علي عبدالمغني وتحالف الأضداد: كيف أطال "الائتلاف الناصري - المتوكلي" عمر الإمامة؟ (4)

في هذه الحلقة، يواصل حسن شكري في كتابه "علي عبدالمغني 1958"، تحليله للائتلاف الذي جمع بين مصر والنظام الإمامي في اليمن، ويفصّل كيف استثمر كل طرف هذا التقارب لخدمة مصالحه، وكيف رأى فيه الوطنيون الأحرار "خدعة كبرى" على حساب نضال الشعب اليمني.
4- نهج الائتلاف الناصري - المتوكلي لمواجهة سياسة الأحلاف الغربية
مثل الاحتفال الذي ألقى فيه الطالب علي عبد المغني كلمته الخطابية واحداً من سلسلة كبيرة من الاحتفالات والمهرجانات في مدن الشطر الشمالي من اليمن في نفس اليوم وبأمر من الدولة وإمامها الإمام أحمد وحيث كان أنجال الإمام وبقية أمراء الأسرة الحاكمة والوزراء وكافة رجال الدولة الآخرين في مقدمة كل احتفال ومهرجان يُعقد وحيثما وجدوا. وقد مثل ذلك فترة من علاقات التقارب كانت هي الذروة بين قيادتي البلدين وبالأحرى بين كل من الإمام أحمد وولي عهده البدر من جهة وجمال عبد الناصر رأس قيادة ثورة يوليو في مصر ثم بين قيادة الدولة الوحدوية الجديدة السورية المصرية التي ستقوم بعد قليل في 21 فبراير 1958م (الجمهورية العربية المتحدة) والتي سيشكل منها ومن المملكة المتوكلية اليمنية دولة وحدوية فيدرالية هي التي أُعلن عنها تحت مسمى (اتحاد الدول العربية) والتي كانت جريدة "سبأ" قد وصفته في عددها (152) تعز 30/1/1958م بأنه الحلف الفيدرالي العربي والذي وقعه عن اليمن ولي العهد محمد البدر (ص1).
وفي سياق ذلك التقارب الكبير بين قيادة البلدين وربما بفضله أيضاً، حدث أيضاً اقتراب سياسي ملحوظ من قبل قيادة الدولة المتوكلية، مع دول الكتلة الاشتراكية ولربما عكسه في هذه الفترة بالذات من بداية عام 1958م الجولة العالمية لولي العهد محمد البدر التي زار خلالها بدعوات رسمية من حكوماتها بولندا، رومانيا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية والتي أشاد بالتقارب معها ولي العهد في خطاب ألقاه بمدينة الحديدة نهار الإثنين 8 رجب 1377هـ [راجع جريدة سبأ العدد (152) 30 يناير 1958 ص1].
خلال ذروة ذلك التقارب السياسي بين المملكة المتوكلية من جهة ومصر (ثم الجمهورية العربية المتحدة) من جهة أخرى، انعقدت إذاً تلك المهرجانات والاحتفالات في المدن اليمنية الشمالية يوم 24/12/1957م حيث كان المحتفلون يلهجون فيها بعبارات الإشادة والتمجيد بالدور القومي العربي التحرري لمصر وقيادتها ممثلة بالرئيس جمال عبد الناصر والتعبير عن الفرح والغبطة بالنصر القومي الذي تحقق في معركة بورسعيد على العدوان الثلاثي، وكل ذلك إنما كان يجري التعبير عنه في سياق مناخ من الشعور العربي واليمني، بالتفاؤل والثقة بمستقبل الكفاح القومي العربي في التحرر من الاستعمار والاطمئنان إلى مستقبل الوحدة العربية، وهو نفس مناخ المشاعر القومية العربية المسيطرة على نفوس جماهير المحتفلين في ميدان (شرارة) بصنعاء، حيث ألقى الطالب (علي عبد المغني) كلمته، والتي انعكست فيها قوة المشاعر والآمال أكثر من كل الكلمات اليمنية الأخرى الملقاة في ذلك الاحتفال، أو في بقية احتفالات المدن اليمنية الأخرى؛
وحيث يظهر منها أنها كانت الكلمة الأقوى والأكثر تطوراً في التعبير عن النهج السياسي القومي الجديد الوليد النشأة والصاعد، نهج الثورة العربية القومية الجديدة بآفاقها التحررية والوحدوية والديمقراطية، إلا أن بذرة هذا النهج الوليد وتخلق عناصره وتآلف هذه العناصر في نشأة سياسية جديدة، إنما كانت تتكثف وتتطور في أجواء مثل هذا التقارب السياسي الذي كانت قيادة عبد الناصر تراهن عليه لولادة تطور سياسي، بل وتحول سياسي من داخل رحم النظام السياسي القديم البالي والمهترئ لدولة الإمامة العتيقة.
وفي سبيل مراهنة تاريخية جديدة، شديدة التعقيد والمخاطرة، نلاحظ تلك الخطوة السياسية الجديدة التي اتخذتها القيادة السياسية المصرية بالتراجع خطوة، وربما أكثر من خطوة إلى الخلف، في مضمار علاقتها السابقة على ذلك، والتي كانت قد عقدتها مع قيادة الأحرار اليمنيين عقب ثورة 23 يوليو 1952م، يوم فتحت ذراعيها لأبي الأحرار القاضي محمد محمود الزبيري الذي قدم مصر من باكستان، ثم تجاوزت ذلك بإطلاق دعمها لتحرك سياسي واسع جداً لقيادة الأحرار اليمنيين، أفسحت له الثورة المصرية عقب فشل انقلاب السيف عبد الله (مارس 1955) وانتقال الأستاذ أحمد محمد النعمان الذي كان قد أفرج عنه قبل ذلك بقليل (هو وعدد آخر من سجناء أحرار 1948) - إلى مصر لاجئاً سياسياً، حيث باشر هو والزبيري إصدار أعداد المرحلة الثانية من جريدة "صوت اليمن" بدلاً عن "صوت اليمن" الأول في (عدن) بالأربعينيات. وحيث فتحت لهما إذاعة "صوت العرب" المهيبة الجانب موجات أثيرها الإذاعية، منبراً لخطاباتهما وأحاديثهما، وحيث أضحت العاصمة المصرية (القاهرة) مأوى للتحرك السياسي الواسع لقادة الأحرار على أوسع مدى.
