صنعاء 19C امطار خفيفة

المبرراتي: مثقف القطيع النموذجي

في كل أزمة عربية، يظهر نوع من المثقفين يؤدي دورًا بالغ الخطورة في صناعة الفشل عبر تجميل الأخطاء. إنهم "المبرراتيون"؛ مثقفو القطيع الذين يحرّفون الحقائق لتنسجم مع الاتجاه السائد وما يرغب فيه الجمهور والقادة الفاشلون. هؤلاء ليسوا مثقفين حقيقيين، بل أدوات دعائية مهمتها تبرير القرارات الفاشلة ومنحها غطاءً فكريًا وأخلاقيًا زائفًا، مقابل ما ينالونه من مكاسب مادية ومعنوية.

في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان صدام حسين يعلن بين الحين والآخر وقف التعاون مع مفتشي الأمم المتحدة، كانت قناة الجزيرة -"قناة القطيع"- تستضيف محللين ومفكرين مزعومين يصفون قراراته بأنها "شجاعة تحفظ كرامة الأمة وحقوقها". وما إن يتراجع صدام عن قراراته تحت ضغط التهديد بالضربات الجوية، حتى يظهر الأشخاص أنفسهم ليشيدوا بحكمته وحنكته السياسية التي جنّبت العراق الكوارث. ولم يسألهم أحد كيف يمكن أن تكون القرارات المتناقضة صائبة في الوقت ذاته.
والمشهد ذاته تكرر، لكن بصورة أوسع وأكثر فجاجة، بعد أحداث السابع من أكتوبر. فعندما كانت حركة حماس ترفض العروض التي قُدّمت لها منذ بداية الحرب -وهي عروض أفضل من خطة ترامب التي قبلتها لاحقًا- كان "المبرراتيون" يشيدون بمواقفها، ويصفون كل من دعاها إلى قبول تلك العروض بالخيانة والتطبيع والعمالة، وغيرها من الاتهامات الجاهزة. لكن بعد أن قبلت حماس بخطة ترامب، وبعد أن قُتل عشرات الآلاف ودُمّر معظم قطاع غزة، انبرى الكثير من أولئك ليشيدوا بالقرار، معتبرين إياه "حكمة سياسية" و"انحناءة تكتيكية أمام العاصفة"، و"خطوة تهدف إلى حقن دماء الغزيين والحفاظ على ما تبقى من ممتلكاتهم".
المبرراتيون هم نتاج مجتمعات تسودها الأفكار المغلقة وثقافة القطيع. فوجودهم ضروري لاستدامة هذه الأفكار وهذه الثقافة، والسلطات التي تنتج عنها. ولهذا تحظى وظيفة التبرير بالرعاية والتمكين رسميًا وشعبيًا، وتصبح مهنة مربحة لعديمي الأخلاق والمسؤولية، الذين يمنحون ألقابًا فخمة وشهرة واسعة ومكافآت مالية سخية.
المثقف المبرراتي لا يمتلك مقياسًا أخلاقيًا ولا بوصلة فكرية. كل ما يملكه قدرة لغوية على تزيين الباطل وتحويل الخطأ إلى فضيلة. وهو في هذه الحالة أخطر من صانع القرار نفسه، لأنه يمنحه شرعية فكرية وأخلاقية تقيه من المحاسبة. وهكذا يتشكل تحالف خبيث بين سلطة ترتكب الخطايا، ومثقف يبررها، وجمهور يصفّق، لتتكرر المأساة بلا نهاية.
وما يميز هذا النوع من المثقفين هو تناقض مواقفهم تجاه السلوك نفسه؛ فهم يهاجمون الحكومة الأردنية والمصرية لالتزامهما باتفاقيات السلام مع إسرائيل، ويعتبرون ذلك خيانة واستسلامًا، بينما يرون التزام حماس وحزب الله بالهدن مع إسرائيل حكمة وذكاءً سياسيًا. فالمعيار عندهم ليس الفعل نفسه، بل الجهة التي قامت به.
إن أخطر ما يفعله "المبرراتي" ليس تزييف الوقائع فحسب، بل تخدير الوعي العام وإفراغ القيم من مضمونها، حتى تختلط الحدود بين الحق والباطل عبر البلاغة والشعارات الرنانة. وبذلك تفقد الشعوب قدرتها على التمييز بين ما ينفعها وما يضرها، وتتحول إلى قطيع يصفّق لمن يسوقه نحو الكوارث. والأسوأ من ذلك، أن هذا القطيع يعادي كل مثقف حر يمتلك حسًا أخلاقيًا سليمًا، حين يحاول تنبيهه إلى الخطايا التي تُرتكب بحقه، والكوارث التي يسوقهم إليها سياسيون عديمو الكفاءة والمسؤولية.

الكلمات الدلالية