في عقل قائد الثورة: قراءة بفكر علي عبد المغني ونص الخطاب - الوثيقة (الأخيرة)

في هذه الحلقة الخامسة والأخيرة، يواصل حسن شكري تحليله المتفرد، منتقلاً من سياق الخطاب إلى مضمونه، ليكشف لنا عن أصالة الفكر السياسي والنبوغ المبكر للشهيد علي عبد المغني، ويصل إلى إلى جوهر الكتاب، حيث يقدم الكامل للوثيقة-الخطاب التي ألقاها الشهيد علي عبد المغني، والتي شكلت الأساس في تحليله.
القسم الثاني
إذا كان مثال البدر، قد جسد النموذج الأعلى في الدولة، على رواج الخطاب الناصري، بأفكاره القومية التحررية، وبلسان "أعلى مستوى في الدولة، بعد الإمام أحمد"، الشخص الثاني وولي عهده، فإن المثال الآخر، الآتي من القاعدة الشعبية، وإن كان لا يجسد الخطاب الناصري، إلا أنه وبالرغم من ذلك، كان الأكثر برهاناً على النجاح غير المباشر للسياسة المصرية، ونهج قيادتها القومي، وتأثيره الحيوي على الأوساط اليمنية الجديدة التكوين الاجتماعي، والجديدة التوجه أكثر من أي شيء آخر، إنما هو كلمة الطالب (علي عبد المغني) الخطابية في احتفال وزارة (المعارف) بصنعاء، بميدان (شرارة) يوم الثلاثاء 24/12/1957م بعد "النصر" القومي الأول لمصر في معركة "بورسعيد" على العدوان الثلاثي.
1- أصالة الفكر السياسي مع النبوغ المبكر
إن تحليل مضمون كلمة (علي عبد المغني) يكشف بوضوح فائق أنها مثلت غرسة النهج السياسي القومي الوليد والجديد، في اليمن، ولا سيما في شطره الشمالي، حيث مملكة الإمام، الأكثر تخلفاً عن بقية اليمن وهو نهج الثورة العربية القومية الجديدة، بأهدافها التحررية والوحدوية، وآمالها التقدمية الأبعد مدى، وكيف أن عناصر النشأة السياسية الجديدة في اليمن الشمالي خصوصاً، قد كانت وبرغم أي ملاحظات على نهج مصر في التهاون- تتكثف وتتطور وتستجمع مكوناتها في أجواء هذا التقارب السياسي الذي كانت قيادة عبد الناصر تراهن عليه لتوليد تطور سياسي جديد، من داخل رحم النظام السياسي القديم والمهترئ لدولة الإمامة العتيقة.
إلا أن ذلك لم يكن يعني أن الطالب (علي عبد المغني) قد صار ناصرياً لا بالمعنى الحزبي، ولا حتى بمعنى تطابقه الفكري - السياسي مع نهج القيادة المصرية، القومي. إن تحليل مضمون كلمته، مقارناً بتحليل مضمون الخطاب السياسي للدولة المصرية، كما يتجلى ويرد في كلمات وخطابات القائم بالأعمال المصري في صنعاء، ليكشف تماماً، ويدل بالضرورة على فارق المساحة السياسية الواضحة التي تفصل الشاب والطالب (علي عبد المغني) عن سياسة الدولة الناصرية، كما سيبدو لطالبنا، في مواقفها الخطابية والزائدة عن الحد، لنظام الإمامة والدولة المتوكلية، وحيث يبدو طالبنا من خلال كلمته أنه لا يجمعه بها جامع.
يبدو (علي عبد المغني) في كلمته صاحب رؤية سياسية، وأفكار سياسية أصيلة في نسيجها ومبناها، وهي على ذلك تفوق بوضوح عمر صاحبها كتلميذ في نهاية المدرسة الثانوية، أو حتى لو كان قد أنهاها بالفعل قبل صيف عام 1957م، الذي ألقى كلمته عند نهايته، وهو فرض بعيد جداً.
هذا التقدير للتفوق الفكري- السياسي للكلمة عن عمر صاحبها التلميذ في نهاية المرحلة الثانوية، يفتح الباب لافتراض آخر، هو أن يكون قد كتبها له غيره، في صورة أحد الناشطين سياسياً في حقل العمل السياسي الوطني السري، واكتفى طالبنا من ثم بإلقائها، خصوصاً وأن طالبنا أشار في مبدأ كلمته أنها تعبر عن المدرسة طلاباً "وهيئة" أي هيئة تدريس المدرسة، ليقترب افتراضنا لدور أحد الناشطين من بعض المدرسين في هذه الحالة في كتابة الكلمة.
غير أن مثل هذا الفرض يتغافل عن الواقعية البسيطة جداً، في نماذج الاستثناءات التاريخية الفارقة التي تظهر في مراحل التحولات التاريخية الكبرى، في صورة نماذج الأفراد النوابغ في حقول الإبداعات الإنسانية المختلفة، والتي يبرز النابغون فيها وقد بز كل منهم أقرانه في العمر والإبداع والقيادة، وهنا فإن ما يشهد به زملاء (علي عبد المغني) - الذين عايشوه في إطار تنظيم "الضباط الأحرار" - من تفوقه السياسي يجعلنا ميالين كل الميل لترجيح أن الكلمة التي ألقاها في الحفل المذكور بصنعاء بتاريخ 24/12/1957م، هي فعلاً من بنات أفكاره هو، ومن توليداته الفكرية - السياسية بصورة أصيلة.
وإن بعض مواطن الضعف الفكري - على ندرتها - في كلمته، إنما تعيد انتساب الكلمة بحق إلى طالبنا، كقوله عن قوة مصر القيادية بأنها "زعيمة الشرق الإسلامي كله" باعثاً فكرة سياسية قديمة في ظهورها عند مطلع القرن العشرين، وهي الفكرة السابقة لظهور البديل القومي العربي وتسيّده للسياسة في الثلاثينيات، أو كذهابه في موضع ثان في وصف خطة القوى المستعمرة على مصر للإطاحة بعبد الناصر وحكومته، واستبدالها بحكومة عميلة يسيرها الاستعمار "لأغراضه الخسيسة وشهواته النازية"، فتظهر غواية التلميح الأدبي له في الوقوع في لفظ قليل الوضوح هو "النازية" عند جمهور غالبيته من العوام، وذلك بالرغم من دقة التعبير المنطقي للكلمة في وصف شهوات المستعمرين التي تظهر بصورة فاضحة، يدل عليها فعل "الفساد" الجنسي الحيواني، هذا عدا الالتباس الذي تولده كلمة (النازية) - من (نزى) - مع معنى الحركة السياسية (النازية)؛ حزب الزعيم الألماني هتلر، إن بعض مواطن الضعف، إنما تدل كما أسلفنا على أصالة انتساب أفكار الكلمة لطالبنا، وأنها لم تحظ حتى بجهد المراجعة من قبل شخص يتقدم عليه في الوعي والخبرة السياسية.
