صنعاء 19C امطار خفيفة

الجرائم الاقتصادية والاجتماعية لحرب صيف عام 94م

تعودوا على الولوغ في دماء الناس، وفي دماء الأبرياء من المدنيين والجنود والضباط الذين لا حول لهم ولا قوة في رفض الأوامر.. هؤلاء هم مصاصو الدماء الحقيقيون الذين لا يكتفون بمص دماء الضحايا، وإنما تحويل الحروب إلى تجارة رابحة، فتجارة الحروب تدر عليهم أموالًا طائلة، فهم ينهبون المالية العامة للدولة ومخصصات الموظفين بحجة الحرب المفروضة عليهم من الدول الاستعمارية التي تريد شرًا ياليمن!

كما يخفضون قيمة العملة عن طريق الإصدار النقدي (طبع النقود)، ويفرضون الإتاوات على التجار وبالدولار.. لقد دفع ثمن حرب صيف عام 94م الشعب اليمني شمالًا وجنوبًا من قوته، ومازال حتى اليوم يدفع ثمنها.. هناك موظفون كانت رواتبهم الشهرية تعادل 800 دولار قبل الحرب، وبعد الحرب أصبحت لا تساوي 200 دولار، لأن التضخم النقدي ارتفع، فاضطروا من أجل أن يواصلوا معيشتهم التي تعودوا عليها، أن يبيعوا حلي نسائهم، بل بعضهم باعوا منازلهم وما يمتلكون من أصول من أجل أن يحافظوا على مستوى معيشتهم وكرامتهم!
وتحول ما يقرب من 70% من الطبقة الوسطى إلى تحت خط الفقر، إذ ارتفعت معدلات الفقر بعد الحرب إلى 50%، وكانت قبل الحرب لا تصل إلى 20%، وزادت نسبة الأمية لأن الآباء لم يستطيعوا أن يعلموا أولادهم بسبب عدم قدرتهم على شراء مستلزمات التعليم لهم، إذ زادت الأمية منذ حرب صيف عام 94 بنسبة 30%.
وعلينا قبل الإجابة على سؤال: من دفع ثمن حرب صيف عام 94م التي تم التخطيط والتنفيذ لها من جانب الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، ضد الشعب اليمني على وجه العموم، والشعب في الجنوب بوجه خاص؟ أن نسأل أنفسنا، لماذا فجرت تلك الحرب؟ والإجابة هو أن الرئيس الأسبق كان لديه مطامع أسرية وعائلية في حكم اليمن. وكان الحزب الاشتراكي الشريك في مشروع الوحدة يقف حجر عثرة أمام هذا المشروع العائلي القبلي، والمدعوم بعصبية حاشد التي كانت حاكمة في الجزء الشمالي من اليمن، ولا ترغب في دولة حديثة أو ديمقراطية.
وكان هناك تنازع دائم بين الرئيس المخلوع ونائبه علي سالم البيض، حول عائدات النفط، فالرئيس المخلوع كان يريد ما يساوي 10% من عائدات النفط له شخصيًا، يتصرف بها كما يشاء، فيما كان نائب الرئيس علي سالم البيض يريد أن يوظف عائدات النفط في التنمية في جميع أنحاء اليمن. والخلافات لم تقتصر فقط على هذا الجانب، بل تعدته إلى تجاوز الرئيس المخلوع باعتباره المسؤول الأول في الدولة، عن تطبيق اتفاقيات الوحدة، إلى عدم وضع اتفاقيات الوحدة موضع التطبيق، ومنها تحويل العملة إلى الدينار، بدلًا من الريال، هذا فضلًا عن النية المبيتة للرئيس المخلوع وقيادات قبلية، بما في ذلك قيادات حزب الإصلاح، إلى تمييع قيادات الحزب الاشتراكي، وتذويبهم في مستنقعات الفساد الآسنة، والتي كانت سائدة في الشمال منذ ما قبل الوحدة، وهذا ما أكده الشيخ عبدالمجيد الزنداني قبل حرب صيف عام 94م، عندما خطب في أحد الجوامع قائلًا: "لقد وعدنا الرئيس بأنه سيذوب القيادت الجنوبية وقيادات الحزب الاشتراكي، وإذا بهم هم سيذوبوننا"، وهذا يؤكد أن التأثير السياسي للحزب الاشتراكي كان كبيرًا جدًا في المحافظات الشمالية، وكان بالنسبة لكثير من الناس يمثل أملًا في الانعتاق من الفساد والحكم الفردي المستبد.
