د. أبو بكر القربي: من طبيب في عدن إلى دبلوماسي على خرائط العالم

في حوارٍ يفتح نوافذ الذاكرة على ثمانية عقود من التحولات اليمنية والعربية، يستعيد وزير الخارجية اليمني الأسبق الدكتور أبوبكر القربي محطات حياته ومسيرته في الطب والدبلوماسية والسياسة، كاشفًا عن بداياتٍ شكلت وعي جيلٍ كامل عاش بين زمن الاستعمار وبواكير الاستقلال، بين عدن النابضة بالتنوع والانفتاح، وصنعاء الغارقة في البساطة والتاريخ.
في هذه الحلقة من سلسلة "حكايتي" مع الزميلة رحمة حجيرة، نرافق الدكتور القربي في رحلة فكرية وإنسانية ثرية؛ من "المعلامة" ومساجد عدن في أربعينيات القرن الماضي، إلى قاعات كلية الطب في إدنبرة ومختبرات شيكاغو، ثم إلى قاعات التفاوض وصناعة القرار في السياسة اليمنية الحديثة. رجلٌ بدأ حياته مرتديًا المعطف الأبيض، قبل أن يخلعه لاحقًا ليرتدي بدلة الدبلوماسية ويصبح أحد أبرز الفاعلين في مسار اليمن الخارجي خلال العقود الماضية.
يروي القربي تفاصيل نشأته في بيتٍ محافظ من أصول بيضانية هاجر إلى عدن مطلع القرن العشرين، ويتوقف عند ملامح التعليم والنظام البريطاني، وأثر المد القومي وإذاعة «صوت العرب» في تشكيل وعيه السياسي المبكر، كما يستعيد أولى تجاربه في العمل العام خلال مظاهرات دعم مصر عام 1956، وانخراطه في النشاط الطلابي المؤيد لحركات التحرر والاستقلال.
ويمتد الحوار ليضيء محطات محورية في مسيرته العلمية والمهنية: من دراسة الطب في بريطانيا وتجربة التدريب في أمريكا، إلى الهجرة المؤقتة إلى كندا والعمل الأكاديمي هناك، ثم العودة إلى اليمن في لحظات التحوّل الكبرى بعد الاستقلال.
وبين سطور الشهادة، تتجلى بدايات وعيه بالوحدة اليمنية، ورؤيته المبكرة للدولة المدنية والقيم الوطنية، وانخراطه في الجبهة القومية ومتابعته الحراك السياسي من الخارج.
إنها سيرة رجلٍ جمع بين الطبيب والأكاديمي والدبلوماسي، ليقدّم في هذا الحوار شهادة ثرية عن كيف تتقاطع الحياة الشخصية مع التحولات الوطنية الكبرى في مسيرة اليمن الحديث.
"النداء" تنشر النص الكامل للحلقة بالتزامن مع عرضها المصوّر على قناة "حكايتي" في يوتيوب.

رحمة: مساء الخير. ضيفي اليوم رجل اعتاد أن يرتدي المعطف الأبيض، وأقسم قسم "هيبوقراط"، قبل أن يخلع ثوبه الطبي لاحقًا ليرتدي ثوب الدبلوماسية، ويشارك في قاعة المفاوضات الدولية: الدكتور أبوبكر القربي، الرجل الذي قرر أن يضع اليمن على خارطة العالم وعلى طاولة السياسات بدل المختبرات.
تابعونا لنتتبع أول خيط في سردية الدكتور أبوبكر القربي، الذي استخدم نفوذه الدبلوماسي لمحاولة تأسيس عملية السلام واستئناف المصالحة الوطنية في اليمن.
أهلًا وسهلًا بك دكتور، ونحن سعداء أننا سننهل من ذاكرتك الغنية وخبرتك الطويلة في مجال السياسة والدبلوماسية والأكاديمية والطب أيضًا.
