عندما صادر الإخوان بندقية الحالم
لم تكن مقاومة تعز في أيامها الأولى سوى صرخة جماعية، اندفع فيها كل من بقي في المدينة ولم يشده الرعب إلى الرحيل. لم تبدأ الحكاية بجيش، ولا بكتائب، ولا بقرارات جمهورية، بدأت بمزيج من شاب، وسلفي، ويساري، ومستقل، وضابط سابق يستعيد ذكريات الشرف العسكري في آخر فصوله. كانت لحظة مفتوحة غير مُسقّطة، تنضح بالعفوية وبقليل من الفوضى النبيلة، لحظة يمكن أن تلد وطنًا أو تسلّم البلد لمن يدرك كيف يبيع الحلم ويشتري النفوذ.
بدا المشهد كلوحة غير مكتملة، خطوطها متعرجة لكنها صادقة، والفوضى فيها كانت تحمل براءة تشبه براءة الانفجار الأول للغضب. تلك الفوضى النبيلة كانت تشبه حلمًا: مدينة تدافع عن نفسها، لكن تلك اللحظة لم تدم طويلاً، فكما في كل الحكايات اليمنية، كان لا بد أن يدخل اللاعب الأكثر براعة في استغلال الدماء.
لم يكد الغبار يبرد حتى قفز فوق ظهر الحصان راكب جديد: حزب الإصلاح. لم يركب ليتحمّل، بل ليمسك، ولم يمسك سوى باسم واحد: حمود المخلافي. عبر المخلافي انتقلت قيادة المقاومة من الشعبية الطارئة إلى مشروع حزبي منظّم. بدأت ماكينة الحزب الإعلامية تشتغل بأقصى طاقتها، فجأة صار المخلافي "أسطورة المقاومة" والوجه الوحيد للمدينة، بينما تم طمس كل ملامح الفوضى النبيلة التي صنعت اللحظة الأولى.
هكذا، وبهدوءٍ لزج، انتقل لجام المقاومة إلى يد الحزب، وصار الدم الذي سال في شوارع تعز وقودًا لمشروع إخواني طويل الأمد، وباسم "المقاومة" بدأت مرحلة جديدة: مرحلة خطف الحلم وتحويله إلى مؤسسة حزبية.
فجأة صارت تعز مصنعًا لإنتاج الألوية ككتائب ممهورة بختم الإصلاح؛ خالد فاضل وسمير الحاج يتناوبان على قيادة المحور كأنها لعبة "الكراسي الموسيقية"، والمدرّس عبده فرحان المخلافي الشهير بـ"سالم الدست" يحوّل الطباشير إلى رتب عسكرية، بينما كانت الخيوط تمتد من خيمة علي محسن، الراعي الأبدي للإخوان.
سالم الدست هو قصة بذاتها: المستشار العسكري للمحور، لم يكن في كشوف الجيش بل في كشوف التربية والتعليم، أصبح "الظل" الذي يحكم، الرجل الذي تهمس باسمه جميع القرارات، وكأن المحور برمته صندوق بريدٍ يصله وحده.
الطابور طويل: عبد العزيز المجيدي، الذي كان حتى الأمس القريب شخصية مدنية، اكتشف بين ليلة وضحاها أن لديه أجنحة ليصير قائدًا للواء 170 دفاع جوي. عدنان رزيق، التاجر المتهم بالقاعدة، رجل كُتب له أن يقفز من هامش الاتهام إلى مركز القيادة، صار رئيسًا لعمليات المحور وقائدًا للواء الخامس حرس رئاسي.
صادق سرحان، الذي لم يكن له في تاريخ العسكرية ما يوازي شغفه بالتنظيم، يقود اللواء 22 ميكا، ويزرع أبناءه وأبناء أخته وأصحابه في مفاصل السلطة، بينما يتحكم حاليًا بأركان حرب اللواء وعملياته عناصر متشددة مثل يحيى الريمي وأسامة عبدالملك المعروفين بموالاتهم لتنظيم القاعدة.
عبد الرحمن الشمساني، الذي تبنّاه الإصلاح ولم يتردد في خلط العقيدة القتالية بالبيانات الحزبية، صار على رأس اللواء 17 مشاة، قبل أن يُعيَّن قائدًا للواء 35 مدرّع، الذي اغتيل قائده عدنان الحمادي، وتم إسقاط اللواء بيد مليشيا الحشد الشعبي بمساعدة عبد الملك الأهدل، الذي كان يشغل أركان اللواء 35 مدرع، ليتم مكافأته بتعيينه قائدًا للواء 17 مشاة، بينما يدير اللواء بشكل غير مباشر المدرّس عبده حمود الصغير، المعيَّن رئيسًا لعمليات اللواء.
أما الكوميديا السوداء فتجلّت في اللواء الرابع مشاة جبلي؛ أبو بكر الجبولي، مسؤول إعلامي سابق بفرع التجمع اليمني للإصلاح بمحافظة عدن، يحمل دبلوم إنجليزي، صار قائدًا للواء، يساعده مدرّسان يعملان في حقل التربية والتعليم هما عبده سالم الزريقي وعبده سعيد. لم تعد الحرب علمًا، بل درسًا في جدول حصص الإصلاح.
ولأن المسرحية تحتاج إلى كائن فوضوي يثير الغبار، دخل غزوان المخلافي، ابن أخت صادق سرحان، ليقود مليشيا مراهقين يوزّعون الرعب في الأحياء. أما شرطة تعز نفسها فتحوّلت إلى فرعٍ ملحق باللواء 22 ميكا.
الإعلام كان الجزء الأسهل: ماكينة ضخمة تشهر العار بوجه الخصوم، وتحوّل كل جريمة إلى "ضد مجهول". السجون السرية أدارتها وجوه مثل ضياء الحق الأهدل، فيما امتلأت الزنازين بأمثال أيوب الصالحي وأكرم حميد، وعشرات من النشطاء الذين ظنّوا أن الحرية ليست حكرًا على جماعة بعينها.
النتيجة: لم تعد المعركة مع الحوثي، بل مع الشركاء المزعجين. اللواء 35 مدرع ابتلعه "الحشد الشعبي" الإصلاحي، وكتائب أبي العباس جرى تحييدها، والمدينة غرقت في اغتيالات واختطافات ومقابر جماعية ختمت بشعار: "مجهول"، بينما المعلوم واضح: الإصلاح يمسك باللجام.
في النهاية، الحصان الذي خرج من الأزقة ليقاتل الحوثي وجد نفسه مربوطًا في إسطبل الإخوان، محاطًا بواجهات عسكرية وإدارية وإعلامية، وكلها تُدار من خيمة واحدة. المقاومون الذين حلموا بتحرير مدينتهم صاروا مجرد كومبارس في مسرحية طويلة، البطل الوحيد الذي بقي واقفًا في المشهد هو "الإصلاح"، والحصان لم يعد يركض.