الظاهرة العربية في الثورة والثقافة والتحولات
منذ أكثر من قرن والعالم العربي يعيش داخل دائرة متكررة من التوتر بين الرغبة في التغيير والخوف منه، بين الانفتاح على العصر والانغلاق على الماضي، بين ثورات تعلن نفسها لحظة خلاص وبين ثقافات تبحث عن هوية ضائعة في زمن متسارع.
هذه الجدلية ليست مجرد أحداث متفرقة، بل هي ما يمكن تسميته بالظاهرة العربية. لحظة تاريخية ممتدة تعيد إنتاج نفسها جيلًا بعد جيل، حيث تشتعل الثورات، وتتصدع البنى القديمة، وتولد آمال جديدة، ثم سرعان ما يعاد إنتاج نفس المنظومات التي كان يفترض تجاوزها.
الثورة في العالم العربي لا يمكن فهمها كواقعة سياسية فقط، بل كتعبير عن مأزق حضاري عميق، فمنذ ثورات الاستقلال ضد الاستعمار في منتصف القرن العشرين، كان العرب على موعد متكرر مع الوعد بالتغيير، الاستقلال الوطني، الجمهورية، الوحدة، الاشتراكية، الديمقراطية، الربيع العربي، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو أن الثورة رغم قوتها الرمزية غالبًا ما توقفت عند حدود تغيير الشكل دون الجوهر، ففي كثير من الحالات سقط الاستعمار ليرتفع مكانه استبداد وطني، وانتهت الجمهورية إلى جمهورية ملكية يتوارثها الزعماء وأبناؤهم، وحتى حين اندلعت ثورات حديثة كالربيع العربي التي حملت أصوات الشباب وصرخات الشوارع، فإنها إما تحولت إلى حروب أهلية وصراعات دموية، أو أجهضت سريعًا أمام قوة الأنظمة العميقة والتحالفات الإقليمية والدولية.
ما يجعل الثورة ظاهرة عربية خاصة، هو أنها ليست مجرد أداة تغيير سياسي، بل هي صرخة وجودية تبحث عن معنى جديد للعروبة، عن تعريف مختلف للحرية، عن مشروع جامع بين الفرد والجماعة، لكن هذه الصرخة كثيرًا ما تختطف إما باسم الدين أو باسم الأمن أو باسم الحداثة الشكلية. وهكذا يتحول الحلم الثوري إلى جرح مفتوح يحمل معه ذاكرة الهزيمة أكثر مما يفتح باب الأمل. وإذا كانت الثورة هي الجرح، فالثقافة هي المرآة التي تعكسه.
الثقافة العربية لعبت دائمًا دورًا ملتبسًا، فهي أحيانًا تشعل شرارة الوعي، وأحيانًا أخرى تتحول إلى أداة تبرير للسلطة أو سوق للاستهلاك، فالشعر العربي الحديث مثلًا لم يكن مجرد فن جمالي، بل كان حاملًا للرسالة الثورية من محمود درويش إلى أمل دنقل، ومن البردوني إلى نزار قباني. وفي المقابل رأينا كيف تحولت بعض المؤسسات الثقافية إلى أبواق رسمية تصوغ خطابًا دعائيًا يزين صورة الاستبداد أو يسوق للوهم القومي.
المثقف العربي وجد نفسه دائمًا في موقع هش، إما أن يكون معارضًا منفيًا أو مهمشًا أو ملاحقًا، أو أن يدخل في تحالفات مع السلطة لينجو من قمعها. هذا المأزق أنتج ما يمكن تسميته ثقافة مشوشة؛ لا هي قادرة على قيادة التغيير بوضوح، ولا هي راضية بالانصياع التام. والنتيجة أننا أمام خطاب ثقافي يشتعل أحيانًا في المظاهرات والساحات، ثم يخبو في صمت المكاتب المغلقة، دون أن يتحول إلى مشروع فكري أو تربوي يعيد تشكيل وعي الناس.
الثقافة هنا ليست الكتب والأشعار فقط، بل أيضًا السينما والمسرح والموسيقى والفضاء الرقمي. ومع ذلك فإن التحدي الأكبر أن هذه الثقافة لم تستطع بعد أن تنجز قطيعة معرفية حقيقية مع البنى التقليدية، سواء كانت قبلية أو دينية أو سلطوية. بقيت الثقافة العربية مثل الثورة في منطقة وسطى، لحظة انفتاح قصيرة يعقبها انغلاق طويل. أما التحولات الاجتماعية والفكرية التي عاشها العالم العربي في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فهي عميقة ومتشابكة، فقد تغيرت بنية المجتمع مع توسع المدن وتراجع البداوة، وصعدت المرأة لتأخذ أدوارًا جديدة في التعليم والعمل والسياسة، وظهرت أجيال رقمية لا تعرف الحدود الجغرافية مثلما عرفها آباؤها. ومع ذلك فإن هذه التحولات لم تصل إلى مرحلة الاكتمال، فالمجتمع العربي يعيش ما يمكن وصفه بالبرزخ التاريخي؛ لا هو قادر على العودة إلى الماضي بكل ما يحمله من يقينيات، ولا هو قادر على الدخول الكامل في العصر الحديث بكل ما يتطلبه من عقلانية وحرية ومؤسسات ديمقراطية. هذا التعليق في منتصف الطريق يجعل التحولات العربية ناقصة، فهي تغييرات شكلية أحيانًا، أو تحولات مجتزأة لا تعبر إلى العمق، فعلى سبيل المثال نرى انتشار التعليم والجامعات، لكن دون إنتاج معرفة حقيقية أو عقل نقدي مستقل، نرى حضورًا أكبر للمرأة في الفضاء العام، لكن في ظل قيود ثقافية واجتماعية تعيد تقييدها بأشكال أخرى، نرى استخدامًا واسعًا للتكنولوجيا، لكن مع توظيفها في الاستهلاك والتفاهة أكثر من توظيفها في الإبداع والمعرفة.
