صنعاء 19C امطار خفيفة

بين المكيدة والتحالف:

قراءة استراتيجية في مقال أنور العنسي عن علي عبدالله صالح

لقد تفضّل الأستاذ والصديق أنور العنسي بإرسال مقاله التحليلي القيّم إليّ بعنوان "علي عبدالله صالح والإسلام السياسي.. ألاعيب ومجازفات"، وما إن بدأت قراءته حتى وجدت نفسي أعود ربع قرن إلى الوراء، إلى أحداث عشناها وخضناها، أحداث كانت جزءًا من نبض يومياتنا السياسية والعسكرية والاجتماعية، حتى إن كثيرًا منها مازال حيًا في الذاكرة رغم محاولات النسيان. ما كتبه الإعلامي الشهير الأديب والكاتب والمؤرخ الأستاذ أنور العنسي كان رصدًا دقيقًا، ليس لأنه يسرد تاريخًا، بل لأنه يقترب من "عقل" تلك المرحلة، من خيوط اللعبة المعقّدة التي نسجها الرئيس علي عبدالله صالح على مدى ثلاثة عقود، لعبة اختلط فيها الإرهاب بالسياسة، والسعودية بالداخل اليمني، وأمريكا بالقبائل، والحوثيون بالحرس الجمهوري، وإيران وحزب الله، حتى بدا كأن الجميع يتحرك في مساحة رسمها رجل واحد كان يفهم اليمن كما يفهم اللاعب الشطرنجي لوحة معقدة يعرف كل مفاتيحها.