إلا أن كل ذلك الانفتاح السياسي للثورة المصرية على حركة الأحرار، سيتراجع عقب التقدم السياسي الكاسح للثورة المصرية في صفوف الجماهير العربية، والتي لوحظ أنها قد غدت تشكل ضغطاً سياسياً قاهراً بصورة ملحوظة على قيادات الأنظمة العربية، في مرحلة ما بعد تأميم قناة السويس 26/7/1956، وفي أعقاب الهزيمة العسكرية السياسية لدول العدوان الثلاثي التي رفعت المكانة السياسية والجماهيرية للقيادة المصرية عالياً وانتزعت لها الاعتراف الجماهيري العربي كقيادة قومية عربية معترف بها، وهو ما بدا للقيادة المصرية أن تتخذ على ضوئه نهجاً جديداً هو مزيج من المهادنة والتحالف مع قيادات بعض الدول العربية وحكوماتها، والتي ستقبل أن تقف مع حكومة ثورة يوليو صفاً واحداً في مواجهة سياسة الأحلاف الغربية، حتى ولو كانت تلك الأنظمة العربية ذات طبيعة رجعية، شأن النظام الإمامي - الملكي في (المملكة المتوكلية اليمنية). وحيث كانت قيادة ثورة يوليو برئاسة عبد الناصر، تزمع - في الوجه الآخر لذلك النهج - أن تستثمر في صفوف التيارات الجماهيرية العربية التي أثبتت قوة حضورها السياسي ودعمها لقيادة ثورة يوليو بأفعال ملموسة ضد السيطرة الاستعمارية على المنطقة العربية، وقيامها بأعمال وأنشطة تأييد ومناصرة فعالة للنهج القومي التحرري للقيادة المصرية إبان حركة العدوان الثلاثي، مما جعل قيادة ثورة يوليو تطمئن إلى إمكان اعتمادها المستقبلي على دعم الجماهير العربية اللاحق لها في معارك ومواجهات قادمة مع قوى الاستعمار الدولي وركائزه في الوطن العربي، الأمر الذي جعل القيادة المصرية بعد مرحلة الانتصار على العدوان الثلاثي، مطمئنة إلى إمكانية أن تصوغ لها نهجاً سياسياً عربياً قوامه إنشاء جبهة تحالف سياسية عربية عريضة مع أكبر عدد ممكن من الأنظمة العربية التي تقبل ذلك وعلى أساس رفضها الدخول في سياسة الأحلاف الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هدف استعماري باسم ملء الفراغ في الشرق الأوسط، وبنية مواجهة الاتحاد السوفيتي تحت شعار مكافحة الشيوعية وفي مسعى من أمريكا والغرب لاعتبار (حلف بغداد) القديم ركيزة صالحة للتوسع وليستوعب بقية الدول العربية. ومن هنا بلورت قيادة ثورة يوليو في مواجهة ذلك أساس نهجها العربي الجديد بالتحالف مع سوريا ثم مع المملكة العربية السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية عبر لقاء جدة الثلاثي.
وفي نفس الوقت، انطوى نهج قيادة ثورة يوليو المذكور، على استيعاب بعض تعقيدات التطورات السياسية على الساحة اليمنية، فهنا بينما كانت قيادة "الاتحاد اليمني" - الشكل التنظيمي للأحرار اليمنيين في الخمسينيات - تنتقد نكوص قيادة يوليو عن دعمها السياسي الذي كانت قد قدمته للأحرار بعيد انقلاب مارس 1955م، وتحولها إلى نهج جبهة التحالف مع النظام الإمامي الذي استطاع - كما رأت قيادة الأحرار اليمنيين - أن يعطل دعم الثورة المصرية لنضال الشعب اليمني، فإن قيادة ثورة يوليو كانت بموجب تقويم موقف مغاير تحسب حساب أن يندفع النظام الإمامي نحو سياسة الأحلاف الغربية إذا لم توقف مصر تعاونها ودعمها العلني لقيادة الأحرار من جهة، وحيث كانت القيادة المصرية تلاحظ من الجهة الأخرى انقسام الأسرة الحاكمة إلى جناحين أحدهما: جناح البدر ولي العهد - والمدعوم من والده الإمام أحمد - والذي يحبذ سياسة التعاون مع عبد الناصر والبلدان الاشتراكية، ولا يقبل بسياسة الأحلاف الغربية التي تقودها أمريكا، والتي كانت بدورها تناصر الجناح الآخر في الأسرة الحاكمة والذي يمثل القوى الأكثر رجعية في الدولة والمجتمع بقيادة الأمير الحسن شقيق الإمام أحمد والمعارض لتولي ابن أخيه البدر ولاية العهد التي كان الحسن يعد نفسه الأحق بها وبالإمامة بعد أخيه الإمام أحمد.
في الوقت نفسه، رأت قيادة ثورة يوليو، وكما سبق ولاحظنا، أنها من وراء نهج تحالفها مع الأنظمة العربية الرافضة لسياسة الأحلاف الغربية، كانت توفر مناخاً يتم فيه استنبات نويات وتكوينات سياسية جديدة واعية من بين تيار القوى الجماهيرية العربية المنبثقة تحت تأثير تأميم قناة السويس ومعارك العدوان الثلاثي. وفي سبيل ذلك كانت القيادة المصرية تظهر شديد حرصها على التهادن والمصالحة مع قيادة الأنظمة المتخلفة ومنها النظام الإمامي - الملكي، وبخاصة مع جناح البدر، والعمل على كسب أطول وقت ممكن.
من هنا نلاحظ، على التحرك السياسي لمصر مع النظام الإمامي في هذا الوقت بالذات من احتفالات اليمن بالذكرى الأولى للانتصار القومي لمصر في معركة العدوان الثلاثي، كيف تحرص عبر الناطقين باسم ثورة يوليو في صنعاء، وهم ممثلوها الدبلوماسيون، الحرص الشديد على طمأنة قيادة النظام الإمامي، في سياق الحرص المماثل على طمأنة بقية الأنظمة السياسية العربية. وهي بأكثريتها الساحقة عند ذلك التاريخ 24/12/1957م أنظمة ملكية. بأن الثورة المصرية لا تعاديها أبداً ولا تتدخل في شؤونها الداخلية، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك بالتعبير لقيادات تلك الأنظمة الملكية، ومنها النظام الإمامي - الملكي في المملكة المتوكلية اليمنية، في شمال اليمن، أن قيادة الثورة المصرية ممتنة كل الامتنان منها، وأن القيادة المصرية جادة كل الجدية في التعاون مع قيادة الدولة المتوكلية وبكل إخلاص.