القربي: شكرًا جزيلاً لكِ لدعوتي للمشاركة في برنامجك "حكايتي" وكما تعرفين، إن المرء عندما يبدأ الحديث عن حياته في سن متأخرة، تكون الذاكرة قد خانته في بعض الأحيان، ولكن سنحاول أن نعيد الذاكرة إلى مجراها الصحيح.
رحمة: أنا لدي ثقة بأنك ستتذكر، لأن هناك أحداثًا مهمة تعرضتَ خلالها لضغوطات كثيرة، ستكون عالقة إن شاء الله، نبدأ من تاريخ ميلادك عام 1940 في عدن. حدّثنا عن نشأتك، وضع والديك، وظروف أسرتك في تلك الفترة.
القربي: أسرتي "آل القربي" هم أصلًا من البيضاء. نزح جدي لوالدتي إلى عدن في بداية القرن العشرين، تقريباً عام 1905. ووالدتي من مواليد عدن. جدي كان رجل أعمال في التجارة ومسؤول البيت التجاري في عدن. ووالدي تولّى مسؤولية إدارة الأعمال التجارية بعد وفاة جدي، وتزوج بوالدتي التي هي ابنة عمه.
بعد ذلك بدأت مسيرتي في عدن، دراسةً، ووصلتُ إلى المرحلة الثانوية في عدن، ومنها ابتعثت إلى بريطانيا لدراسة الطب.

رحمة: وقبلها، هل هناك ذكريات معيّنة تربطك بميناء عدن؟
القربي: أعتقد أن أهم الأشياء التي تربطني في تلك المرحلة هي التربية الدينية التي رسّخها والدي منذ بداية الطريق. وأنا في سن الخامسة عرفت "المعلامة" عندما أُرسلتُ إلى مدرسة تحفيظ القرآن في مسجد "بانصير" في كريتر، وهو قريب من منزلنا. ولأن عدن كانت في تلك الفترة لا تسمح للطالب من مواليد عدن بدخول المدارس الحكومية إلا في سن السابعة، ألحقني والدي بمدرسة النجاح، وهي مدرسة أهلية، لمدة سنة، وبعدها سنة في مدرسة بازرعة الخيرية، ثم درستُ في المدارس الحكومية التي كانت تشترط أن من يلتحق بها لابد ان يكون من مواليد عدن.
رحمة: دعنا نسلط الضوء على فترة الدراسة في المعلامة.. هل هناك تفاصيل أو أشياء لا زالت عالقة في ذاكرتك حول طريقة التدريس؟
القربي: كانت غرفة صغيرة مرتبطة بالمسجد، وكنا نجتمع فيها مجموعة من الأطفال، حوالي 20 أو 30 طفلًا، وإمام المسجد يقرأ لنا القرآن ويحفظنا، والعصا بيده، العصا لها ذاكرة قوية في ذهن الإنسان، خاصة في ذلك السن المبكر، وربما أدّت إلى الاستقامة في التصرف فيما بعد.
رحمة: هل كانوا يستخدمون العنف؟
القربي: ليس عنفًا، كانوا يستخدمون عصا الخيزران.
رحمة: وهل درست الأحاديث واللغة العربية حينها؟
القربي: مجرد حفظ قرآن، ولكن ارتبطتُ به إلى أن وصلت لسن العاشرة. واستمرار في توجّه والدي لكي يرسّخ في ذهني التربية الدينية. كانت هناك دائمًا في شهر رجب في عدن مساجد تقيم دروسًا، وكنا نذهب للدراسة فيها. مثل مسجد العسقلاني الذي كان إمامه شفيق البيحاني، أو مسجد الزعفران الذي بجانبنا، حيث يُقرأ القرآن والأحاديث النبوية. وكنا كطلاب نساهم في قراءتها ونسمع الكثير من التفسيرات لها من العلماء.