2- تأثير الأحرار الثانوي والتأثير الحاسم للبعث
إن ما تدل عليه الكلمة الخطابية من التميز المبكر في التطور السياسي لـ (علي عبد المغني)، سابقاً به سنه، هو بالذات ما يشهد له ولأصالة الفكر السياسي الجديد عنده، بأنه لم يكن من ثم نبتاً شيطانياً، ولا تخلقت أفكاره عند طالبنا في فراغ، بل بالتأكيد أنها شهادة سياسية مقطوع بها كدليل تاريخي، على حدوث تأثيرات عميقة خضع لها طالبنا مبكراً، قبل ذلك التاريخ بزمن معقول، من قبل شخصية سياسية ناشطة كبيرة وربما أكثر من شخصية واحدة مارست عليه قبل ذلك، وخلال فترة زمنية ليست بالقصيرة، دور التأثير والتوجيه الفكري - السياسي وأن ذلك قد حقق مفعوله الثوري الإيجابي عليه بصورة كبيرة، وأحدث في شخصيته تحولاً نوعياً، وحيث إن تفاعل ذلك مع النبوغ المبكر لشخصية طالبنا (علي عبد المغني)، وذكائه السياسي المتفرد، سينعكس في تفاعل سريع وحاسم، لا يلبث أن يزهر بدوره، في صورة تبلور تكوين مبكر لشخصية سياسية مستقلة التكوين وريادية في الدور والمسؤولية القيادية، أبكر بكثير من معدل التطور العمري العادي عند أقرانه العمريين.
في تقصي التأثيرات التي أحاطت بطالبنا، فإن أول ما نفترضه يتمثل بدور الأحرار اليمنيين الذين من المشهود وجود عدد منهم في صنعاء، منذ إطلاق سراحهم الجماعي عام 1954م، بتأثير دعوتهم لولاية عهد البدر، التي جعلت الإمام أحمد في مواجهة مطامح أكثر من واحد من إخوانه لولاية العهد والإمامة. فالافتراض الأول إذن هو لتأثير برد من جهة الأحرار، حيث سنوات دراسة طالبنا في الثانوية العامة التي تبدأ مع عام إطلاق الأحرار من معتقلهم الجماعي في "حجة" وتنتهي بصيف عام 1957م المفترض أن ينهي فيه دراسة الثانوية، إلا أن مثل هذا الفرض ينبغي أن يؤخذ بحذر، فبينما ينبغي أن ينظر لمثله على أنه ذو قابلية للتراخي لصالح تأثير فكري وسياسي لبعض ذوي التوجهات الفكرية والسياسية الجديدة على الساحة اليمنية، لاسيما الشمالية منها، والمتمثلة تحديداً بالنهج القومي الجديد الذي لم يكن مميزاً، باعتباره النهج السائد في فكر وسياسة حركة الأحرار. ووفقاً لهذا الفرض وترجيحه يكون التأثير الفكري- السياسي الذي مارس أثره وتوجيهه على الطالب علي عبد المغني قبل تاريخ 24/12/1957م، هو لواحد أو أكثر من الناشطين السياسيين المنتمين إلى النواة الأولى للبعث أو للتيار الناصري. غير أن قراءة النص بمزيد من التمعن، تضعنا على مقولة إن انتصار القومية العربية هو "انتصار الروح على المادة"، فتضع بذلك يدنا على مقولة فكرية حاسمة، من المقولات الفكرية الأثيرة والمميزة لميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، والعائدة إلى سنوات عقد الأربعينيات من القرن العشرين، فيقرّبنا هذا الاكتشاف أكثر من ذي قبل، من كون طالبنا (علي عبد المغني) كان قد خضع قبل ذلك لفترة زمنية معقولة لمؤثرات فكرية-سياسية آتية من جهة بعثية ما.
إن تراخي فرضية تأثير سياسي- فكري لبعض شخصيات الأحرار، لصالح تأثيرات من جهة بعثية ما، هو كما سبق وأشرنا، فرض ينبغي أن يؤخذ بحذر. فعند ذلك التاريخ كان بمقدورنا أن نلاحظ قدراً من التلاقي المعين بين البعث الذي كان قد أخذ يمد تأثيراته إلى اليمن قبل ذلك لسنوات فتوفد القيادة القومية للبعث إلى اليمن مجموعة من الأطباء السوريين واللبنانيين، إلا أن أهم من أوفدته كانا شخصين: الطبيب السوري؛ فضل الله زاقوت، الذي عمل في أكثر من مدينة يمنية منذ أوائل الخمسينيات، واستقر في اليمن الشمالي وربط مصيره ومستقبله باليمنيين، وأنشأ علاقات صداقة مع كثير من اليمنيين وبالذات الأحرار، وساهم في كفاحهم بصورة إيجابية، حتى أنه هو الذي أنشأ مطبعة الجماهير بعدن التي اعتقد كثيرون أنها ملك الأستاذ نعمان، وقد تفانى مع الأحرار كواحد منهم، حتى لقد اضطهد وأبعد من السلطات الإمامية عام 1959م، وما عاد إلى اليمن الشمالي إلا بعد ثورة 26 سبتمبر.
في مدينة (حجة) التي كان قد بلغها مبكراً عند أول اقتحامه من عدن أرض اليمن الشمالية، كان الدكتور فضل الله يعرض النهج الديمقراطي لحزب البعث ونظريته فتأثر بعضهم به وبأفكار البعث ومنهم محمد نعمان الذي انتقل إلى عدن في 8/8/1959م، والذي صار معجباً ومتحمساً لأفكار البعث. [علي محمد عبده: صفحات من تاريخ حركة الأحرار اليمنيين، صنعاء (الطبعة الأولى: 2006)، ج2 (ص104 ـ 106)].
مع انصرام العام 1957م، كان د. فضل الله كما يظهر من وصف جريدة (النصر) في تعز، قد حقق شعبية عظيمة، يمكن أن نعدها معادلة لنجاحه في ميدان النشاط السياسي والحزبي، فتذكر جريدة (النصر) - تعز بعددها 173 وتاريخ 14/2/1958م، ص(6): "وصل خلال الأسبوع الماضي عن طريق الجو الدكتور فضل الله زاقوت أحد أطباء المستشفى الملكي بتعز بعد أن قضى أيام الإجازة في ربوع وطنه سوريا بين ذويه وأقاربه وإخوانه وأصدقائه. والدكتور فضل الله من خيرة الأطباء الماهرين، وله مكانة عظيمة في قلوب الأوساط الشعبية لما يقوم به من خدمة إنسانية". "هذا وقد باشر الدكتور أعماله بالمستشفى الملكي نتمنى له التوفيق والنجاح في أداء خدمته الإنسانية كما يجب، ومرحباً به كأخ في العروبة والدم والإسلام".
أما الموفد الثاني من القيادة القومية للبعث إلى اليمن، فهو المهندس الفلسطيني عصام النوباني الذي كان بدوره قد اقتحم من عدن اليمن الشمالية فبلغ مدينة حجة، حيث تكوّنت بينه وبين بعض اليمنيين فيها علاقة صداقة، إلا أنه استقر بعد ذلك في عدن في العام 1956م، عاملاً مع شركة (س.س.س.) للمقاولات بعدن الصغرى.
كان النوباني قيادياً في حزب البعث في سوريا، ومكلفاً حزبياً لمسح كل القوى والتيارات الفكرية والشبابية والحزبية في عدن، وقد شمل مسحه الاتحاد اليمني، الذي أنشأ مع بعض شبابه علاقات ودية، ومنهم محمد نعمان، علي محمد عبده، عبد الحليم أحمد عبد الله وآخرين، ويجتمع معهم في لقاء أسبوعي بمنزله في عدن الصغرى (البريقة) كل أحد لتبادل الأحاديث السياسية وأخبار سوريا بانتظام من خلال عصام وجريدة (البعث) لسان حال حزب البعث في سوريا التي كانت تأتي إليه بانتظام من دمشق. [علي محمد عبده: مرجع سابق، صـ (106)].
وصف محمد نعمان المهندس الفلسطيني عصام النوباني بأنه كان: "من خيرة الشباب رصانة وأناة وتفكيراً حسناً". [مذكرات محمد نعمان، متابعة شفوية، تحقيق قسم التاريخ الشفهي - دراسات الشرق الأوسط، الجامعة الأمريكية - بيروت، 1970، طبعة مسودة، صـ "6"].