ولا أدل على ذلك من دخول الحزب الاشتراكي في تنافس سياسي انتخابي عام 1993م، مع المؤتمر والإصلاح، في عمق قبيلة حاشد، وتحديدًا في منطقة ظليمة، وكاد مرشح الحزب الاشتراكي اليمني عضو اللجنة المركزية للحزب الشيخ علي جميل كامل، أن ينجح لو لم يستخدم المؤتمر والإصلاح وسائل غير مشروعة في إنجاح حميد الأحمر، عن طريق نهب صناديق الانتخابات، وفرزها بالطريقة التي يرغبون بها في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وبعد ذلك إنجاح حميد الأحمر بطريقة غير مشروعة، وبطريقة مخالفة لقانون الانتخابات، وبعد حرب صيف عام 94م تم اغتيال الشيخ علي جميل أمام منزله في حي الحصبة بأمانة العاصمة.
والجرائم الاقتصادية لم تبدأ فقط في إشاعة الفساد منذ ما قبل الوحدة، ومحاولة جر رموز الحزب الاشتراكي اليمني إليه، بل كذلك بمحاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الدكتور حسن مكي، الذي كان له موقف واضح ومعارض للحرب من منطلق أن الاقتصاد اليمني لا يتحمل تفجير حرب، لأن أية حرب ستدمره، ولأن الدكتور حسن مكي كان قد رفض الحرب، فقد استحق الاغتيال من وجهة نظر المؤسسة العسقبلية، وبقية القصة معروفة، إذ أجبر حسن مكي على قبول هجر وذبح مجموعة من الأثوار أمام منزله، وقال حينها الدكتور عبدالكريم الإرياني: "اليوم ذبحت الدولة كما تذبح هذه الثيران".
ومن الجرائم الاقتصادية الواضحة التي تعدت على حقوق الشعب وشرائحه الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، عملية الإصدار النقدي (طبع النقود) التي وصلت إلى ثلاثمائة مليار ريال، في حين كان الاقتصاد اليمني غير مؤهل بما فيه الكفاية لتقبل التضخم النقدي الهائل الذي فرض عليه، بحيث يقف بصلابة أمام أي تدهور لقيمة العملة اليمنية (الريال)، وتلك المبالغ المهولة التي طبعت لم يكن رئيس الوزراء حيدر أبو بكر العطاس على علم بها، في حين كان من المفروض أن يكون على علم بها، بل يشارك في التوقيع على قرار الإصدار النقدي، إذ لم يعرف العطاس بذلك المبلغ، إلا بعد وصوله إلى مطار صنعاء، وقد نقل كما يبدو إلى دار الرئاسة بعد ذلك، ومنه بدأ تمويل الحرب.
والثلاثمائة مليار ريال هي التي مول بواسطتها شراء الذمم لكبار القادة العسكريين والسياسيين والقضاة الذين كانوا يعارضون الحرب، ولكن لعابهم يسيل لمرأى المال، هذا فضلًا عن أن الرئيس المخلوع فرض عشرات الملايين من الدولارات على التجار وأصحاب رؤوس الأموال، واستخدم ورقة الإرهاب في تهديدهم وضرب مصالحهم إذا لم يدفعوا، على أن تلك الأموال التي جمعها لم يستخدمها في الحرب، وإنما أضافها إلى أرصدته المالية في البنوك الخارجية، وقد اقتصر تمويل الحرب على المال العام، وعلى حساب الشعب والمواطنين البسطاء الذين دفعوا ثمنها من أقواتهم وأقوات أطفالهم، فإنفاق ما يقرب من ثلاثمائة مليار ريال خلال شهري الحرب أدى إلى ارتفاع سعر الدولار من 30 ريالًا قبل الحرب، إلى ما يقرب من 170 ريالًا بعد انتهاء الحرب.
وهذا قاد إلى موجة كبيرة من التضخم وارتفاع كافة أسعار السلع في السوق اليمنية، وبالتالي انخفاض متوسط دخول المواطنين الشهرية والسنوية، فقد انخفض متوسط الدخول الشهرية للموظفين من 800 دولار قبل الحرب إلى أقل من 200 دولار بعد الحرب، وانخفض المتوسط السنوي لدخل الفرد من 700 دولار إلى أقل من 200 دولار بعد الحرب، وبالتالي اتجاه الشرائح الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة إلى حافة الفقر وتحت خط الفقر، فيما اتجهت الشرائح الاجتماعية ذات الدخول العالية لتعويضها من مصادر مختلفة، فالموظفون الكبار والذين لم يلغوا في الفساد لجأوا إلى الانخراط في الفساد من أجل تعويض مصادر دخلهم، في حين لجأ الموظفون الشرفاء من أصحاب الدخول المحدودة إلى بيع حلي نسائهم وما يمتلكونه من أصول، كمنازل أو قطع أرض، بهدف تعويض الهبوط المريع في قيمة العملة اليمنية (الريال).. ووجدت شرائح أخرى في مضاعفة العمل أو إيجاد أعمال أخرى لهم كمصادر دخل لتعويض دخولهم التي التهمتها الحرب.