رحمة: في تلك الفترة، هل كانت النماذج الملهمة لمعاليك دينية أو ذات توجه ديني؟
القربي: أعتقد أنها رسخت في ذهني القيم الدينية، ولكن بدون تزمّت، وبروح عدن التي كانت في تلك الفترة هي روح التسامح والقبول بالآخر. ولم نكن نعرف الأفكار الطائفية أو المذهبية التي نراها اليوم للأسف الشديد.
رحمة: وفي الابتدائية دخلت مرحلة جديدة وفصل أفضل، والخيزران ربما كان أقل استخدامًا.
القربي: عندما دخلنا المدارس الحكومية اختلف الوضع، لأنها كانت مدارس تُدار من قبل الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت، وكان لديها كادر تعليمي مؤهل. وكان اللباس منضبطًا لكل الطلاب، وجميعنا نلبس نفس اللبس. كنا نذهب الى تلك المدارس و يُقدَّم لنا أثناء الدراسة اللبن بدون سكر، وللأسف الشديد كنا نكرهه.
رحمة: هل كان مجاناً؟
القربي:نعم كان كذلك
رحمة: وكيف كان اللبس حينها؟
القربي: قميص أبيض وبنطلون قصير كاكي.

رحمة: وكيف كانت المناهج في المدارس الحكومية في عدن في الخمسينيات آنذاك، وطريقة التدريس؟
القربي: النظام الدراسي في تلك الفترة كان ثلاث مراحل: ابتدائية، ومتوسط، وثانوي. الابتدائي كانت الدراسة فيها باللغة العربية، والمتوسط كان عربي مع الإنجليزية كلغة، والمرحلة الثانوية كانت هناك مدرستان: مدرسة كلية عدن وكانت تدرّس باللغة الإنجليزية، والعربية كانت تُدرّس كلغة فقط، وليست لتدريس المواد المختلفة. وكان هناك أيضًا المعهد الفني في المعلا.

رحمة: يعني كان هناك معهد فني في عدن؟
القربي: طبعًا، كان هناك معهد فني ممتاز في عدن. وكانت الفكرة في ذلك الوقت مبكرة جدًا: أن التعليم لا يجب أن يسير في المسار الأكاديمي فقط، بل أيضًا في التعليم الفني، لأن السوق يحتاج إلى فنيين كما يحتاج إلى أكاديميين. وكلية عدن كانت تهيئ الطلبة الذين يذهبون للدراسة في الجامعات، بينما المعهد الفني يخرّج الطلبة للعمل في السوق المحلية، في الصناعات وغيرها.
رحمة: في تلك الفترة كانت المناهج قوية وكان فيها معلومات واسعة. كم كان عدد الساعات التي كنتم تدرسون فيها؟ ودعنا نبدأ من المرحلة الابتدائية.
القربي: الابتدائية كانت من الساعة 7:00 صباحًا إلى الساعة 1:00 بعد الظهر، والمتوسط كانت تقريبًا إلى الساعة 2:00. في كلية عدن كنا نذهب الساعة 8:00 وندرس حتى الساعة 1:00، ثم كانوا يقدمون لنا وجبة غداء بعد الساعة 1:00 مجانًا.
رحمة: هل كان من الابتدائية إلى الجامعة هناك وجبات؟
القربي: فقط في الثانوية الوجبات، في كلية عدن تحديدًا، لأننا كنا ندرس المنهج البريطاني في الثانوية، وليس منهجًا عربيًا.
رحمة: كانت تُسمى كلية؟
القربي: نعم، كانت تُسمى كلية عدن. وهي وإن كانت ثانوية في حقيقة الأمر، إلا أن مستوى التعليم فيها، أعتقد اليوم، يضاهي الدراسة في الجامعة. وكان نظامها يأخذ النمط الغربي في التدريس؛ لأن الدراسة تبدأ من الثامنة إلى الواحدة، ولدينا ساعة واحدة فقط لتناول الغداء، ثم نعود الساعة الثانية إلى الفصول للمراجعة والقيام بأعمال الدار أو ما يُعرف بالواجبات. وفي هذه المرحلة كان مَن يشرفون على الصفوف الدراسية هم الطلبة الذين في المستوى الأعلى، آخر سنة التخرج. وهذا كان جانبًا يُهيّئ لتربية قيادية للطلبة في كلية عدن.