وفي اليمن المتوكلية سنرى كيف تسري مثل هذه الأفكار: وكيف يشيع مثل هذا الروح ويسود فوق الحد، في كلمة (نبيه الدبروطي) القائم بالأعمال المصري، في احتفال ميدان (شرارة) بصنعاء في 24/12/1957م وهو روح بناء جبهة عربية موحدة تجمع مصر وبقية الأنظمة العربية. ولهذا الغرض ينقل خطاب الدبروطي من خطاب سابق للرئيس عبد الناصر" إنما تسعى دول الاستعمار ودعايته للتفريق بينهم بإذاعة أساليب التزوير والتضليل لتفريق العرب" حتى ليقول عبد الناصر، كما ينقل الدبروطي عنه في خطابه بميدان (شرارة): "يبث المستعمرون روح الشك بين الحكومات العربية، ويتبعون في هذا أساليب التزوير، يقولون: إن مصر ضد الملكية: مصر تحارب ملوك العرب، وهي تريد إقامة جمهوريات... مصر تريد أن تسيطر على البلاد العربية: وحاولوا بذلك تشكيك حكام العرب، يقدموا لهم وثائق مزورة، ونحن قد أعلنا دائماً أننا ليس لنا أي دخل: ولن نتدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد: ولا البلاد العربية طبعاً... وأنا أعتقد أن الشعوب العربية، في أي بلد عربي لا تقتنع بهذا الكلام، وتعتبر أنه من أسلحة الاستعمار... يستخدمه ليحقق أهدافه... يستخدمه ليحقق أغراضه...".
ويواصل الدبروطي استشهاده بعبد الناصر: "نحن نؤمن بتضامن العرب لخدمة العرب لا لتحقيق أغراض الاستعمار وإن مصر خاضت معركة أخرى ضد الاستعمار هي معركة وضع الشرق الأوسط كله والبلاد العربية ضمن منطقة النفوذ الغربية؛ وأن مصر صممت على أن يكون الدفاع عن هذه المنطقة منبثقاً منها وحدها، دون اشتراك دولة كبرى. وبذلك ظهرت مبادئ الحياد الإيجابي، وعدم الانحياز".
والهدف العاجل أمام العرب جميعاً، كما تراه مصر وتحاول قيادة العرب إليه في فترة ما بعد تأميم قناة السويس وهزيمة العدوان الثلاثي عند نهاية عام 1956م، وحتى الآن عند نهاية العام 1957م: هو انتزاع المنطقة العربية بكل دولها وأنظمتها من قبضة الأحلاف الاستعمارية الذي يبرز منها في المقدمة حلف بغداد، والحيلولة دون وقوع بقية الأقطار العربية فيما يخطط لها من مشاريع أحلاف استعمارية جديدة باسم ملء الفراغ في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وإفشال محاولاتها لاستقطاب هذا النظام العربي أو ذاك، ولا سيما بعض من عتاة الأنظمة الملكية، ومنها النظام الإمامي في شمال اليمن، وباستخدام ضغوط التخويف السياسي وحملات الدعاية السياسية لإخافتها من نظام عبد الناصر.
ولفل تلك الحملات الاستعمارية السياسية ودعايتها نجد (الدبروطي) يقتفي في كلمته خطاباً سياسياً مشحوناً بعبارات الثقة والتطمين لنظام الإمامة، معرباً عن وقوف مصر إلى جانب هذا النظام السياسي. بل نجد الدبروطي يقول: "وإن مصر لتتمنى أن تحتفل اليمن الشقيقة قريباً بعيد نصر آخر عندما ينضم إليها الجنوب اليمني المحتل. وتتمنى أعياد نصر أخرى للجزائر المناضلة، والمملكة السعودية، وعمان العربية، والمملكة المراكشية، ولكل شبر في الأرض يحتله مستعمر... وأن انتصار مصر على أعدائها لفشل ذريع لسياسة الأحلاف الاستعمارية".
ونجد الدبروطي من ثم وهو ينهي كلمته الخطابية، لا يكتفي لها بالدعاء لمصر ورئيسها عبد الناصر بالتوفيق في كل يوم إلى نصر جديد، بل نجده يربط ذلك بالدعاء لليمن بالتوفيق: "أن يوفق اليمن الشقيق وجلالة ملكها الإمام أحمد الناصر للدين، وولي عهده سيف الإسلام البدر الهمام، وأن يوفق العرب والمسلمين إلى النصر المؤزر المبين". [جريدة سبأ، تعز /1/1958م ص8].
إن مواصلة بث خطاب سياسي لثورة يوليو، وتدعيمه في هذا الوقت أكثر من ذي قبل، بما يعمق روح الثقة ويشيع المزيد والمزيد من الاطمئنان لدى قيادة الدولة الإمامية المتوكلية، هو ما ستواصل بعثة المفوضية المصرية تعميقه وتوسيعه في حفلة (الشاي) التي نظمتها بعد يومين من احتفال ميدان شرارة أي في يوم الخميس 26/12/1957م في حديقة مبنى المفوضية بصنعاء.
ومرة ثانية، نلاحظ تباين موقف (جريدة سبأ) عن (جريدة النصر) في تغطية حفل (الشاي) المذكور. اكتفت (سبأ) وفي نفس عددها رقم 149 بتاريخ 9/1/1958، ص9 بمجرد خبر مقتضب انحصر في حيز ضيق على مساحة نحو ثلثي عمود، اكتفى فقط بمجرد إيراد أسماء وشخصيات الحضور، وأسماء من تعاقبوا على إلقاء الكلمات، دون التطرق لنص ولا لمضمون أي كلمة منها، مما يعني طمس أفكار ومضامين الخطابات السياسية لأفراد البعثة الدبلوماسية المصرية، وحجب تأثيراتها عن قرائها من الجمهور اليمني، وكذلك طمس أفكار ومضامين خطابات الشخصيات اليمنية التي يظهر من بعضها تأييداً للقيادة السياسية المصرية ونهجها القومي التحرري. وعلى عكس جريدة (سبأ) فعلت جريدة (النصر) الصادرة بعد ذلك بأسبوع بتاريخ 16/1/1958، التي نشرت عن حفل (الشاي) المذكور تقريراً مفصلاً زاد في مساحته على الثلاثة الأعمدة فيما بدا أنه استدراك مماثل للمرة الثانية، لحالة إغفال (سبأ) في مرة سابقة، عن نشر أو حتى الإشارة إلى مجرد مساهمة الطالب (علي عبد المغني) بكلمة خطابية في احتفال ميدان شرارة بصنعاء في 24/12/1957م. فللمرة الثانية يبدو أن جريدة النصر استدركت وبدافع سياسي مختلف عن الدافع السياسي لجريدة سبأ، ما أغفلته جريدة (سبأ) قبل ذلك بأسبوع، عن نشر الأفكار والمضامين السياسية لخطابات البعثة الدبلوماسية المصرية بالذات في حفلة الشاي المشار إليها سابقاً.