في قراءتي لمقال أنور، تذكرت أولًا حديثه عن علاقة صالح بالقاعدة، وهي علاقة لا يمكن فهمها إلا من زاوية المناورة، وليس من زاوية التحالف أو العداء. فقد اضطرّت أمريكا -كما ذكر أنور- إلى التعامل معه رغم معرفتها بمراوغاته، لأن "التعامل مع الكذاب أقل كلفة من محاربته إذا ما تحالف علنا مع القاعدة"، والكل لايزال يعرف تلك المسرحية السخيفة التي قيلت عن هروب أعضاء القاعدة المتورطين في أحداث البارجة الأمريكية "يو إس إس كول"، حيث قالت رواية الأمن السياسي إن تلك المجموعة تمكنت عن طريق حفر نفق من داخل الأمن السياسي إلى جامع الستين الجنوبي المقابل لمبني الأمن السياسي، بملاعق الأكل، فعلق الأستاذ أحمد الفضلي المشهور بقفشاته الظريفة: الملاعق حقنا تكتسر في صحن الرز، وهذه الملاعق تخترق الأبيات، إنها ملاعق علي بابا والأربعين حرامي!
والعبارة تلخّص السياسة الأمريكية تجاه صالح خلال عقدين، إذ لم تكن واشنطن جاهزة لتحمّل كلفة صدام مباشر مع نظام يعرف دهاليز اليمن، ويملك قدرة على خلق الفوضى بدلًا من الاحتواء. ومع أنور عدت بذاكرتي إلى حادثة تفجير المدمرة الأمريكية "كول"، عندما خرج صالح ليقول إن الانفجار وقع من داخل البارجة، بينما كانت صور الحادثة أوضح من أن يتم الالتفاف عليها: التمزق كان من الخارج إلى الداخل، أي من قارب انتحاري كما قالت كل التقارير. وقد بدت تصريحات صالح حينها مريبة جدًا، وكأنها محاولة لصناعة رواية بديلة تربك التحقيقات، وكانت تلك الحيلة جزءًا من منهجه في إدارة الأزمات: خلط الأوراق بدل أن يقدّم إجابة واحدة واضحة.
ثم انتقلت مع مقال أنور إلى حروب صعدة، وهي واحد من أكثر الملفات تعقيدًا في تاريخ اليمن الحديث. ما لم يقله البعض بوضوح هو أن صالح كان يعرف -كما نعرف نحن في تلك الحقبة- أن السعودية كانت تسعى لإخلاء القرى الواقعة على الخط الفاصل الذي حددته اتفاقية جدة 2000 سيئة الذكر، وأن تدمير أكثر من 450 قرية في تلك المناطق لم يكن حدثًا عابرًا، بل خطوة في مشروع ديموغرافي -حدودي. غير أن اليمن، بطبيعته الجبلية وانعدام أراضٍ بديلة واسعة، كان عاجزًا عن استيعاب تهجير سكان تلك القرى داخل أراضيه، وهو ما عرّض صالح لضغوط كبيرة، وجعله في كل حرب من حروب صعدة يجرح مرارًا من السعودية ومحورها، حتى بات من الواضح أنه يحاول إدارة المعركة بطريقة تبقي خيوط اللعبة في يده هو، وليس في يد الرياض.
وأذكر تمامًا ما جاء في مقال الأستاذ أنور أن السعودية كانت تستدعي علي محسن قبل كل جولة قتال في صعدة بنصف شهر، لكن صالح كان يرى في تلك الحروب فرصة لإنهاك قوات الفرقة الأولى مدرع، ليضعف نفوذ علي محسن، وليعزز بالمقابل قوة الحرس الجمهوري الذي يقوده ابنه أحمد علي، الذي كانت حروبه فاشلة، ولما تقود العمالقة الحرب تكون النتائج لصالح العمالقة، وقد بلغني ممن أثق في صدق روايته أن الرئيس علي عبدالله صالح، استدعى اللواء الركن القائد البطل علي الجايفي، وسأله عن السبب؟ فكان رد اللواء علي صريحًا وقويًا، قائلًا: أنا أتقدم صفوف الجنود وأحمد علي في معسكره يمارس الفتنة بين كبار ضباط الحرس!
ولذلك كانت الحرب الخامسة تحت إشراف الرئيس صالح مباشرة، فأرسل في الخامسة إلى السعودية قبيل الحرب الخامسة رشاد العليمي، للتنسيق واستلام التمويل الذي كان يقدم في الحروب الأربع للجوال علي محسن، ثم في الحرب السادسة أعطى المهمة لعلي الآنسي، وتولى الحرس الجمهوري زمام الميدان بدلًا من الفرقة. هنا يتضح بجلاء أن صالح لم يكن يخوض الحروب من أجل "الحسم"، بل من أجل "إعادة ترتيب القوى" داخل اليمن، ولصالح مركز نفوذه العائلي.
ولم يكن خافيًا على صالح أن السعودية اكتشفت تلاعبه في أكثر من مرة عندما أوقف الحرب فجأة لتكون نتيجتها لصالح أنصار الله، حتى إنه في الحرب السادسة تهكّم على السعوديين رغم أنهم دخلوا المعركة بكل قواتهم البرية والجوية والبحرية. وقد قالها بوضوح ساخرًا: "كل الحروب الخمس الماضية ما كانت إلا بروفات". لكنه في تلك "البروفة السادسة" وقف موقفًا سلبيًا تجاه الحسم، مما قاد إلى فشل السعودية في تحقيق أهدافها، وأتاح لأنصار الله أن يتحولوا إلى قوة لا يُستهان بها، ثم إلى لاعب إقليمي مدعوم من حزب الله وإيران بلا أدنى شك، وهي النتيجة التي نعيش آثارها اليوم.
ومن هذا كله، ومن قراءة مقال أنور، يتضح أن هذه الحقبة الممتدة من حروب صعدة إلى تحولات ما بعد 2011م، هي المرحلة التي صنعت جماعة أنصار الله بوصفها قوة سياسية/ عسكرية مركزية في اليمن، فقد تعارضت المصالح بين الرئيس عبد ربه منصور وصالح، كما تقاطعت أيضًا، فكل منهما سعى أن يكسب ود أنصار الله للتخلص من الآخر، ولكن عبد ربه لعب في الوقت الضائع، فقد سبق للتنسيق والترتيب على أعلى المستويات.
فقد وجد أن مصدر قوة بشار هو تحالفه مع حزب الله المرابط في جنوب لبنان ضدًا على إسرائيل متحالفًا مع سوريا وإيران، وبقراءة سطحية قال إن خير وسيلة لاستعادة حكمه هو بالتحالف مع أنصار الله المرابطين جنوب السعودية والمتحالفين مع حزب الله وإيران، وأرسل الواسطات إلى قائد حزب الله والتنسيق مع السفارة الإيرانية، وعقد اتفاقية تحالف سري مع أنصار الله، لم يظهر إلا في 21 سبتمبر 2014م، وبالتالي فسفر الرئيس عبد ربه منصور إلى عمران قد كان في الوقت الضائع.
وهي مرحلة لا بد من توثيقها بدقة، لأنها إن تُركت فسوف يطويها النسيان رغم أنها كانت حجر الأساس لليمن الذي نراه اليوم. ولذلك فإن طلبي من الأستاذ أنور العنسي أن يتوسع في هذا الموضوع، ليس طلبًا توثيقيًا فحسب، بل ضرورة تاريخية، بخاصة وأنه أخبرني بأنه بصدد إعداد كتاب عن الرئيس علي عبدالله صالح. وليته يخصص فصلًا كاملًا لهذه المرحلة، بجوانبها المحلية والإقليمية، وبطبيعة التحالفات التي نسجها صالح مع خصومه، وبحقيقة عبارته الشهيرة: "حكم اليمن كمن يرقص على رؤوس الثعابين".
بهذه القراءة، لا أجد نفسي إلا شاكرًا للأستاذ أنور العنسي على مقاله الذي أعاد فتح ملفات ظن البعض أنها طويت، وعلى تحليله الذي أعاد ترتيب الذاكرة، وعلى شجاعته في تناول مرحلة شديدة الحساسية من تاريخ اليمن. أما ما أضفته أنا هنا فهو شهادة من عاش جزءًا من تلك الأحداث، ويراها اليوم بشكل أكثر وضوحًا، لأن التاريخ -كما يقال- لا يُفهم إلا بعد أن يبتعد المرء خطوة إلى الوراء ليرى الصورة الكاملة.

الكلمات الدلالية