رحمة: ما الذي كان يُقدَّم لكم للأكل في وجبة الغداء؟
القربي: كنا نأكل لحومًا وأسماكًا.
رحمة: نعود إلى الابتدائية، لأنني أريد أن أسلّط الضوء على والدك. حدّثني عنه، اسمه الثلاثي، وماذا كان يعمل في تلك الفترة؟
القربي: أبي هو عبد الله علوي قاسم القربي، تاجر في المواد الغذائية، وكان يُلقَّب أحيانًا بـ"ملك السكر" لأنه كان يسيطر على تجارة السكر في عدن. وكانت نزعته الدينية قريبة من الصوفية، وكان من الناس الذين يرعون حراك المعارضة للإمام في عدن.
رحمة: كم عدد إخوتك؟
القربي: والدي تزوج اثنتين؛ الأولى أنجبت له ثلاثة أولاد، ووالدتي أنجبت له أربعة أولاد وست فتيات، وترتيبي كان الأول من الزوجة الثانية.
رحمة: هل كان متزوجًا الاثنتين في نفس الوقت؟
القربي: نعم.
رحمة: معنى ذلك أنه في ذلك الوقت لم يكن ممنوعًا الجمع بين اثنتين؟
القربي: لا، لأن هذا كان قبل حكم الحزب الاشتراكي.
رحمة: والقات، هل كان قد وصل إليكم؟
القربي: لا، ووالدي لم يكن يمضغ القات ولا يشرب السيجارة.
رحمة: ما هو مستوى والدك التعليمي؟
القربي: لم يتعلم.
رحمة: ووالدتك؟
القربي: ووالدتي أيضًا لم تتعلم.
رحمة: إلى أي مدى أثّر والدك فيما بعد في تعليمك؟
القربي: أهم شيء في تربية والدي كانت الصرامة، ولكن دون المساس بالشخصية. لم يفرض علينا نمطًا في التصرف، كان يعطينا مساحة للتعبير عن آرائنا، ولكن في نفس الوقت كنا نعرف أن هناك خطوطًا حمراء لهذه الحرية.
رحمة: عندما جاء والدك من البيضاء، ألم تكن هناك تسميات محددة لمن يأتون من المناطق الشمالية، كما يحدث الآن حينما يُطلق على الذين يأتون من تعز إلى عدن "جبالية"؟
القربي: أبدًا. كانت عدن في ذلك الوقت تستقبل القادمين من الشمال من مختلف المناطق. كانوا ينشئون لهم جمعيات: جمعية البيضاء، جمعية قدَس... كل واحد يعرف بنفسه، وتكون هناك هذه الجمعيات التي تربطهم ببعضهم البعض، ويشاركون في مساعدة بعضهم البعض. ولم تكن هناك نظرات دونية لمن يأتون من الشمال في ذلك الوقت، فقط الفرق الوحيد هو أن السلطات البريطانية حرمت مَن يأتي من الشمال أو من المحميات البريطانية في ذلك الوقت من الدخول إلى المدارس.
رحمة: دكتور، هل هناك نصيحة او شيء لا يزال عالق في ذاكرتك عن والدك ولم تنسه أبدًا؟
القربي: أهم شيء هي النصيحة التي وجهها لي والدي عندما ذهبت للدراسة في بريطانيا، والخوف من تأثير الحضارة الغربية عليّ. كانت نصيحته لي التمسك بالصلاة وتجنب الانجرار لشرب الكحوليات.