أما التجار الكبار وأصحاب المصانع، فقد أضافوا الهبوط في قيمة العملة إلى أسعار السلع التي يبيعونها في الأسواق.. لقد أسفرت عملية "الإصدار النقدي" التي ارتكبها الرئيس المخلوع عن ضرب الطبقة الوسطى التي يتكون معظمها من الموظفين والمثقفين والخريجين الجامعيين، ودخل 70% من هذه الطبقة في صفوف الفقراء، وتم الدفع بهم إلى تحت خط الفقر، إذ كانت نسبة الفقر قبل الحرب أقل من 20% من أبناء المجتمع، وأصبحت بعد الحرب الكارثية تلك 50%، أما اليوم فإن التداعيات الاقتصادية لتلك الحرب أوصلت نسبة الفقر إلى 70%.
وأدى الإفقار المتعمد للمجتمع منذ حرب صيف عام 94م، وحتى اليوم، إلى توسيع دائرة الفساد وارتفاع نسبة الأمية والجريمة في صفوف المجتمع، فقد كادت ظاهرة الرق أن تختفي قبل حرب صيف عام 94م، وظهرت تجارة الأطفال عبر الحدود مع المملكة العربية السعودية وتجارة الرقيق، وهذا ما أكدته وثائق مجلس النواب اليمني، إذ وصل نقاش قضية الاتجار بالأطفال إلى مجلس النواب، وهناك اعتراف رسمي، ومن خلال مصادر سعودية، بأنه تم في إحدى السنوات إعادة خمسين ألف طفل كانوا قد صُدروا إلى الأسواق السعودية بصور متعددة.. كما زادت معدلات الإرهاب، إذ يجد الإرهاب الفقر أرضية خصبة لنموه وتكاثره وازدياده، ولم نشهد فاسدًا كبيرًا يحاكم في محاكم الأموال العامة، بل معظمهم من صغار الموظفين الفقراء الذين يضطرون كما يبدو للمشاركة في الفساد من أجل أن يسدوا رمقهم.
وقد جسد ذلك رئيس محكمة الأموال العامة، وهو أحد القضاة الشجعان من ذوي الضمائر الحية، عندما صرخ قائلًا: "يقدمون لي سراق البيض، ويتغاضون عن سراق الدجاج".. وهكذا فقد وجد كبار الفاسدين الذين أنتجتهم حرب صيف عام 94م، مظلة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، تظللهم، وتغطي على سرقاتهم ونهبهم وفسادهم، لا سيما أولئك الذين يدفعون له 25% من إيراداتهم من الفساد.
وبعد عشرين عامًا من حرب صيف عام 94م، وصل الفقراء في اليمن إلى 70% من السكان، 50% منهم تحت خط الفقر، و20% منهم فقراء غير مدقعين، وهو وفق تصنيف الدارسين الاقتصاديين بالفقر والفقر المدقع، وتؤكد تقارير المنظمات الدولية العاملة في الحقل الإنساني في اليمن، أن ما لا يقل عن 16 مليون يمني أصبحوا بحاجة للمساعدات الإنسانية، ومازالت بعض المساعدات الإنسانية لا تصل إلى مستحقيها من الفقراء بسبب تفشي الفساد، وهذا يعني أن ثلثي المجتمع اليمني أصبحوا يعيشون الكارثة الاقتصادية التي صنعتها حرب صيف عام 94م.
ويمكن هنا الولوج إلى بعض مصادر الإثراء غير المشروع، والتي أدت وتؤدي إلى مزيد من الإفقار والتجويع لشرائج اجتماعية واسعة كانت يمكن أن تسهم إسهامًا فعالًا في البناء التنموي والاقتصادي. لقد وصل اللصوص الكبار أو الحيتان الكبار كما يقال، بأن يخصصوا ما يقرب من ثلث موازنة الدولة الرسيمة للنهب تحت بند "اعتمادات مركزية"، فضلًا عن العجز السنوي للموازنة في نهاية كل عام، وتوزيعه لكبار اللصوص والحرامية، يصرفونها كما يشاؤون، وكان سعار الفساد ازداد بعد حرب صيف عام 94م، وأصبح الفساد رسميًا، إذ أصبح ما يقرب من ثلث موازنة الدولة تصرف كاعتمادات مركزية في نظر الرئيس، ومن خلال هذا البند يتم تفريخ الأحزاب والمشايخ والتجار الكبار ورجال الأعمال الذين يعملون لحسابهم في غسيل الأموال، وفي محاصرة التجار الشرفاء والمقاولين الذين أفلس الكثير منهم، وانتحر من انتحر، حيث كانت تجارة التهريب إحدى وسائل الحرب ضد التجار الكبار ورجال الأعمال وأصحاب المصانع، إذ توقفت كثير من مصانع القطاع الخاص بسبب السماح لتجارة التهريب والسلع المهربة بمنافسة منتجات تلك المصانع، وقد أدت خصخصة وإغلاق عدد من مصانع القطاع العام إلى تحويل عشرات الآلاف من العمال إلى رصيف البطالة.