بدأ ذلك النشاط الحزبي - الفكري - السياسي يحقق نتائجه بالظهور على تلك المجموعة وبالذات على محمد نعمان. إن الدور البارز في تأثير البعث في اليمن يعود إلى ما عرف به البعث في سوريا سياسياً من ملامح ديمقراطية على صعيد برنامجه السياسي وأفكاره السياسية أولاً، ثم كونه أظهر قدرته في تطبيق ذلك البرنامج وأفكاره ونقلها إلى الممارسة ثانياً، ثم أخيراً لفوزه بعدد من المقاعد النيابية عبر العمل الانتخابي العام وتوسيعه قاعدته الشعبية بالعمل النقابي والجماهيري. [علي محمد عبده: مرجع سابق، صـ(106-107)].
فيكشف لنا ذلك أن السبب الحقيقي والأهم لتحقيق التحول السياسي الملموس في اليمن، مع بداية النصف الثاني من عقد الخمسينات لصالح النشأة الجديدة لحزب البعث في اليمن، إنما استمد مصدره الصحيح بظهور حزب البعث في سوريا في ذلك الوقت كصاحب فكر ديمقراطي، وبرنامج سياسي ديمقراطي، وممارسة ديمقراطية ذات مصداقية، فانعكس ذلك في اليمن لصالح تأسيس وجود حزبي للبعث. كما استمد له مصدراً جديداً من الجهة المقابلة المتمثلة بقيادة عبد الناصر، الذي كان قبل إصدار الدستور المصري يناير 1956، يتقدم على شعبية البعث، ويستأثر هو بالشعبية العربية، فلما جعل الدستور الجديد الجمهورية رئاسية يجمع فيها رئيس الجمهورية بين منصب الرئاسة ومنصب رئيس الوزراء، هز ذلك صورة عبد الناصر كديمقراطي في مواجهة محمد نجيب الذي سبق أن صور في الإعلام المناصر لعبد الناصر، بأنه كان هو السلطوي أو الديكتاتور الذي يطمح أن يضم منصب رئاسة الوزارة إلى منصبه كرئيس للجمهورية. وبعد أن كان عبد الناصر هو الرمز والمعيار والبطل كما هو عند محمد نعمان، اهتز إيمانه به، وأصابه الشك، حتى لقد قال محمد نعمان حين صدر دستور يناير 1956م: "لن يترك هذا الرجل الحكم إلا كما تركه موسوليني، لن يتركه إلا إلى القبر أو إلى المشنقة، أما بالاختيار فلن يتركه".
بل كان تحول الموقف من عبد الناصر، قد لوحظ حدوثه عند غير محمد نعمان، في الوسط السياسي المحيط، حيث "بدأ يتعرض للنقد، وبدأت أذني تستمع لأي نقد يأتي من أي جهة" مما يعني أن التحول عن عبد الناصر في الوسط السياسي، بعد دستور يناير 1956م، كان هو الأسبق والأقوى، والذي انتقل إلى محمد نعمان وصار يؤثر عليه، ويبعث الشك في نفسه وهو بعد ما زال في (عدن) التي غادرها في 26/7/1956م، إلى القاهرة للمرة الأولى فوجدها قد فقدت بريقها عنده. [مذكرات محمد نعمان: صـ8، 9، 10].
ثم أخذ ذلك التحول من موقف عبد الناصر، يتحول بدوره إلى الجهة المقابلة، يقول محمد نعمان: "ما فتح الباب في نفسي وفكري لبديل آخر: كان هو البعث". [مذكرات محمد نعمان، صـ116].
كان معنى ذلك، أن بداية العام 1956 حملت معها انعطافة سياسية هامة لصالح نشاط حزب البعث في اليمن، بصدور الدستور المصري في يناير 1956 الذي سيحدث منذ ذلك التاريخ وعلى مدى فترة عامين فأكثر تمتد إلى أوائل العام 1958، اختلالاً في الوزن القيمي الكبير الذي كان لقيادة عبد الناصر، والذي كانت تتفوق به على حزب البعث فيما قبل يناير 1956. أما بعد هذا التاريخ فستأخذ مكانة عبد الناصر القيادية في التراجع في مقابل ارتفاع الوزن القيمي للبعث، والذي بدأ بالتقدم عند بعض الأوساط الثقافية والفئات والجماعات ذات الوعي السياسي الأكثر تقدماً، على حساب مكانة عبد الناصر. إذن، فإن هذه الفترة التي صار فيها حزب البعث يحرز تقدماً في شعبيته والتي لاحظنا امتدادها، من ثم إلى أوائل العام 1958، هي الفترة التي ستشهد عند نهايتها تاريخ إلقاء طالبنا (علي عبد المغني) كلمته الخطابية عن المدرسة الثانوية بصنعاء في 24/12/1957، فهذه الفترة، تبدو إذن فترة التأثير الأنسب من قبل نواة البعث الحزبية في اليمن الشمالي، وداخل عاصمتها صنعاء، لممارسة التأثير الفكري - السياسي، ومن ثم التأثير الحزبي المبكر على طالبنا علي عبد المغني.
وبموازاة ذلك، يلاحظ على زعامة الأحرار، أنها قد بدأت تفتش هي الأخرى عن قيادة حزب البعث، في سوريا، في تحول سياسي آخر له أهميته، هو أن تتباحث سياسياً مع قيادة البعث، وهو ما بدأ بالزيارة التي قام بها لدمشق أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، ومعه محمد نعمان وشقيقه عبد الرحمن نعمان في أغسطس عام 1956. (مذكرات محمد نعمان، ص116). يشرح محمد نعمان كيف تم في سوريا الاتصال بزعماء الأحزاب لشرح وجهة نظر الأحرار اليمنيين "وفي تلك الأثناء سعينا للبحث عن زعماء الحزب، حزب البعث مثلهم مثل بقية الأحزاب الأخرى". ويستطرد محمد نعمان موضحاً أن ميشيل عفلق كان في المستشفى لإجراء عملية جراحية، وكيف أن وفد الأحرار لما زاره فإن مشهده "حببه إلى النفس بشكل قوي رغم أنه لم يدر غير حديث بسيط، ولكن الانطباعات في الذهن قائمة من السابق، ثم كان وضعه وخاصة وهو على فراش المرض أيضاً، كان له أثر في النفس من التعلق والانجذاب، خاصة وأننا وجدنا في شباب حزب البعث في مقر الحزب، أكثر الناس تلهفاً لسماع أنباء اليمن وأحداث اليمن... فوجدت في هؤلاء القوم أكثر تحمساً واهتماماً بموضوع اليمن من أي فريق آخر". [مذكرات محمد نعمان: ص 146].
فهنا كان التحول في الموقف السياسي من عبد الناصر، هو نفسه الذي يظهر عند زعامة الأحرار، حيث أخذت هذه بتحويل تعاطفها وعلاقتها وروابطها السياسية التي كانت قبل ذلك وثيقة بقيادة مصر إلى حزب البعث وقيادته. غير أن هذا التحول عند زعامة الأحرار، لم يكن مرده موقف زعامة الأحرار من صدور دستور يناير 1956 غير الديمقراطي، بل كان سببه الرئيس تبدل موقف القيادة المصرية من نضال حركة الأحرار وسحب الدعم المصري الذي سبق أن وفرته القيادة المصرية لقيادة الأحرار في النصف الثاني من العام 1955م بالتحرك الإعلامي - السياسي الذي سمحت به بإصدار "صوت اليمن" والخطابة ضد النظام الإمامي - الملكي من إذاعة "صوت العرب". وبدلاً من ذلك، رسمت القيادة المصرية نهجاً سياسياً عربياً للقيادة المصرية، قام على قاعدة تكوين جبهة سياسية عربية من مصر والأنظمة العربية الملكية، وفي مقدمتها النظام الإمامي في اليمن الشمالي، بهدف محاربة سياسة الأحلاف الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية فنتج عن ذلك، بالمقابل، شعور قيادة الأحرار بالخذلان، وأخذت تعبر عن الامتعاض والنقد، لما اعتبرته نجاحاً للنظام الإمامي - الملكي في احتواء الموقف القومي التحرري لمصر.