رحمة: كان قلق عليك، وبالنسبة لوالدتك، ما هو أبرز شيء في شخصيتها تريد أن تشاركنا به؟
القربي: هي تمثل بالنسبة لي قمة حب الأم، وكنت أحب أبنائها إليها. كانت تعطف عليّ كثيرًا وترعاني كثيرًا، وربتني على أن المحبة هي أساس العلاقة بين البشر.
رحمة: خلال فترة الإعدادية والثانوية، هل هناك شيء مميز في حياتك لا يزال عالقًا في ذاكرتك؟
القربي: في الابتدائية كان كل شيء عاديًا ولا يختلف عما يمارسه كل الطلاب، أما في المتوسطة فقد بدأت بداية الوعي بالتغير السياسي الذي يحدث في المنطقة العربية، لأني دخلت المتوسطة بعد ثورة جمال عبدالناصر في مصر، وبالتالي بدأ حينها يتشكل الفكر القومي في ذهني.
رحمة: كانت تصلكم الأخبار حينها عبر إذاعة صوت العرب؟
القربي: إذاعة صوت العرب كانت ليلًا ونهارًا في شوارع عدن. وفي الثانوية تقوت هذه التربية، تربية الشخصية والقدرات الإبداعية والإدارية. في كلية عدن كانت هناك أربع فرق رياضية تتنافس رياضيًا، كما تشاهدين في الأولمبياد، في مختلف العاب القوى، ولها يوم في آخر السنة عندما تتنافس على الكؤوس في الجَري والقفز، إلى آخره. وكان هناك في كلية عدن ما يُسمّى "البريفكس"، وهم المشرفون من الطلبة لضمان سير الأمور بطريقة طبيعية وحل خلافات الطلاب.

وكان لهؤلاء المشرفين رئيس عليهم يسمى، عادة من الصفوف الأخيرة في الدراسة. وفي آخر عام دراسي لي في كلية عدن كنت أنا رئيس المشرفين على هؤلاء الطلبة. وأتذكر دوري في تلك الأيام وما عانيت منه، لأنني كنت صارمًا في ذلك الوقت. أذكر أن بعض الطلبة الذين أوقعتُ عليهم العقاب وجدوا حقيبتي عندما وضعتها في مكان ما، على ان أذهب ثم اعود لأخذها. وعندما عدت لم أجدها، وكان ذلك قبل الامتحانات النهائية بأسابيع. وبينما أنا أبحث، ألهمني الله أن أصعد إلى السقف فوجدتها مرمية داخل خزان الماء.
رحمة: وهل استطعت أن تعثر بعد ذلك على الأوراق وغيرها؟
القربي: الحمد لله، أنا كنت جاهزًا للامتحانات على أي حال.
رحمة: رئيس المشرفين كان أول دور قيادي لك أثناء دراستك.. وكانت تجربة صعبة.
القربي: دائمًا عندما تتولى شؤون إدارة فريق من المشرفين تواجه ذلك. وكما تعلمين، كانت الكلية في دار سعد، وكان يأتي إليها الطلبة من عدن ومدن أخرى كالتواهي والمعلا، وكانت هناك باصات مجانية تأخذنا في الصباح. وبالتالي كان على كل باص من هذه الباصات مشرف يمنع الخلافات والشغب بين الطلبة. لذلك كل يوم كنا نواجه مشاكل يجب أن تُعالَج.
رحمة: دكتور، كنتَ تحدّثت عن أول تجربة قيادية لك حين كنتَ رئيسًا للمشرفين. في تلك الفترة لعبت إذاعة صوت العرب دورًا كبيرًا في خلق الوعي السياسي. هل كانت هناك إذاعة أخرى، وتحديدًا فيما يتعلق بشمال اليمن، أثّرت في وعيك السياسي؟
القربي: أنا أعتقد أن التأثير الرئيسي في تلك الفترة كان للإعلام المصري، لأنه كان يغطي كل شيء في العالم العربي. وفي ذلك الوقت كانت الثورة المصرية والتحرك العربي والدولي التي كانت مصر رائدة فيه.