وإذا ما قارنا هذا الواقع العربي بما يحدث في الدول المتقدمة، نجد الفارق صارخًا، فحين تواجه المجتمعات المتقدمة أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فإنها تلجأ إلى مؤسسات قوية راسخة قادرة على امتصاص الصدمات، وتعيد إنتاج نفسها بمرونة، فالثورات في الغرب لم تعد دموية، بل أصبحت صناديق اقتراع وتداول سلطة، والتغيرات هناك لا تقود إلى انهيار كامل، بل إلى انتقال سلس نحو نظام أكثر عدلًا. أما الثقافة في العالم المتقدم فهي جزء من البنية الديمقراطية، وليست مجرد ترف أو أداة دعاية، إذ يملك المثقف استقلالية وقوة تأثير تمكنه من مراقبة السلطة ونقدها دون خوف من النفي أو السجن، والتحولات الاجتماعية هناك لا تبقى في منتصف الطريق، بل تستكمل مسارها لتنتج أنماط حياة جديدة ونظمًا معرفية واقتصادية تعيد تشكيل المجتمع من جذوره.
لقد نجحت تلك المجتمعات في تحويل الأزمات إلى فرص، وفي جعل التحولات ركيزة للنمو لا مصدر قلق دائم، بينما في العالم العربي ماتزال الأزمة تعني انهيارًا، والثورة تعني فوضى، والتحولات تعني صراعًا هوياتيًا أكثر مما تعني مشروعًا نحو المستقبل. وهنا يتضح أن الفرق ليس في طبيعة الشعوب بقدر ما هو في طبيعة المؤسسات والوعي الجمعي، وفي الإرادة السياسية التي تتيح للمجتمعات المتقدمة تجاوز أزماتها، بينما تترك المجتمعات العربية أسيرة إعادة إنتاج الماضي.
وعند النظر إلى الثورة والثقافة والتحولات كوحدة واحدة، تتضح لنا ملامح الظاهرة العربية، ثورات غير مكتملة تنتهي إلى إعادة إنتاج نفس البنى السلطوية، ثقافة ممزقة بين خطاب التنوير وخطاب التبرير، عاجزة عن حسم موقعها، وتحولات اجتماعية وفكرية ناقصة تجعل المجتمعات عالقة بين زمنين.
النتيجة أن العالم العربي يعيش حالة انتظار دائم، انتظار الحرية، انتظار العدالة، انتظار النهضة، وكأن التاريخ لا يتقدم إلا ليتراجع خطوة أخرى. هذه الظاهرة ليست لعنة قدرية، بل نتاج شبكة معقدة من العوامل الداخلية والخارجية، سلطة سياسية متجذرة في الاستبداد، نخبة ثقافية غير قادرة على بناء مشروع جماعي، شعوب مثقلة بذاكرة الهزائم، ونظام عالمي لا يرى في المنطقة سوى مجال للهيمنة والنفط والصراعات الجيوسياسية.
ومع ذلك، يظل في هذه الظاهرة جانب إيجابي خفي، فالثورة لم تمت رغم قمعها، والثقافة لم تهزم رغم تشرذمها، والتحولات لم تتوقف رغم بطئها، بل يمكن القول إن قوة هذه الظاهرة تكمن في كونها لم تستقر بعد، فهي حالة مخاض مستمرة، وربما تكون هذه الهشاشة فرصة أيضًا، فحين يعي الجيل الجديد مأزق الثورات السابقة، ويكتشف حدود الثقافة القديمة، ويقرأ التحولات بشكل نقدي، يمكن أن يولد مشروع مختلف يعبر بالأمة من هذه الحلقة المفرغة.
المستقبل لن يبنى على وهم العودة إلى الماضي، ولا على استنساخ ثورات لم تنجح، بل على القدرة على دمج الحرية بالمعرفة، وعلى تحويل الثقافة من خطاب نخبوي إلى وعي جماهيري، وعلى استكمال التحولات الناقصة لتصبح مشروعًا حضاريًا متكاملًا.
إن الظاهرة العربية ليست فقط في الثورة، ولا في الثقافة، ولا في التحولات، بل في العلاقة الملتبسة بين هذه العناصر الثلاثة، هي ظاهرة تعكس مأزقنا التاريخي، وتفضح حدودنا، لكنها في الوقت ذاته تحمل بذور تجاوزنا. نحن لسنا أمام نهاية التاريخ، بل أمام جرس إنذار يذكرنا أننا نعيش زمن المخاض، وربما يكون الاعتراف بجرحنا هو الخطوة الأولى نحو شفاء طويل المدى، يعيد للعرب معنى الثورة وكرامة الثقافة وجدوى التحولات.