ويعيدنا كل ذلك، إلى تصور مفاده: أن تأثيراً سياسياً فكرياً معبراً عن البعث هو ما غدونا الآن نرجحه أكثر من السابق، بأنه قد أحاط بطالبنا (علي عبد المغني)، في الفترة السابقة لتاريخ كلمته الخطابية في 24/12/1957. غير أن مثل هذا التأثير البعثي، لم يكن - كما يبدو - كله بعثياً صرفاً، بل كما بدا من تحليلنا السابق، متداخلاً ومتشابكاً مع تأثير وسط حركة الأحرار، التي كانت تتبرم من السياسة المصرية وتقاربها مع النظام الإمامي - الملكي، وتنتقدها وتعرب بالمقابل عن الاسترواح للنهج القومي لحزب البعث، وتمدحه، بل إن بعض أوساط الأحرار من شباب "الاتحاد اليمني" قد أخذت تخطو نحو البعث خطوات أكثر من ذلك بالاعتقاد السياسي به وبنهجه وترديد أفكاره، وهو ما كان بدوره عنصر استقواء زائد لتأثير البعث الفكري - السياسي على الطالب (علي عبد المغني) قبيل وعند تاريخ كلمته الخطابية.
ومن الجهة المقابلة، جهة الخطاب السياسي الناصري المفترض تأثيره على طالبنا، فإن الخطاب السياسي الوحيد المعبر عن ذلك، والذي سيكون هو الذي سيعتمده طالبنا، باعتباره يمثل الخطاب الناصري ويجسد موقف القيادة المصرية تجاه اليمن ونظامها الإمامي- الملكي، الذي يتطلع طالبنا الشاب المتوثب حميةً وحماسة لتغييره، إنما هو خطاب البعثة الدبلوماسية المصرية في صنعاء، والمتمثل بحديث وخطاب رئيس البعثة آنذاك (نبيه الدبروطي) القائم بالأعمال؛ فإن ما درج عليه من ترويج خطاب سياسي يهدف إلى بث أعلى درجات الثقة بين النظام السياسي القومي- التحرري في مصر، والنظام الإمامي-الملكي، المغرق في رجعيته، في اليمن الشمالي وهو ما سبق أن كشفنا عنه في موضع سابق، تحت عنوان فرعي، بأن (الدبروطي) قد وقع في حقيقة الأمر في خطاب سياسي غث شديد الامتداح للنظام الإمامي- الملكي المكروه شعبياً. فلا بد أن خطاب (الدبروطي) كان يمثل عندئذ مروحة طاردة لطالبنا (علي عبد المغني) عن الانجذاب السياسي للنهج السياسي لقيادة مصر السياسية تجاه نظام الإمامة السياسي، بل لا بد أن موقف القيادة المصرية هذا كان منفراً لطالبنا وأمثاله... وهو ما نعتقد أنه يوفر لنا الدليل السياسي الجديد والإضافي على أن (علي عبد المغني) كما سيكون أبعد نسبياً بمسافة أكبر عن الولاء السياسي لموقف القيادة السياسية المصرية، فإن ذلك هو ما يجعله بالمقابل أكثر قرباً وانجذاباً في ولائه السياسي لنواة البعث.
إن مثل هذه الخلاصة/النتيجة، تظهر أكثر وضوحاً عند مقارنة مضامين الخطاب السياسي للقائم بالأعمال المصري المفرط في امتداح النظام الإمامي- الملكي مقارناً بالكلمة الخطابية لـ(علي عبد المغني)، والتي تظهر مضامين خطابها السياسي على النقيض التام من خطاب القائم بالأعمال المصري. فهنا نرى في كلمة طالبنا خلواً تاماً بصورة لافتة للنظر لأي كلمة امتداح لنظام الإمامة - الملكي، والإمام أحمد ولولي عهده.
ويقابل ذلك أن كلمة طالبنا تبلور رؤية سياسية للنظام السياسي القومي التحرري في مصر، يبرز فيها عند طالبنا موقف سياسي شديد الحفاوة ومفعم بالتأييد لنظام عبد الناصر والتعويل عليه كركيزة لكفاح العرب القومي في التحرر من الاستعمار والاستبداد ومن أجل الوحدة والتقدم.
إلا أنك لن تجد من الجهة الأخرى في كلمة طالبنا أي فكرة أو عبارة تنم ولو من بعيد جداً عن تجاوبه أو موافقته على نهج التصالح السياسي، والمهادنة السياسية من قبل النظام التحرري في مصر، كما في خطابات وكلمات القائم بالأعمال المصري مع النظام الإمامي في اليمن، وهو الأمر الذي يعني بأن عليك أن تستنتج من طرفي موقف طالبنا (علي عبد المغني) أنه يقبل من نظام عبد الناصر في مصر، أن يكون موقفه السياسي من اليمن - وبخاصة من النظام الإمامي - محصوراً فقط في موقف محدد؛ هو أن تكون مصر قاعدة قومية لنصرة الطلائع السياسية الجديدة والثورية في اليمن في كفاحها من أجل التحول الديمقراطي، والإطاحة بنظام الإمامة. وأن طالبنا لا يوافق من ثم على نهج تهادن القيادة السياسية المصرية مع نظام الإمامة... وهو ما سينكشف بوضوح زائد، حين نعود إليه ثانية، في كلمة (علي عبد المغني) عند بلوغها الخاتمة.
3- التكوين القيادي، في البناء الأسلوبي واللغوي مع وضوح الأفكار السياسية وانتظامها
يقدم لنا البناء الأسلوبي واللغوي المتبع في الكلمة، من (علي عبد المغني) شخصية مميزة. يمكننا أن نلاحظ بوضوح كاف قيام كل فقرة من فقرات الكلمة الخطابية على مجموعة من الجمل الصغيرة والقصيرة جداً، التي يكاد أن يكون كل منها متساوياً في الطول، أو بالأحرى في القصر، مع كونها متتابعة واحدة إثر أخرى، بحيث تبدو في مجموعها الذي سلكت به داخل إطار كل فقرة، كما لو كانت قد نضدت تنضيداً. وكما قد نلحظ فيها جمالية خاصة من حسن الترتيب فإنها مع ذلك قد وفقت في الابتعاد عن الافتعال أو التصنع الإنشائي. إن مثل هذه الخاصية المميزة جداً من الناحية الأسلوبية- اللغوية، تكشف عندنا عن شخصية مبكرة التكوين القيادي، ويقوم تكوينها المذكور على بعد واضح جداً من الترتيب والتنظيم لجوانب حياتها، ولوضوح تسلسل الأهداف وترابطها. وهذا الملمح المستخلص من البناء الأسلوبي واللغوي لشخصية متكونة قيادياً وحسنة الترتيب والتنظيم، يجد تسانده من شخصية خطه كما تظهر في وثائقه الخطية التي وصلتنا، (راجع الملحق) ذات الخط الجميل المسبوك من كلمات جميلة شديدة الوضوح والاستقامة والموحدة المقاس.