ومن غريب التعارض السياسي في مواقف الجريدتين الذي تظهر فيه جريدة (النصر) مشجعة لأن تحمل صفحاتها إلى جمهور قرائها أفكار نهج جديد قومي وتحرري كما يتجلى في الكلمة الخطابية للطالب (علي عبد المغني) بتاريخ 24/12/1957م أو كلمات أفراد البعثة الدبلوماسية المصرية في حفل الشاي بعد يومين في 26/12، بينما تبدو جريدة (سبأ) عازفة عن نشر مثل تلك الأفكار القومية-التحررية، مع أن كلاً من الجريدتين تعلن عن نفسها جريدة شعبية، أي أهلية. بيد أن حل عقدة التناقض يكمن في اختلاف الروابط السياسية الفعلية للجريدتين، فبينما كانت جريدة (النصر) تبدو مرتبطة بالمحور السياسي الجديد في الدولة الذي يعبر عنه ولي العهد البدر، كانت جريدة (سبأ) مرتبطة مباشرة بالإمام أحمد، منذ صدرت عقب انهيار حكومة الأحرار الدستوريين الناشئة في 17/2/1948 وانتصار الإمام أحمد بن الإمام يحيى على الحكومة الدستورية، إذ صدرت (سبأ) في عدن كناطقة عما قيل أنه "جمعية الشباب اليمني" في عدن، التي برزت فجأة كحركة نصيرة للإمام أحمد ومناوئة للأحرار اليمنيين، وتتولى جريدة (سبأ) التي باشرت الصدور باسم تلك الجمعية شن حملة دعائية سياسية حادة ضد رجال حركة الأحرار وأفكارهم السياسية، "وتنقل بعد ذلك مكان صدورها من عدن إلى تعز، في ظل ما حظيت به من عطف الإمام أحمد السياسي والمالي لها". فيظهر من ذلك أنها كانت تواصل الآن عند نهاية العام 1957م لعب نفس الدور السياسي الذي سبق وارتبطت به عند صدورها في مناوأة الفكرة الحرة أو الامتناع عن نشرها وذلك في آخر مواقفها في عدم نشر كلمة الطالب (علي عبد المغني) في 24/12/1957، أو أفكار وكلمات البعثة الدبلوماسية المصرية في حفل الشاي في 26/12/1957، خلافاً لما فعلت جريدة (النصر) التي عرفنا منها عن حفلة الشاي، أن القائم بالأعمال المصري نبيه الدبروطي قد دعا إليها: "جمعاً غفيراً من الوزراء، والأمراء، والأدباء والوزير المفوض للمملكة العربية السعودية، ورجال المفوضية، والبعثات المصرية التعليمية العسكرية".
وهي البعثات التعليمية العسكرية التي ستنشط في تلك الفترة وبجانبها البعثات التعليمية العسكرية السوفيتية- في بناء جيش يمني حديث، وطني التكوين، وبأساس اجتماعي جديد مكون من الفئات الاجتماعية الحديثة النشأة والجديدة، وذات الأساس الفقير أو كشرائح دنيا من البرجوازية الصغيرة، والمتكونة - أي فئات الجيش الاجتماعية الجديدة - سياسياً بوعي جديد من الأفكار القومية والتقدمية.
وإلى مثل الجيش اليمني الجديد، تحت الإنشاء عند ذلك التاريخ من أواخر العام 1957، فما بعد، والذي يشار إلى تواجد أفراد البعثات التعليمية العسكرية المصرية في حفل الشاي المذكور سينتسب طالبنا (علي عبد المغني) - الذي ألقى كلمته الخطابية ببعدها السياسي شديد التميز قبل يومين من تاريخ حفل الشاي - بعد تخرجه من تلك المدرسة الثانوية التي ألقى كلمته بالنيابة عنها - إلى الجيش الجديد التكوين، وفي خطوة أولى سينتسب طالبنا إلى الكلية الحربية التي يتلقى فيها العلوم العسكرية. إلا أن ما يفترض أن يتلقاه طالبنا بجانب العلوم العسكرية، من أفكار سياسية تحررية وثورية، بصورة مضمرة على يد تلك البعثة التعليمية العسكرية المصرية، هو فرض شديد البعد، ولا يعول عليه، وذلك ليس وحسب بسبب ما هو واضح من التقيد الصارم بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للنظام السياسي الإمامي-الملكي، وتدعيم روح الثقة مع قيادة النظام الإمامي وطمأنته حقاً وبصورة أكيدة إلى سلامة نوايا القيادة السياسية المصرية تجاهه، بل وأيضاً إلى أن أحد إشكاليات ثورة يوليو، والتي تبرز عند أواخر 1957م ثم تنعكس بعد ذلك سلباً على مصير دولة الوحدة هو ما عرف به الجيش المصري من ضعف الوعي السياسي عند معظم ضباطه، والذي يمثل قائده العام المشير عامر القدوة الأبرز لهم في ذلك، وهو ما يعبر عنه قول عبد الناصر لهيكل في أكتوبر 1962: "إن عامر لا يجيد الإلمام بالتفاصيل في أي موضوع وإنه لو سئل عن قصة سيدنا يوسف لقال أنها قصة ولد تاه ولقيوه". وهو ما سيؤخذ انعكاسه السلبي بعد الوحدة المصرية السورية في أن معظم الضباط المصريين في دمشق كانوا غير مُسيسين، وليس لديهم وعي سياسي، مما شكل أحد العوامل المهمة في انفراط عقد الوحدة. بل إن المشكلة كانت أعمق من ذلك، إذ تحولت قيادة الجيش المصري إلى جماعة عسكرية بيروقراطية متمتعة بالامتيازات ومعادية للتحولات الثورية التي كان عبد الناصر الفرد، يطمح إليها، وذلك في ظل المشكلة الأعمق للقيادة العسكرية المصرية التي اتسمت على مستوياتها المختلفة بالنظرة العسكرية المحافظة والتي كانت تدفعها كقيادات غير مسيسة لأن تعتبر الإصلاح الزراعي الثاني عام 1961، إجراءاً [شيوعياً]. فكانت قيادة في جوهرها معادية للتقدم.