أما في ما يتعلق بالتنمية، فلا يخصص لها في الموازنة العامة للدولة، إلا جانب شكلي يتم نهبه في نهاية العام، وتقاسمه، وأصبحت التنمية تعتمد بشكل كبير على المعونات والهبات والمنح والمساعدات التي تقدمها الدول والمنظمات الدولية، والتي كانت تصل في المتوسط سنويًا إلى مليار دولار، ومع ذلك حتى هذه كان يتم التحايل عليها وسرقتها، وهو ما دفع بكثير من الدول والمنظمات إلى الإيعاز لسفاراتها ومكاتبها في اليمن بالإشراف على المشاريع الممولة من تلك الدول والجهات، خوفًا من أن يلتهمها لوبي الفساد.
لقد تعددت مصادر الفساد، وأصبحت تلك المصادر تخدم طبقة اجتماعية متجانسة وواسعة من كبار القوم، تجمعها الجرائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد عمل منظرو الفساد على شحذ قرائحهم، وظهر شعار "الفساد ملح التنمية"، وهو أول شعار يرفع في دولة نامية وفقيرة تعيش على التسول والصدقات، ومن تلك المصادر، الموازنة العامة للدولة، والعجز السنوي الذي كان يتجاوز المحدد قانونًا سنويًا، وفوارق أسعار النفط، ونهب أراضي وأملاك الدولة والأوقاف.. كما أنشأوا عشرات الصناديق التي لا تدخل إيراداتها في الموازنة العامة للدولة، وأصبحت تصرف كرواتب ومكافآت للفاسدين، وهذه تصل إيراداتها في المتوسط سنويًا إلى ما يقرب من مائة مليار ريال يمني.. هذا غير العمولات التي كانوا يحصلون عليها من اتفاقيات التنقيب وإنتاج النفط والغاز، والتي قدرت بمليارات الدولارات.
وإضافة إلى مصادر الفساد، فقد تم الاستيلاء على مزارع الدولة وأراضٍ شاسعة في المحافظات الجنوبية، قدرت بعشرات الآلاف من الهيكتارات، بعد حرب صيف عام 94، وخصخصوا عشرات المصانع التي استولوا عليها في أعقاب الحرب، وباعوها لأنفسهم بأثمان بخسة، أو لأقربائهم، ودمروا قدراتها الإنتاجية، ورموا بالعاملين فيها إلى الشوارع، واستولوا على مواقعها، وباعوها كبقع للباحثين من التجار وأصحاب رؤوس الأموال الطفيلي ممن يرغبون بالاستثمار في التنمية العقارية وبناء المساكن والعمارات والفنادق السريعة العائد.
وهكذا، فقد رموا بمئات الآلاف من اليد العاملة اليمنية من عمال المصانع ومن العاملين في مزارع الدولة والموظفين، إلى رصيف البطالة.. كما تم إفقار الموظفين الذين يعملون في جهاز ومؤسسات الدولة، ممن وقعوا تحت خط الفقر في مستوى دخولهم الشهرية والسنوية، بعد تخفيض قيمة العملة، وهو نوع من المصادرة للعيش الكريم الذي كان يعيشه أولئك الأفراد، وحرمانهم من الحقوق الإقتصادية والاجتماعية كالعيش الكريم والتعليم والتطبيب، الأمر الذي مثل نوعًا من الاعتداء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تتمتع بها شرائح واسعة في المجتمع اليمني قبل الوحدة وقبل الحرب، في الشمال والجنوب. وبذلك تعتبر تلك الإجراءات جرائم اقتصادية واجتماعية بحق المجتمع اليمني، والميثاق الدولي لحقوق الإنسان يعتبرها انتهاكًا لحقوق الإنسان المكتسبة، وأي اعتداء عليها، سواء بالمصادرة أو بالحرب، ولأهداف أنانية ضيقة، من أجل الانفراد بالحكم، أو تسلط فرد أو أسرة أو عشيرة أو قبيلة أو طائفة، يعتبر جرائم اقتصادية واجتماعية لا تسقط بالتقادم.

الكلمات الدلالية