ثم وبالعودة إلى الوثيقة فإن ما هو أكثر وضوحاً في الفكرة العامة لكل فقرة من فقرات الكلمة ومجموعة الأفكار الفرعية الصغيرة المتتابعة داخل إطار كل فقرة، هو ما يكشف عنه أكثر من ذي قبل عن شخصية تملك مبكراً جداً عند هذا التاريخ 24/12/1957م، قدراً عالياً من العزم والتصميم على بلوغ الهدف، تفصح عنه الكلمة بمزيد من الوضوح عند أول فقرة من الكلمة، بل ومنذ أول جملة تبدأ بها الفقرة الأولى، والتي يقوى ما تنطق به بصوت جهوري من عزم وتصميم بتلاحق الجمل القصيرة التالية لها. وقوة ذلك العزم والتصميم هو ما يصدمك بشدة، وهي تقرع سمعك بوجه خاص بابتدائها وافتتاحها للكلمة بجملة القسم؛ ذلك الأسلوب المميز جداً في افتتاح بعض السور القرآنية ومفتتحاً كلمته هكذا: "باسم الله، وباسم الحق الذي لا يقهر، والعزم الذي لا يفل، والإيمان الذي لا ينهزم، وباسم الحرية التي ترويها الدماء...".
فيبرز لنا صاحبها الطالب (علي عبد المغني) شخصية تملك منذ البدء بصرامة شديدة أهدافها السياسية المتلاحقة والمترابطة، ويعلن صاحبها عن قوة إرادة لا تراجع معها، ولا تململ أو تذبذب، بأنه قد عقد العزم كل العزم على المضي حتى النهاية في الكفاح من أجل تنفيذها، وبأن الثمن يعلن طالبنا من الجهة الأخرى أنه ضخم جداً ولا تراجع في التصميم على دفعه.
بل إنه حين ينتقل بعد ذلك إلى القول: "وباسم المدرسة الثانوية كلها هيئة وطلاباً أتقدم وأتشرف بهذه الوقفة المشرفة كي أساهم الشعب العربي المنجور احتفالاته الباهرة..."، سيدهشنا بإعلانه على رؤوس الأشهاد، وبصراحة منقطعة النظير، عن أن المدرسة هنا قد غدت كتلة متراصة ومنظمة من الأساتذة والطلاب التي تصطف من خلفه ومن خلف الأفكار والأهداف السياسية التي تعلنها كلمته، فتبدو المدرسة بهيئتها وتلاميذها عندئذٍ كياناً سياسياً منظماً بتوجه جديد، يكشف هويته ويستمد نهجه من سياق مساهمته لـ "الشعب العربي المنجور احتفالاته الباهرة".
تتم ولادة النهج السياسي الوليد النشأة والتكوين في كلمة طالبنا من مداميك بناء متلاحقة هي: العروبة والقومية، التحرر والحرية من الاستعمار، وبلوغ السيادة والاستقلال، الإيمان بالقدرة العربية على إحراز النصر على الاستعمار، وعماد ذلك النصر هو اتحاد مكونات القوة العربية، وتضامن عناصر ومكونات الجسد العربي، وأن ذلك ممكن جداً وقابل للتحقق بثقة واطمئنان، إلا أنه هدف سيتم بلوغه بالتأكيد عبر وضوح شديد في رؤية الكلمة بأن إحراز ذلك سيتم بالقطع بالاعتماد التام على مخزون عربي هائل لا ينفد من البطولة العربية التي تستعاد ذكرياتها في ذلك اليوم وتلك المناسبة، ثم أنه يقرن تلك البطولة ويربطها بحلقات مترابطة ومتتابعة من مكونات سلسلة واحدة قوامها: استبسال العرب، تضحياتهم، فدائيتهم، دفاعهم المستميت، فداء بالنفس والنفيس، وأخيراً ذود عن كرامة الوطن الحبيب. إذا كانت تلك الخصال العربية الرائعة التي تبرز كحلقات سلسلة مترابطة وممتدة بامتداد التاريخ العربي في ماضيه، فإنها في الزمن الحاضر الملموس تبرز وقد تماهت بثوبها الجديد، بل واستمدت حللها الجديدة من النصر العربي القومي لمصر على قوى العدوان الثلاثي، وما أظهرته مصر العربية من قوة صمود وما ألحقته بقوى العدوان الإمبراطورية لبريطانيا وفرنسا وذنبها إسرائيل من هزيمة منكرة، وما قدمته مصر من ثم كدليل على الإمكانية العربية التي لا تنكر لإحراز النصر على الأعداء.
4- عنصر الوعي: العامل المحوري في التاريخ والسياسة
ثم إن مثل هذا النصر العربي المبين، والممكن إحرازه بكل ثقة، إنما هو لا يقترن بمجرد كون مصر عربية، بل بالأحرى بالارتباط بكون مصر ذات ثورة فتية، وأنها ذات حكومة ثورية فتية قائمة على القومية العربية المشتعلة، وحيث فشلت المؤامرات السرية المشتركة للقوى الاستعمارية بالقضاء على ثورة مصر الفتية والقومية العربية وذلك بعد أن خابت مساعي القوى الاستعمارية ومؤامراتها لإعادة العملاق العربي المنطلق - والذي يتمثل عند طالبنا بثورة مصر - إلى قمقمه، وحيث فشلت وخابت مؤامرات (إيدن) و(جي موليه) رئيسا وزراء بريطانيا وفرنسا وذيلهما (بن غوريون) رئيس وزراء إسرائيل حيث أراد الاثنان إسقاط جمال عبد الناصر، والضغط على شعب مصر الواعي ليثور على زعيمه المخلص، لغاية استعمارية هي تشكيل جهاز حكومي آخر يشرف عليه الاستعمار. "إلا أن هذه الخطة الاستعمارية قد زادت عبد الناصر حباً وتعلقاً من العرب الأحرار باعتباره الزعيم الوفي والقائد الظافر، حيث استطاع عبد الناصر بإيمانه العميق وبثبات الشعب المصري العريق معه، أن يلحق الهزيمة بالعدوان وبمجرمي الحرب".
وفي هذه الفقرة كما أوردناها عن طالبنا الذي صاغها بفقرتين ثمة ما يلفت نظر الدارس بقوة، إلى استخدام طالبنا لألفاظ وتعابير ذات دلالات متميزة من المفاهيم والوعي الخاص عند طالبنا. فعنده يأتي موقف القيادة المصرية، كما يجسدها عبد الناصر ليس مجرد تعبير عن مصالح الشعب المصري أو إرادته، ذلك أن طالبنا لم يصغ أفكاره على هذا النحو، بل اعتبر موقف القيادة المصرية مستنداً إلى "الشعب الواعي"، فعنصر "الوعي" هو الأثير عند طالبنا في كونه الصفة الخاصة اللصيقة بموقف الشعب المصري، وصفة "الوعي" للشعب المصري، قد أفصح عنها طالبنا في لحظة ممارسة القوتين الاستعماريتين الضغط على "شعب مصر الواعي"، فأراد طالبنا أن يقرر عندئذ فشل الضغط الاستعماري طالما كان الذي يتلقاه ويواجهه شعب واع.
وهذا الشعب الواعي يراه طالبنا ملتفاً حول زعيمه، ولكن هذا الالتفاف حول الزعيم عبد الناصر ليس اعتباطياً ودون أساس، بل لأن هذا الزعيم "مخلص" لشعبه، لذا فإن الشعب الواعي لن يثور على زعيمه المخلص له. وثانية تجد طالبنا يطرق علاقة التفاف العرب حول عبد الناصر، فنجد أساس هذه العلاقة ينكشف في كونه الأساس السليم! فطرفاه من جهة زعيم مخلص، ومن جهة ثانية عرب يتعلقون به لا اعتباطاً ولكن باعتبارهم "أحراراً"، فهو تعلق الأحرار العرب بزعيمهم المخلص لهم، ومرة أخرى يتأكد هذا النوع من العلاقة الواعية بين طرفي العقد الاجتماعي، في كون طالبنا لا يرى في تلك الزعامة لعبد الناصر، إلا لكونه الزعيم "الوفي".