ولذلك فإن مثل هذا النمط السائد من سلك الضباط في الجيش المصري، بطبيعته العامة كسلك ضباط كان في معظمه غير مسيس ومحافظ، هو مما لا ينبغي عندئذ أن يعول على تصرف سياسي جديد من بعثته التعليمية العسكرية الموفدة إلى اليمن، والتي ستدرس العلوم العسكرية في المؤسسات التعليمية العسكرية الحديثة، ومنها الكلية الحربية التي سيلتحق بها الطالب [علي عبد المغني] مع دفعة خريجي الثانوية العامة في العام التالي- 1958. بل إن ما يمكن لطلاب الكلية الحربية - وغيرها من مدارس التعليم العسكري والأمني - أن يتلمسوه بطرق غير رسمية من أفكار سياسية يسعون لمعرفتها أو استطلاعها من معلميهم العسكريين المصريين، لا بد أن تقود الطلاب العسكريين اليمنيين إلى ما يخيب آمالهم حين يصطدمون - في الغالب - بالأفكار المحافظة لمعلميهم أو تكرارهم مقولات المديح للنظام الإمامي على غرار الخطاب السياسي للقائم بالأعمال السياسي المصري. وهي النتيجة، التي كما نعتقد، ستلعب دوراً سياسياً سلبياً يباعد بين الطلاب العسكريين لا سيما طلاب الكلية الحربية، وفي مقدمتهم الطالب علي عبد المغني، وبين الولاء لنهج سياسي ناصري، من البعيد عندئذ افتراض وجوده ولا سيما في صورة فريق سياسي "منظم". وعلى الضد من ذلك نتوقع أن يجد طلاب الكلية الحربية أنفسهم منجذبين في هذه الحالة، بأكثر مما كانوا عليه في صفوف المدرسة الثانوية، للانضمام الحزبي، ولكن كحالة متطورة كخلايا عسكرية بعثية تدفعهم إليها بقوة أكبر طبيعة الانضباطية العسكرية الجديدة التي أخذوا ينخرطون فيها.
فلنعد - إلى حفل الشاي المذكور للبعثة الدبلوماسية في مساء يوم الخميس 26/12/1957- حيث تنطلق خطابات الدبلوماسيين والمعلمين المصريين، مقويةً خطاب الثقة والتطمين لنظام الإمامة، ولكن ذلك الخطاب إنما يجري بثه في سياق عام من بث خطاب سياسي أوسع من الدعاية السياسية العريضة والممجدة لنظام مصر القومي- الثوري، وعظمة انتصاره السياسي على قوى العدوان الثلاثي، وبث عقيدة الإيمان السياسي المطلق بالنصر العربي الآتي والمستقبل العربي الزاهر.
يخطب أولاً الأستاذ المصري أحمد عبد السلام الذي بعد أن يردد الأفكار السالفة، يقوم بربطها فيما بعد بامتنان مصر من اليمن والاعتراف بفضل اليمن على مصر وعدم نسيان مصر: "موقف اليمن الشقيق حكومة وشعباً إذ وقفت بجانب مصر تدافع عن كرامة العروبة والإسلام، ولقد عرفت الدول الاستعمارية أن الدول العربية قد وعت وأنها لن تنكس بعد اليوم. لقد آمن المستعمرون أن على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل من بلاد العرب، وليشهد التاريخ أن في العرب قادة مخلصين رفعوا لواء العروبة".
وهو ما يعني به الخطيب المعلم ضمن من يعني قيادة الدولة اليمنية المتوكلية؛ أي الإمام أحمد وولي عهده البدر، ثم يواصل خطبته: "وآن لمجد الإسلام أن يعيد تاريخه حتى يصبح المسلمون كما كانوا سادة العالم". وإلى أن يقول مخاطباً اليمنيين: "معشر الإخوان.. سنكون معكم وفي صفوفكم نقدم أرواحنا معكم، وسنكون معكم صفاً واحداً يمنيين وسعوديين ومصريين وسوريين وعراقيين وكل أبناء العرب. وسنمد أيدينا في أيديكم، معاهدين الله على الثبات معكم، وسنكون مخلصين لكم ولعاهل اليمن العظيم. وسننتظر اليوم الذي نحتفل به قريباً بمناسبة عودة الجنوب إلى أمة اليمن، وإن هذا اليوم لآت قريباً". وسنقدم قلوبنا وأرواحنا سائلين المولى أن يحفظ الإمام ويبقيه ذخراً للعروبة والإسلام، وأن يشد عضده بولي عهده، وأن يجعل رحلاته موفقة في جميع أحواله وحركاته".
وآخر من تكلم في حفلة المفوضية المصرية، كان القائم بالأعمال المصري: (الدبروطي) بكلمة ارتجالية شكر فيها العموم، وما تكرم به الإمام أحمد من إعلانه العيد في جميع اليمن رسمياً وعن إقامة الإمام للحفلات والمهرجانات في تعز، والتي كان الإمام في مقدمة المشاركين فيها.
ولينتقل (الدبروطي) عقب ذلك للإشادة بنصر بورسعيد، وصمود مصر وتحطيمها للعدوان، ثم يتبع ذلك بالكلام عن فلسطين وأهلها الذين شردتهم إسرائيل، وأن كل أبناء العروبة لا يتنازلون عن شبر من فلسطين، ثم ينتقل لتوضيح المبادئ الجديدة التي أعلنها عبد الناصر؛ مبادئ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إلى أي كتلة شرقية أو غربية، ومشيراً لانعقاد المؤتمر الآسيوي الأفريقي حينها في مصر، وأثره الإيجابي على مستقبل العرب في الاتحاد، وأيضاً في اتحاد آسيا وأفريقيا، ثم لينهي حديثه بالشكر مجدداً للإمام وولي عهده، ثم بالدعاء والتوفيق لولي العهد في رحلته السياسية الدولية التي زار فيها عدداً من الدول الغربية والشيوعية.
وقد يظهر الوجه الآخر لنجاح السياسة المصرية وتأثيرها الفكري، السياسي الجاذب لعقول اليمنيين، في فحص أحاديث بعض اليمنيين المدعوين إلى حفل شاي المفوضية المصرية المسائي، وهو ما يمكن استنتاجه من مضمون أحاديثهم الذي يسجله مراسل جريدة (النصر). ففي تلك الأحاديث يظهر رسوخ الإشادة السياسية في حديث بعض اليمنيين بالنصر القومي المصري، والاعتراف بجوانب النهضة المصرية، كما يظهر في حديث السيد محمد أبو طالب، ثم في حديث مدير المدرسة الثانوية أحمد الشمسي. ثم أخيراً في قصيدة الشاعر الشاب علي بن علي صبرة الذي وصفه مراسل جريدة النصر بـ "شاعر النصر" وقصيدته التي وصفها بـ "الرائعة" والتي قاطعها جمهور الحاضرين في حفل المفوضية أكثر من مرة بالهتاف والتصفيق واستعيدت مراراً. [جريدة النصر، تعز 16/1/1958، ص6].
5- ترويج الخطاب السياسي الناصري بلسان الدولة الإمامية
لأحاديث بعض اليمنيين السالفة أثناء حفل شاي المفوضية المصرية بما في ذلك من كان له صفة رسمية أو شبه رسمية، بأفكار الثورة المصرية، ونهجها القومي التحرري والتقدمي، دلالاتها السياسية الجديدة، المتولدة في هذا الوقت بأن أفكار الثورة المصرية التي يمكن اختصار التعبير عنها بما نصطلح عليه "الخطاب السياسي الناصري" كان قد أخذ يكسب الاعتراف به ويتردد كشعارات وأفكار، فيما له صلة بالسياسة الخارجية القومية العربية الموحدة والسياسة العربية الدولية التحررية المناهضة للاستعمار الغربي والأحلاف الغربية العسكرية، ورفض مناطق النفوذ والدعوة إلى الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والقبول بعلاقات متنوعة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتعليمية مع الدول الشيوعية.
