدارة شؤونه وتحقيق مصالحه. ومن ثم لا تعد السلطة شرعية إلا إذا جاءت بإرادة المجتمع، وظلّت تمارس وظائفها وفق هذه الإرادة ومعبِّرة عنها.
وبناءً على هذا الفهم لمعنى الشرعية، يمكن القول -دون تردد- إنه لا يوجد أدنى شك في شرعية عبدالناصر ونظامه. فقد وصل إلى سدة الرئاسة في 23 يونيو 1956 عبر الانتخاب. واستمر في الحكم بإرادة شعبية واضحة واستثنائية لا جدال فيها، سواء على صعيد نتائج الانتخابات والاستفتاءات، أو في الواقع المشهود، من تأييد شعبي ساحق لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر في ما نعلم.
كان خصومه يدركون تمامًا أن شعبيته الطاغية تحول دون إسقاطه عبر انقلاب أو تأليب الجماهير ضده، فأيقنوا أن السبيل الوحيد للنيل منه هو هزيمة عسكرية مدوّية تهزّ صورته وتزعزع نظامه وتفتح الطريق للتخلص منه. وقد عبّر السفير الأمريكي "بادو"، كما يروي سامي شرف، عن ذلك بقوله: "لقد أدركنا استحالة قيام انقلاب يجعل منه سوكارنو آخر.. فناصر لن يسقط بتذمر أو شكوى، ولن يتقوض نظامه وينهار إلا بضربة عنيفة مدوية". ولهذا كان التخطيط لعدوان يونيو 1967.
لكن ما أعقب النكسة كان حدثًا فريدًا في التاريخ السياسي، خرجت الجماهير بالملايين في 9 و10 يونيو، ترفض تنحي عبدالناصر، وتتمسك به رغم الهزيمة، مؤكِّدة بما لا يدع أي مجال للشك الثقة الاستثنائية التي وضعها الشعب في قائده، وكون الأمر لا يعدو أن يكون مجرد "كبوة فارس"، وأن القائد ذاته هو القادر على تحويل الهزيمة إلى نصر من جديد.
ومن السُّخف القول عن تلك التظاهرات التلقائية -التي خرجت بصورة عفوية بمجرد سماعها خطاب الرئيس عبدالناصر بالتنحي عن السلطة- إنها كانت مدبرة. يقول فتحي رضوان: "راح بعض الحشّاشين يصفون هذين اليومين بأنهما من صناعة الاتحاد الاشتراكي... ولكن الحقيقة هي أن الوجدان الشعبي المصري كان قد امتلأ بجمال عبدالناصر... لذلك لم يصدق الشعب أن له حياة بغير عبدالناصر".
لقد أثار هذا المشهد الاستثنائي دهشة العالم أجمع. فعبّر المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي بإكبار عن ذلك الموقف، بقوله: "إن أمة رفضت الهزيمة برفضها الاستسلام لأهداف العدوان وفي مقدمتها الإطاحة بجمال عبدالناصر، لهي أمة قادرة على دحر العدوان، والصمود أمام الغزوات"، وقال الفيلسوف والسياسي الفرنسي أندريه مالرو: "ليست المسألة النصر العسكري أو الهزيمة العسكرية.. المسألة هي إرادة الأمة وتقديرها للبطل حين تجد نفسها فيه.. لقد وجدت أمتكم نفسها في عبدالناصر بقدر ما وجدت فرنسا نفسها في نابليون... وهذا هو ما يبقى، أما غيره فتكنسه الأيام".
ولم تقتصر مظاهر الوفاء لعبدالناصر على مصر وحدها، بل امتدت إلى كل أرجاء الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج. وكانت علامته البارزة ذلك الاستقبال الأسطوري في الخرطوم عند حضوره مؤتمر القمة العربية بعد حوالي شهرين من النكسة. وهو ما حيّر الإعلام الغربي، ودفع مجلة "التايم" الأمريكية أن تضع صورته على غلافها متسائلة: كيف يُستقبل "المهزوم" على هذا النحو المهيب؟
وعند غياب عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970، كانت تلك الجنازة غير المسبوقة أو الملحوقة حتى الآن، هي الاستفتاء الأخير على شعبيته وشرعيته التي رافقته حتى مواراة جثمانه الطاهر الثرى.
لقد حظي عبدالناصر بشعبية هائلة يعز نظيرها، تجاوزت حدود مصر إلى كل أرجاء الوطن العربي، بل وأبعد من ذلك، حيث أصبح أيقونة للنضال والأمل للشعوب التوّاقة إلى الحرية والكرامة والنهضة في العالم أجمع.
يقول فتحي رضوان: "لم يكن في وسع أي عربي حتى رعاة الإبل في الصحراء، ألا يستمع إلى خطاباته، وينتشي بما يسمع حتى ولو لم يفهم أحياناً بعض ما يسمعه!". ويقول الكاتب البريطاني ويلتون واين: "في نظر معظم الوطنيين العرب خارج مصر، كان عبدالناصر أشبه بزعيم شعبي مناضل اتخذت شهرته شكل أسطورة حلوة تُلهم الجماهير وتوحي إليهم بأسمى المعاني. لقد وجد القوميون العرب في عبدالناصر إمامًا لهم، يهتدون بهديه، ويؤمنون بكل كلمة يقولها. لقد أصبح عبدالناصر كما عبّر أحد سائقي التاكسي السعودي: الرجل النجم، لقد أصبحوا يتطلعون إليه ويسيرون على خطاه". أما السفير الأمريكي في القاهرة هنري بايرود فيؤكد أنه "لو جرت انتخابات في سورية أو الأردن أو العراق لفاز ناصر فيها بأغلبية كاسحة".
وصارت مواقف عبدالناصر معيارًا لصوابية القرار السياسي في نظر الشعب العربي كله، يقول الكاتب والبروفيسور اللبناني أسعد أبو خليل: "أذكر في طفولتي كيف كان من حولي يقول: إن هذا السياسي سيئ، لأنه وقف ضد عبدالناصر".
بعد كل هذا، هل يمكن الشك في شرعية عبدالناصر، إن مجرد الشك إهانة كبرى لكل جماهير الشعب العربي من المحيط إلى الخليج التي منحته ذلك الحب والثقة الأسطوريين.
ثم هل يمكن أن نصف مثل هذا الزعيم بالدكتاتور؟!
......................
التالي: هل سخّر عبدالناصر موارد الدولة لتحقيق مكاسب شخصية؟