ومعنى الوفاء من قبل الزعيم السياسي هو أن ينجز لشعبه العرب الأحرار برنامجاً محل اتفاق بين الزعيم وشعبه الواعي الحر، من هنا فإن وفاء هذا الزعيم لمفردات البرنامج أو العقد الاجتماعي بين الزعيم وشعبه، إنما يتجلى وفاؤه عندئذ بالضرورة بكون هذا الزعيم محرزاً النجاح التام في إنفاذ البرنامج أو العقد الاجتماعي إلى حيز التطبيق والتنفيذ، ومثل هذا النجاح التام هو ما يعني طالبنا لترجمة الزعيم لوفائه تجاه شعبه بأن يكون بعدئذ وعندئذ قائد شعبه الظافر.
بل إن عنصر "الوعي" في الكلمة، سيرتفع به (علي عبد المغني) إلى مستوى الفكر السياسي الممتاز، ويرتفع "الوعي" بصاحبها إلى مصاف صاحب نهج جديد يتوق إليه في بناء مجتمع جديد. عنصر "الوعي" غدا هنا محورياً في الحركة الجديدة، والنضال المرتقب للأمة العربية، ومن ثم لنضال الشعب اليمني. إن عنصر "الوعي" كعامل محوري في التاريخ، قد نستغرب منه وضوح مركزه في الكلمة حتى يستوثق منها بصورة نوعية. بل إن التمعن في الكلمة الخطابية، يكشف أن عنصر "الوعي" ودوره في الحركة الجديدة هو أوسع من ذلك، ويتغلغل في الكلمة مساحة وأفكاراً، بصورة مضمرة ومتدرجة منذ مبدأ الكلمة التي تقوم في أول فقراتها على الرابطة بين "الإيمان" وهو من أشكال الوعي، ومن أكثرها قوة وبين "الحرية". فإذا بلغ الفقرة الثالثة بلغ في تدرجه ما يسفر عن وضوح علاقة "الوعي" بـ"الثورة" انتصاراً وهزيمة؛
فمحاولات الاستعمار لإخماد الثورة العربية المشتعلة تقترن عند (علي عبد المغني) وترتبط بمحاولات الاستعمار للقضاء على الوعي العربي النامي. أي أننا في فكر (علي عبد المغني) يتحصل لنا هذا الوعي العربي النامي، الذي يمثل من ثم عامل ارتباط للظاهرة المتحصلة الأخرى، ظاهرة الثورة العربية المشتعلة. إن تحصل الظاهرتين وترابطهما هو ما جعل المحاولات الاستعمارية ضد الشعب العربي الصميم من ثم فاشلة؛ وأيضاً في الحالة الأخرى المعاكسة حالة اندحار قوة بريطانيا الاستعمارية، تلاحظ بالمثل ترابط واقتران ذلك الاندحار ومسيرة الاستعمار القهقرى ليس بكونه أي الاستعمار قد صار أسداً عجوزاً شاخ وطعن في السن ومن ثم كونه قد أخذ يفارق الوعي بدخوله طور التخريف، بل وأيضاً كونه قد أخذ يضطرب ويتململ ويتشبث بفلوله المنكسرة المنحلة، ولكن على أي حال، إن ذلك يتم من قبل الاستعمار "من غير وعي ولا عقل". وفي الفقرة الرابعة التي طرح فيها المقولة الأثيرة والقديمة لميشيل عفلق عن "انتصار الروح على المادة" فإنها تمثل عنده ضرباً من الوعي، حيث تتجسد فيها عقيدة الإصرار والصمود في وجه التحديات، أو كما عرف بعد ذلك "الإيمان بالحق والمبدأ على القوى الاستعمارية المهيمنة".
ورغم ما يكشف عنه ذلك من تعقد مفهوم الوعي، حتى ليتعايش عند (علي عبد المغني) اتجاهان رئيسيان من الوعي، فإن ذلك لا يقلل من أن ما طرحه في الفقرتين السادسة والسابعة، قد وضع مفهومه للوعي ودوره في التاريخ والسياسة في الجانب السليم.
4- الخلاصة:
يستخلص طالبنا أن بريطانيا أرادت أن تغطي هزيمتها المبررة التي أذاقها إياها الشعب المصري المناضل، بأن تفتح - أي بريطانيا - جبهة جديدة أخرى، هي هنا في اليمن الجنوبية المحتلة، حين والت عدوانها بصورة متكررة على حدود الشطر الشمالي،
إلا أن تلميذنا يرى بثاقب نظره أن بريطانيا، كما بنينا له، ستصاب لا محالة بهزيمة أخرى جديدة ومتكررة في عدن، هزيمة ستكون أدهى وأمر، ذلك أن بريطانيا كانت قد غدت بنظره - وهي نظرة صائبة تماماً - ذلك الأسد العجوز الذي قد شاخ وطعن في السن، فدخل في طور التخريف والهذيان، فصار يضطرب ويتململ ويتشبث بفلوله الكسيرة المنحلة من غير وعي ولا عقل. وحيث يأتي ذلك بعد أن فتحت مصر الباسلة أبواب الجهاد أمام كل الشعوب المستعمرة، تلك الشعوب التي كانت قد خطت الخطوة الأولى في طريق التحرر، فصار يظهر الآن الزحف المقدس للشعوب العربية في عمان، الجزائر، جنوب الجزيرة، وحيث المذابح الدامية والتضحيات الكثيرة المبذولة من الشعب العربي، والتي ستضع هي بالتحديد نهاية الاستعمار، وحيث ستكون نهاية تلك التضحيات هي القضاء على الاستعمار.
والملاحظة المهمة، أن (علي عبد المغني) وهو يطرق قضية النضال الوطني اليمني ضد الاستعمار البريطاني، وما يتوقعه له من هزيمة جديدة ومنكرة في عدن وما يتوقعه للشعب في جنوب الجزيرة من إحراز الزحف المقدس الذي سيتكلل بوضع نهاية للاستعمار البريطاني، فإننا لن نجد عند (علي عبد المغني) أدنى إشارة لدور الدولة اليمنية المستقلة التي تجسدها الدولة الإمامية - المتوكلية في الكفاح الوطني اليمني في جنوب اليمن المحتل، أي أن علي عبد المغني ينكر ما يزعمه النظام الإمامي من دور وطني في ذلك الكفاح.
فإذا ما بلغ طالبنا هذا الحد في كلمته، وهو بلوغ نهاية الاستعمار لصالح الانتصار العربي الآتي، فإنه ينتقل بعدئذ إلى نهاية كلمته التي بلغها طالبنا ولكن بعد أن كان العرب قد بلغوا هم أيضاً غايتهم الكبرى في هزيمة الاستعمار. ونهاية كلمته تتحدد، أولاً: بتحية طالبنا لشهداء الحرية والدين والواجب. فإذا اجتاز تحيته للشهداء سيبلغ بعدئذ الخطوة الثانية التي تتحدد بها نهاية كلمته، وهي خاتمة الكلمة وهي تحية طالبنا لشخصيتين:
الشخصية الأولى: هي شخصية زعيم مصر؛ الرئيس جمال عبد الناصر.