إن ترديد تلك الشعارات والأفكار والمبادئ على لسان بعض شخصيات الدولة الرسمية وشبه الرسمية؛ بصورة متزايدة في مرحلة ما بعد تأميم مصر لقناة السويس والانتصار على العدوان الثلاثي سيمثل تشجيعاً للأنصار الحقيقيين للتوجهات الفكرية السياسية التقدمية بأن تجهر بأفكارها، وأن تروج لها بالتالي بمزيد من الثقة والأمان والطمأنينة، سواء بالتداول الشفوي لتلك الأفكار عبر مناقشاتها في صفوف المجتمع أو من خلال المقالات الصحافية في الصحف الرسمية، وشبه الرسمية، لكنها تتمثل بالذروة في صدور صحيفة (الطليعة) على يد عبد الله باذيب النازح من مستعمرة عدن، ومضايقات الإدارة الاستعمارية وملاحقاتها له حيث وجد في تعز رخصة من الإمام لإصدارها. ثم وفي خطوة أعلى حضوراً للخطاب الناصري في الدولة الإمامية المتوكلية نلاحظ بلوغه أعلى المراتب في جهاز تلك الدولة بالمثال الأكثر برهاناً، الذي سيظهر من خلاله، أن اتخاذ "الخطاب السياسي الناصري" في ميادينه ومجالاته الخارجية والدولية يغدو هو الخطاب الرسمي للدولة الإمامية المتوكلية، في شخص ولي عهد الإمام أحمد نجله محمد البدر في خطابه السياسي الذي وصف في مقدمته المنشورة بالخطاب الارتجالي والذي نشرته جريدة (سبأ) على مساحة كبيرة زادت على الصفحة بأكثر من عمود، عقب أن ألقاه ولي العهد بمدينة الحديدة نهار الإثنين 8 رجب 1377هـ (الموافق 30 يناير 1958) بعد يوم من وصوله من جولة سياسية عالمية ابتدأها مع مطلع شهر نوفمبر 1957، بزيارة بريطانيا، ثم إيطاليا، وفرنسا، وواصل جولته فزار البلدان الشيوعية في أوروبا الشرقية: بولندا، رومانيا، يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي وبعدها زار الصين الشعبية. ووصف في مقدمة خطابه الذي صاغ تقريره الصحافي سكرتيره هاشم محمد طالب والذي سنلمح أثره في صياغة توجهات البدر السياسية وخطابه المذكور فيوصف: "خطابه الارتجالي التاريخي العظيم الذي يعد الأول من نوعه إذ سمع الشعب مسؤولاً عظيماً كولي العهد، أو بالأحرى أميراً يمنياً يتحدث إليه في حديث شعبي، صريح، ساحر، وفي تواضع عجيب، وهذا ما يبشر بميلاد عهد جديد بمستقبل حر سعيد زاهر".
إن هذا الخطاب الموصوف عند سكرتير البدر هاشم محمد طالب بأنه المبشر بميلاد عهد جديد وبمستقبل سعيد زاهر، إنما يوصف هذا الوصف العريض، من تحت وضوح تأثير النهج القومي التحرري للثورة المصرية على ولي العهد في السياسة التحررية القومية والدولية، التي يكشف خطاب البدر أنه اتبعها بتأثير قيادة عبد الناصر. فالبدر الذي زار فرنسا كـمحطة ثالثة بعد بريطانيا وإيطاليا، يعلن للمواطنين اليمنيين كيف دخل في شد وجذب في مباحثاته مع رئيس الوزراء (غايار) من أجل الجزائر فيعلن له (غايار) أن المطالبة بالتحرر والاستقلال مرض من أمراض الشباب، فيجيبه البدر: "إن البلاد العربية مصابة بهذا المرض وهو مرض عضال ولا يمكن أن تشفى بل ولا تريد الشفاء منه، ولقد كانت فرنسا مصابة بهذا المرض ولكنها مع الأسف شفيت منه، وأصيبت بمرض آخر هو مرض الشيخوخة والانحلال". ثم نصح البدر لفرنسا أن تحسن علاقاتها مع الجزائريين وتتنازل عن ملكها الأهوج بأرض الجزائر المجاهدة فإنهم لا بد أن ينتصروا وينالوا استقلالهم، إلا أن (غايار) أجاب البدر "بكل صفاقة بأن الجزائر فرنسية، وأن هؤلاء المشاغبين ليسوا إلا عصاة خارجين على القانون ونحن مستعدون لتأديبهم".
قبل ذلك، فإن البدر كان قد ابتدأ خطابه بأن صارح جمهوره منذ البدء بأنه زار بريطانيا لهدف واضح هو التباحث لتخليص "جنوب اليمن المحتل من الاستعمار". ولينتهي إلى خلاصة مفاوضاته مع الإنجليز بأنهم "لا يريدون لنا الاستقلال ولا الحرية، بل إنهم يطمعون في أن يوسعوا رقعة استعمارهم باقتطاع أجزاء جديدة". وليشن حملة هجومية شرسة في خطابه على الاستعمار البريطاني وليدعو بقوة شديدة تحت شعار الكفاح ضد الاستعمار البريطاني أو كما قال: "ليس للشعوب مع الاستعمار إلا سبيل واحد، هو سبيل الكفاح والنضال والتضحيات، ولقد قلت هذا لمسؤولي الإنجليز، قلت لهم إننا بإمكاننا أن ننتصر، وإننا لا بد أن ننزع حقنا من أيدي الغاصبين، وأن الشعب اليمني في شماله وجنوبه على استعداد لبذل الأرواح والأموال". وليعلن فشل مفاوضاته السلمية مع الإنجليز، ذلك الفشل الذي وصفه بأنه كان "خيراً من أن نتفق مع المستعمرين على حساب كرامتنا واستقلالنا، ومن الغريب والمؤسف المضحك أن رجال الاستعمار اتهموني -عندما كنت أفاوضهم- أنني من دعاة الشيوعية، وإنني، وإنني... وهذا هو أسلوب الاستعمار المكشوف في اتهام كل مطالب بالحرية والاستقلال بأنه شيوعي ومن دعاة الشيوعية".