أما الشخصية الثانية: التي حياها طالبنا، فإنه لم ينص على وصفها بالزعامة، وهي شخصية الإمام أحمد، فأبداً لم يصب الموقف طالبنا بأي خوف أو وجل يكرهه على التنازل. فالأمر وإن بدا ظاهرياً، وكأن طالبنا يوازن بين شخصيتين، فإنما كان يلجأ في جوهر الأمر إلى ما يعرف بحسن التخلص حين ذكر الإمام أحمد كثاني شخصية يحييها، ولكن ليس لمركز أحرزه الإمام أحمد أو استحقه في الزعامة أو القيادة العربية، بل لأمر آخر، هو في جوهره خدمي وثانوي أداه الإمام أحمد خدمة لاحتفال الشعب اليمني بالمناسبة القومية في الانتصار العربي لشعب مصر على العدوان الثلاثي. فالتحية التي استحقها الإمام أحمد إذاً إنما هي كما ذهب طالبنا (علي عبد المغني) إلى القول نصاً: "وأحيي من له الفضل في تهيئة مثل هذه الفرصة السعيدة جلالة مولانا أمير المؤمنين...".
فكشفت لنا هذه النهاية قوة تشبث الطالب (علي عبد المغني) بعدم الإقرار لنظام الإمام أحمد، بأي دور وطني أو قومي أو أي مزاعم نسبها له أنصاره في الداخل أو أملاها خطاب التهادن للدولة المصرية، وعبر قائمها بالأعمال في اليمن، في ادعاء مناصرة قضايا الحرية والكفاح ضد الاستعمار. فإن طالبنا، لم يقر في كلمته الخطابية للنظام الإمامي بشيء من ذلك، وهو ما يعد موقفاً سياسياً مفارقاً من طالبنا مع الخطاب السياسي للنظام السياسي المصري وممثليه الدبلوماسيين في اليمن، كما أن ذلك الموقف السياسي المفارق لطالبنا إنما يؤشر من جديد وأكثر من السابق على أن طالبنا واقع تحت دائرة مؤثرات سياسية - فكرية ليس منها التأثير الناصري. بل هو أقرب أكثر من ذي قبل لوضوح أكثر في تأثير سياسي - فكري بنكهة بعثية ما، وإن ذروة الاستدلال السياسي على ذلك، تتحصل من أننا على مدى انتقال طالبنا عبر كلمته الخطابية من فقرة إلى أخرى ومن أول الكلمة حتى آخر لفظة فيها، لن نتحصل منه على اعتراف أو تصريح في موضع واحد ومضطرب بأن ثورة مصر، تمثل قيادة الثورة العربية كلها، أو أنها قيادة معترف بها، للأمة العربية جمعاء، أو لعموم الحركة القومية العربية، كما لن تجد عند طالبنا على امتداد كلمته كلها اعترافاً أو إقراراً أو تعبيراً يصرح أو ينطوي على الإقرار بأن الزعيم والقائد عبد الناصر هو زعيم وقائد للأمة العربية جمعاء ولحركتها القومية العربية قاطبة، أو للثورة العربية برمتها. إن الاستثناء الوحيد عند طالبنا ورد كما سبق وأشرنا في موضع واحد مضطرب، حين أشار إلى العدوان الوحشي الذي ارتكبه الاستعمار على "أرض مصر العزيزة قلب الأمة العربية المتحررة، وزعيمة الشرق الإسلامي كله". فمصر، إذن في هذا النص المضطرب، ليست قائدة الأمة العربية المتحررة ولا زعيمتها، بل مجرد قلبها، وإن كان للقلب ولا شك مركز متقدم على بقية الأعضاء ودور وظيفي قيادي، ولكنه يظل ليس قيادة بصفة نهائية، فإذا انتقل النص إلى القول بعد ذلك أن مصر "زعيمة الشرق الإسلامي كله"، فإنما يستدعي فكرة قديمة عند بعض السياسيين المصريين عند أوائل القرن العشرين، هي فكرة "الشرق" الغامضة، وما عدا ذلك لن ينطق طالبنا في أي موضع بفكرة قيادة أو زعامة مصر وثورتها وقائدها عبد الناصر للأمة العربية وثورتها العربية وحركتها القومية العربية.
إن مكانة الثورة المصرية كبيرة وعظيمة كثورة عربية عظيمة، وذات مكانة هائلة من الصمود أمام الاستعمار ومؤامراته، وفيما أحرزته من بطولة عربية استحقت موضع الفخر العربي العظيم حيث سجلت أعظم صحائف المجد، إلى غير ذلك، ولكن ثورة مصر تلك من الواضح تماماً تشبث كلمة طالبنا (علي عبد المغني) بأنها ليست لها مكانة الزعامة والقيادة للأمة العربية جمعاء، ولا لثورة عربية عامة، ولا لحركة القومية العربية الشاملة، ولا كذلك بالمثل، هي زعامة أو قيادة جمال عبد الناصر، إلا في موضع واحد في وسط كلمته في قوله "فزاد العرب الأحرار حباً لزعيمهم الوفي وقائدهم الظافر". ففي هذا الاستثناء الوحيد جعل لعبد الناصر زعامته على فريق من العرب هم العرب الأحرار، ومثل هذا الاستثناء ليس وحسب أنه يتيم، بل يتراجع عنه طالبنا بوضوح وبطريقة جعلت قوله الذي ختم به كلمته هو القول الفصل، والحاسم في الحكم الذي حدد به نطاق زعامة عبد الناصر ومداه، وذلك بقول طالبنا: "أحيي زعيم مصر السيد الرئيس جمال عبد الناصر". ومما نضيفه في توضيح موقف طالبنا هذا، أنه لا يدخل فيه ما يمكن أن يعد اجتناباً لغضب الإمام أحمد ونظامه في حالة ما إذا كان طالبنا قد قرر زعامة مصر وثورتها وقائدها عبد الناصر، للأمة العربية وثورتها وحركتها القومية العربية، بل إن الموقف الحاكم لكلمة طالبنا (علي عبد المغني) من هذه المسألة أي مسألة محدودية زعامة ثورة مصر وزعامة قائدها عبد الناصر، إنما هو الانطلاق من موقف حزب البعث على وجه أوضح في إثبات أمر قيادة الأمة العربية وثورتها وحركتها القومية العربية لحزب البعث ذاته الذي كان تنظيماً ممتداً على النطاق القومي العربي، ومن ثم فإن حزب البعث في موقفه الذي يترجح عندنا انعكاسه على كلمة الطالب (علي عبد المغني) إنما هو العامل الجوهري، في حصر نطاق الدور القيادي لثورة مصر وكذلك حصر نطاق زعامة قائدها عبد الناصر في نطاق مصر.
وطالبنا (علي عبد المغني) الذي سينتقل بعيد إلقائه كلمته الخطابية، للالتحاق بالكلية الحربية، ضمن ثلة من خريجي المدرسة الثانوية بصنعاء، لنأمل في عبارة كتاب "أسرار ثورة 26 سبتمبر" المؤلف الجماعي لمجموعة من الضباط الأحرار، كيف تمثل - أي تلك العبارة - الذروة في الشاهد والقياس، على أن (علي عبد المغني)، كان من ضمن من قالت عنهم: "وكان عدد من طلاب المدرسة الثانوية قبل أن يلتحقوا بالكلية الحربية قد اعتنقوا مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي"، وفي الكلية الحربية نقلت البيئة المدرسية والفكرية نفسها دون نقصان إلى الساحة العسكرية حيث تواجدت بها نواة منتمية ومتطلعة إلى العطاء الفكري الجديد، وفي نفس الوقت الذي كان فيه حزب البعث يؤثر على مجموعة من ضباط الكلية الحربية الذين أصبحوا بعد ذلك ضباطاً في الجيش اليمني، كانت حركة القوميين العرب تشق طريقها بين الطلاب وبين بعض المدنيين، إلا أن صلاتها بالجيش في شمال الوطن ظلت مفقودة، كما أن طلائع محدودة من الماركسيين كانت تمارس نشاطها الفكري والثقافي في وسط تلك الظروف الغريبة على مستوى الساحة اليمنية شمالاً وجنوباً. [أسرار ووثائق الثورة اليمنية - إعداد لجنة من تنظيم الضباط الأحرار - مؤسسة العفيف الثقافية - صنعاء - الطبعة الرابعة 2002م، ص 174-175].