وينتقل البدر على الفور متحدثاً عن العلاقة التي أقامها بصفة رسمية باسم الدولة المتوكلية مع الدول الشيوعية. "نعم إننا عقدنا اتفاقيات مع الدول الشيوعية لأننا وجدنا في هذه الدول تجاوباً مع مشاعرنا وآمالنا، ووجدنا منهم العون والمساعدة بدون قيود ولا شروط تمس باستقلالنا وعروبتنا، ولم نستورد من الدول الشيوعية مبادئ أو عقائد لأننا مسلمون..". وعند زيارته للدول الشيوعية في شرق أوروبا قال: "لقد وجدت في هذه الدول تجاوباً واضحاً مع مشاعرنا، وعطفاً صادقاً على قضايانا، ومشاركة لنا في الآمال والأماني، وعقدت مع هذه الحكومات اتفاقات ودية، واقتصادية وتجارية".
وقال عن زيارته للصين الشعبية: "لقيت من ذلكم الشعب كل حفاوة وترحاب، ولمست فيهم روح السخط والكراهية للاستعمار... عندما كنت أنزل في المطارات وأمر في الشوارع أجد الجماهير المحتشدة المتظاهرة تهتف بحماس عجيب بحياة اليمن، وسقوط الاستعمار". وقد أطنب في وصف مشاعر تأييد الشعب الصيني لليمن ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب اليمني المحتل، وأطال في وصف قسوة معاناة الشعب الصيني السابقة من الاستعمار الأوروبي وإذلاله المفرط للصينيين، بما يقطع بتأثر البدر بسياسة الصينيين أكثر من أي دولة شيوعية أخرى، وفصل ذكر الاتفاقيات الاقتصادية التي عقدها مع الصينيين لإنشاء مشاريع عديدة في اليمن من طرق ومصانع متعددة ومتنوعة بجانب اتفاقيته المماثلة مع الاتحاد السوفيتي.
وينتقل بعد ذلك لتنبيه المواطنين من مستمعيه لدسائس الاستعمار مع العرب، حيث قام الاستعمار بدفع مبلغ كبير لضابط مصري لاغتيال عبد الناصر الذي وصفه البدر بـ "أخي وشقيقي جمال عبد الناصر، لماذا؟ لأن جمال حرر بلاده". وينهي خطابه بالحديث عن وضع "الشقيقة سوريا العظيمة العربية المؤمنة، تعرضت لمحنة قاسية؛ لثالوث خبيث: إسرائيل، تركيا، والأسطول السادس الأمريكي... وبفضل رجالاتها المخلصين صمدت أمام هذه القوى العدوانية، وخرجت منها ظافرة تحمل أكاليل الغار، وهكذا نحن العرب: النصر في النهاية لنا". ويختم خطابه: "عاش الشعب اليمني شماله وجنوبه، عاشت الأمة اليمنية والله أكبر، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين".
6- ترويج الخطاب الإمامي - المتوكلي بلسان الدبلوماسية المصرية
إذا كانت الأفكار القومية التحررية، التي مثلت مضمون خطاب البدر، الذي أطلق أفكاره في ختام جولته السياسية العالمية، وعقب وصوله المباشر أرض اليمن، في الحديدة، هي التي سمحت لخطابه بتلك الأفكار الجريئة والمبادئ التحررية - أن يُنظر إليه - كما في وصف سكرتيره - بأنه "يبشر بميلاد عهد جديد، ومستقبل حر سعيد زاهر". فالمرحلة الجديدة التي يُنتظر أن تدخلها اليمن ويتوقع انتقال الدولة المتوكلية إلى تطبيق مبادئ ذلك العهد الجديد، والتي إذا ما طبقت سينتقل اليمن في نطاق دولته المتوكلية إلى "مستقبل حر سعيد زاهر". إنما كان يقتضي أن تكون الأفكار والمبادئ التي أعلنها ولي العهد في خطابه كنموذج وبرنامج للعمل السياسي، يقتضي كل الاقتضاء صدق توجه الدولة المتوكلية وامتلاكها الإرادة السياسية لتحقيق مثل ذلك المنهاج - البرنامج - المستخلص من خطاب ولي العهد. بيد أن تكوين الدولة الإمامية المتوكلية - بطبيعتها القروسطية - شديدة الرجعية، والمنافية كلياً للعصر والمضادة للتطلعات الوطنية والقومية التحررية، كانت تمثل عقبة كأداء في سبيل أبسط محاولات التغيير، وضد الآمال التي يبشر بها خطاب ولي العهد بـ"ميلاد عهد جديد، ومستقبل حر سعيد زاهر" أرخى سكرتير البدر لنفسه العنان ليسرح بالتفاؤل دون أساس.
إن عجز الدولة الإمامية - المتوكلية عجزاً تكوينياً تاريخياً عن الخروج من أزمنتها القروسطية - الظلامية - وهو ما أعطى المصداقية لنقد زعامة الأحرار للثورة المصرية في التعويل على خطة بناء جبهة عربية قومية - تحررية مع الأنظمة العربية الرجعية - وبوجه خاص مع النظام الإمامي الرجعي في اليمن، والذي لم يزد على كونه قد تمكن من احتواء التوجهات التحررية للثورة المصرية وعطل سياستها العربية في التغيير الثوري وفي مناصرة نضال الشعوب العربية، وبوجه خاص نضال الشعب اليمني للإطاحة بنظام الإمامة - الرجعي، وكما أوضح الزبيري في ختام كتاب مطول، كرسه لفضح ما أسماه "الخدعة الكبرى في السياسة العربية". يقصد بها خدعة النظام الإمامي، بأن "ليس من صالح القومية العربية أن تتجمد في النطاق المحلي حركات التطور والتحرر في الأقاليم العربية المتأخرة انتظاراً لنهاية المعارك العربية في مستواها القومي، لأنها معارك لن تنتهي وبل إن من صالح هذه المعارك أن تسير حركات التطور الداخلي في الأقاليم المتأخرة سيرها الطبيعي، دون أن تتجمد أو تتعطل في فترة النضال القومي العام". لا سيما وأن الشعب اليمني في ظل الدولة الإمامية كما أوضح الزبيري "معرض للتمزق أو الاستعمار أو الانقراض، إذا لم ينجح في تغيير أوضاعه السياسية".
بيد أن الخدعة الكبرى التي خدع بها النظام الإمامي سياسة ثورة يوليو القومية - التحررية سيكررها النظام الإمامي مرة أخرى، حين نفحص خطاب الدبلوماسية المصرية بلسان رئيس المفوضية المصرية: القائم بالأعمال (نبيه الدبروطي)، الذي لم تزد جهوده في بث خطاب سياسي يهدف إلى تعزيز ثقة النظام الإمامي بالقيادة المصرية، إلا إلى تعطيل خطاب ثورة يوليو من خلال رئيس البعثة الدبلوماسية بصنعاء، عن كل المبادئ التحررية والتقدمية التي يتطلع المناضلون اليمنيون لأن تناصر الثورة المصرية كفاحهم من أجل بلوغها في اليمن. بل إن الدبلوماسية المصرية في اليمن ستتجاوز ذلك، إلى تبني النهج السياسي المعاكس، والمتمثل بالوقوع في فخ الدعاية السياسية الفجة للنظام الرجعي، بل وتصادم الخطاب السياسي للقائم بالأعمال المصري (نبيه الدبروطي)، مع نضالات الشعب اليمني ضد نظام الإمامة ورجعيته خصوصاً وأن خطاب الدبروطي كان يذهب في بعض المناسبات حداً من المغالاة الممجوجة في امتداح الإمام أحمد والثناء على سياسته وإلباسها ثوباً شديد التصنع والافتعال والمحاباة من الوطنية والقومية المكذوبة، وتصل إلى حد الثناء على سياسة الإمامة في التنكيل بنماذج من النضال الشعبي والوطني، وهو ما يتجلى بوجه خاص بخطاب نبيه الدبروطي الذي ألقاه في ما عرف عند النظام بمناسبة "عيد النصر"، في ذكراه العاشرة والذي أطلقت عليه صحافة النظام اسم "العيد القومي المجيد" لليمن، عيد الجلوس الملكي للإمام أحمد [جريدة سبأ العددان 149 و 150، تعز، الخميس 19 جمادى الأولى 1377هـ، الموافق 12 ديسمبر 1957م]. وهي مناسبة شديدة الإيلام بالنسبة للنضال الوطني، حيث تمكن الإمام أحمد من الإطاحة بالحكومة الدستورية، التي تمكن الأحرار اليمنيون من إقامتها بعد أن أطاحوا بنظام الإمام يحيى في 17/2/1948م، والبالغ في درجات الرجعية والتخلف والظلم، وذلك بعد نضال طويل وتضحيات جسيمة، وما هي إلا فترة شهر ونيف من عمر الحكومة الدستورية الأولى في تاريخ الشعب اليمني، حتى تمكن ولي عهد الإمام يحيى، الأمير أحمد بن يحيى، وبدعم سافر من الحكومات العربية الملكية من الإطاحة بحكومة الدستور، وشن حملة واسعة من استباحة مدينة صنعاء ونهبها بيتاً بيتاً، وإقامة موكب جنائزي من المذابح التي طالت قطع رؤوس صف طويل وعريض من قادة حركة الأحرار وصفوة علماء اليمن وأدبائها ومفكريها، وعلى جماجمهم يعتلي أحمد العرش ملكاً، فتكون مناسبة اعتلائه العرش هي التي ساق القائم بالأعمال المصري خطاب أَماديحه تعبيراً عن موقف القيادة المصرية والتي تتطلع الطلائع اليمنية إليها لتكون سندها في حركة كفاحها الوطني والديمقراطي للإطاحة بالنظام الإمامي - الملكي الأشد رجعية وتخلفاً. فلا يكون من القائم بالأعمال المصري إلا أن يسوق خطاباً سياسياً شديد الخذلان لمختلف طلائع الشعب اليمني باختلاف توجهاتها وميولها.
يتجاوز الدبروطي ما قد يعذره عليه المراقب من متطلبات المجاملة الدبلوماسية أو لما يزيد عن ذلك مما تقتضيه متطلبات المناورة السياسية في اجتذاب النظام المتوكلي في اليمن نحو مواقف سياسية قومية تحررية فيقع الدبروطي في مواقف لا يدعوه إليها داعٍ، إذ يخوض في أماديح، هي مما لا يجرؤ عليه إلا أهل النفاق والزلفى المحيطون بكل طغمة مستبدة، ابتداءً من استشهاده بقول أحد الشعراء في تهنئة الإمام بهذه المناسبة:
الله آثر بالخلافة أحمدا ... ورآه ناصرها الذي لا يخذل
هي أفضل الرتب التي جعلت له ... دون البرية وهو منها أفضل
ويواصل سرد أبياتها الممجوجة في المدح حتى يقول:
فاسلم أمير المؤمنين لأمة ... أنقذتها والناس حيران ضلل
والله نسأل أن تعمر ظافراً ... فدوام عصرك خير شيء يسأل
وينتقل للتحدث عن نشأة الإمام العلمية مشيداً بنبوغه العلمي في علوم الدراسة "نبوغاً منقطع النظير، وجادت قريحته بمؤلفات عظيمة في الدين" فهي شهادة يسرح بها دبلوماسي في غير ميدانه، وحيث يأخذ المؤرخون المنصفون على ضعف حصيلة الإمام أحمد وتواضع جاهزيته العلمية، ثم ينتقل الدبروطي للإشادة بموقف أحمد من حربه مع الزرانيق الذين نالوا من تنكيله ما يشبه الإبادة الجماعية فقال: "إن موقعة الزرانيق تشهد لجلالته بأنه عسكري ثاقب الفكر يعيد النظر في الاستراتيجية والتكتيك وسائر الحروب". ثم شهد زوراً للإمام أحمد بأن "له معارك حامية الوطيس ضد الإنجليز الذين احتلوا الجنوب اليمني" بينما كانت المعارضة الوطنية تشدد في نقدها للإمام أحمد لموادعته للاحتلال البريطاني للجنوب اليمني.
وقد بلغ الأمر بالدبروطي حداً تجاوز فيه المعقول كله، فشهد للإمام أحمد بدور قومي مشرف بالجهاد لصالح فلسطين أثناء حرب النكبة الأولى عام 1948، فزعم الدبروطي أنه لما "حمي وطيس القتال بين العرب واليهود سارع الإمام أحمد بقواته وماله لدرء الخطر عن فلسطين العربية". فالإمام أحمد لم يحرك جندياً واحداً، ولا يعلم أنه ساهم بجنيه واحد في دعم الموقف الحربي للجيوش العربية آنذاك، ثم أضاف الدبروطي موقفاً قومياً محموداً للإمام أحمد في نصرة قضية فلسطين، أثناء الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى عام 1948 بقوله عن الإمام أحمد: "وطرد اليهود من اليمن.. وطهر بلاده منهم.. وكان عددهم خمسين ألفاً". فامتدح موقفاً خيالياً قومياً للإمام أحمد في كونه تطوع بقوة بشرية ضخمة من اليهود اليمنيين ليكونوا قوة محاربة في صف الكيان الصهيوني الوليد. [راجع جريدة سبأ العددان 146 و 147، تعز 12/12/1957، ص2].
في الحلقة القادمة والأخيرة: أصالة الفكر السياسي مع النبوغ المبكر