الخاتمة: نص الوثيقة
الوثيقة - الخطاب
جريدة (النصر) - تعز - العدد (168) ص (5)
24 جمادى الآخرة سنة 1377هـ. الموافق 16 يناير 1958م.
كلمة الطالب علي عبد المغني
فيما يلي كلمة المدرسة الثانوية التي ألقاها الطالب السيد علي عبد المغني في حفل المعارف بعيد انتصار بورسعيد بصنعاء، هي:
بسم الله، وباسم الحق الذي لا يقهر، والعزم الذي لا يفل، والإيمان الذي لا ينهزم، وباسم الحرية التي ترويها الدماء، وباسم المدرسة الثانوية كلها هيئةً وطلاباً، أتقدم وأتشرف بهذه الوقفة المشرفة، كي أساهم الشعب العربي المتحرر احتفالاته الباهرة؛ ومهرجاناته الرهيبة.
في هذا اليوم التاريخي المجيد الذي أحرزت فيه العروبة أروع آيات البطولة وسجلت فيه أعظم صحائف المجد.
أيها الحاضرون جميعاً، أيها المحتفلون الكرام، في هذا اليوم الأغر يوم العروبة الخالدة تمر أمامنا أحداث الجريمة المنكرة التي ارتكبها الاستعمار الغاشم بعدوانه الوحشي على أرض مصر العزيزة، قلب الأمة العربية المتحررة، وزعيمة الشرق الإسلامي كله، بهذا اليوم تمر أمامنا أحداث العدوان الثلاثي الغادر.. تمر أمامنا بقبحها وفظاعتها.. تمر أمامنا بوحشيتها وقساوتها، لنرى مدى ما يضمره لنا الاستعمار الغربي الآثم من الحقد، وما يريد أن ينزل علينا من الشرور. إننا نستعرض في هذا اليوم التاريخي المجيد، يوم العروبة الخالدة، مؤامرات الاستعمار الدنيئة، ومحاولاته الفاشلة ضد الشعب العربي الصميم، وإخماد الثورة العربية المشتعلة، والقضاء على الوعي العربي النامي.
نعم: نستعرض في هذا اليوم ذكريات البطولة العربية الفذة، والاستبسال العربي النادر؛ نستعرض التضحيات السخية، والدفاع المستميت؛ والفداء بالنفس والنفيس، في سبيل الواجب المقدس، والذود عن كرامة الوطن الحبيب.
أجل، إننا نباهي ونحتفل في هذا اليوم الخالد؛ يوم النصر السعيد؛ يوم العروبة الزاهر، يوم مصر المناضلة، فإنما نحتفل احتفاءً بذكرى انتصار القومية العربية، انتصار الروح على المادة، انتصار الإيمان بالحق والمبدأ على القوى الاستعمارية المهيمنة، إننا نحتفل بهذا العيد القومي الشامل، فإنما نحتفل بيوم الحرية والسيادة، يوم الأمن والطمأنينة والاستقلال، إننا إذ نحتفل بذكرى هذا اليوم التاريخي، فإنما نحتفل لأنا شعرنا بمثل هذا اليوم بأننا أقوياء وبأننا أعزاء، شعرنا بأننا أقوياء وأعزاء بإيماننا، أقوياء وأعزاء باتحادنا وتضامننا وطهارة مبادئنا، ففي مثل هذا اليوم استطاعت مصر العربية وحدها أن تصمد أمام عدوان الإمبراطوريتين الكبيرتين وذنبهما الحقيرة إسرائيل، واستطاعت بإيمانها الراسخ وثباتها القوي أن تدحرهما وتشوه سمعتهما وتنزل بهما أشد هزيمة وأفدح خسارة عرفاها في تاريخهما الطويل.
لقد كانت المؤامرات السرية المشتركة تعني القضاء على مصر، وعلى حكومة ثورة مصر الفتية، وعلى القومية العربية المشتعلة وعلى أبواقها الصارخة على الشرق الأوسط كله، كانت المؤامرة السرية الغادرة، تنوي احتلال قناة السويس من جديد، كانت تعني أن تعيد العملاق العربي في قمقم الفناء وأن تعيد في الصفوف المتراصة سياستها الاستعمارية الذميمة "فرق تسد..".
ولكنهم بخيبتهم فشلوا وخاب ظنهم ووقعوا في الحفرة التي حفروها بأيديهم، لقد كان يريد إيدن وموليه الآثمان إسقاط جمال عبد الناصر، وأرادوا أن ينفذوا الخطة بالضغط على شعب مصر الواعي حتى يثور على زعيمه المخلص ويشكل جهازاً حكومياً جديداً يشرف عليه الاستعمار ويسيره لأغراضه الخسيسة وشهواته النازية، ولكنهم خدموا جمال عبد الناصر من حيث لا يشعرون فزاد العرب الأحرار حباً لزعيمهم الوفي، وقائدهم الظافر. واستطاع جمال عبد الناصر بإيمانه العميق، وثبات الشعب المصري العريق أن يلحق بالعدوان الهزيمة وأن يسقط مجرمي الحرب إيدن وموليه، وسيسقط غداً ذنبهما الثالث بن غوريون وأن يُمحى قريباً اسم شعب إسرائيل المخلق.
لقد فشلت بريطانيا في بورسعيد الباسلة، وشاءت أن تغطي هزيمتها المبررة التي أذاقها إياها شعب مصر المناضل، ففتحت جبهة جديدة هنا في اليمن المحتلة ووالت عدوانها المتكرر على حدودنا الحصينة. مسكينة بريطانيا، إنها لم تكتفِ بهزيمة بورسعيد، إنها تريد أن تعيد الكرة فتصاب بما أصيبت به سابقاً في بورسعيد، مسكين الأسد البريطاني لقد شاخ وتقدمت به السن ودخل في طور التخريف والهذيان فصار يضطرب ويتململ ويتشبث بفلوله الكسيرة المنحلة من غير وعي ولا عقل، لقد أهرمته هزيمة بورسعيد، وإن هزيمة عدن المقبلة ستكون أدهى وأمر، لقد فتحت مصر الباسلة أبواب الجهاد لكل الشعوب المستعمرة، وخطوا الخطوة الأولى في طريق التحرر.
وللأوطان في دم كل حـرٍ *** يدٌ سلفت ودينٌ مستحقُ
وللحرية الحمراء بابٌ *** بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُ
وها هو الزحف المقدس في عمان والجزائر، وفي جنوب الجزيرة في طريقه إلى التحرر، وإن المذابح الدامية والضحايا الكثيرة التي يبذلها الشعب العربي تحديداً لنهاية الاستعمار ستنتهي بالقضاء عليه وعلى مجده الزائل..
أيها الحاضرون: إني لا أستطيع مغادرة هذه المنصة قبل أن أحيي الشهداء، شهداء الحرية وشهداء الدين والواجب، وأحيي زعيم مصر السيد الرئيس جمال عبد الناصر، وأحيي من له الفضل في تهيئة مثل هذه الفرصة السعيدة، جلالة مولانا أمير المؤمنين المفدى أيده الله، حقق الله آمال الجميع، وأخيراً عاشت مصر وعاشت اليمن، وعاشت كل الشعوب العربية الشقيقة، وعاش جمال عبد الناصر، وعاش الإمام أحمد، وليحيى كل عربي غيور، والله أكبر والعزة للعرب.