رحمة: ألم يكن لليمنيين الذين نزحوا من الشمال إلى الجنوب منشورات أو صحف وغير ذلك؟
القربي: في عدن كانت هناك صحف محلية كثيرة، بدأت بـ"فتاة الجزيرة" وهي من أقدم الصحف في الجزيرة العربية، و"النهضة" و"العمال" وغيرها، وهي التي لا تزال في ذاكرتي الآن. وأيضًا كانت هناك صحيفة لرابطة الجنوب العربي، وكانت جميعها تمثل توجهات حزبية؛ بين "عدن للعدنيين" و"الجنوب الموحد" وغيرها.
رحمة: أنا كنت أقصد الإعلام فيما يتعلق بالشمال، بما أنه كان يوجد هناك عدد كبير من الهاربين من ظلم الإمام إلى الجنوب، وكان هؤلاء الناس معهم صحف. وبالتالي هل خلق ذلك لديكم وعيًا بما يحدث في الشمال حينها؟
القربي: أعتقد أن ذلك كان بعد أن غادرت اليمن، بعد الثورة اليمنية. ولكن قبلها كان هناك الثوار المعارضون للإمامة الذين كانوا يأتون إلى عدن ويلتقون باليمنيين ورجال الأعمال ويحاولون الحصول على الدعم لأنشطتهم من أجل التخلص من النظام الإمامي.
رحمة: في تلك الفترة، ألم تفكر أنه من اللازم أن تتخلص من الاحتلال البريطاني أو تساهم في ذلك أو يكون لديك موقف؟
القربي: أول نشاط قمنا به أنا ومجموعة من الزملاء في السنة الأولى في كلية عدن كان بعد حرب 56، عندما وقع الاعتداء على مصر في عام 1956. في المدرسة خرجنا في مظاهرة، وتحركنا من كلية عدن إلى مدارس في الشيخ عثمان لمحاولة إخراج الطلبة للانضمام إلينا في المظاهرة. كنا بعدد 20 أو 30 طالبًا، واستمرينا في جهودنا، ولكننا فشلنا في استخراج ترخيص خروج للطلاب للمشاركة في هذه المظاهرات.
رحمة: لماذا؟
القربي: لأن مدراء المدارس لم يسمحوا لهم في ذلك الوقت، وكان شيئًا غريبًا أن يخرج ناس في مظاهرة في ذلك الوقت لدعم التظاهر ضد السلطة البريطانية التي كانت الأساس في حرب 56. وبعد ذلك، وفي اليوم التالي عندما عدنا إلى المدرسة، كان مدير كلية عدن ضابطًا بريطانيًا، ولا أدري إذا كان أكاديميًا أو غيره، ولكنه كان سجينًا في اليابان خلال الحرب العالية الثانية. وبعدها استدعونا ووجدنا لديه قائمة بأسماء الطلبة الذين خرجوا في المظاهرة، وكنا حوالي 15 شخصًا، وطلب منا أن نأتي بأولياء الأمور في اليوم التالي إلى المدرسة. وفعلنا ذلك، ولكن أنا لم أخبر والدي بما جرى، وإنما استعنت بأخي الأكبر محمد رحمة الله عليه، وذهب إلى المدرسة. ودخلوا عند المدير، ولا أدري ما دار بينه وبينهم، ولكن خرج وهمس في أذني: "حضّر نفسك للجلد"، وحُكم على كل طالب بعشر ضربات بالخيزران.
رحمة: هذا كان لأنكم فقط فكرتم في الخروج بمظاهرة؟
القربي: نحن خرجنا بالفعل.
رحمة: قلت أن المظاهرة رفضت، أم أنك كنت تقصد مظاهرة أخرى؟
القربي: نحن خرجنا من المدرسة بإرادتنا، ولم يكن هناك ترخيص، وخرجنا كردّ فعل على العدوان في مصر في ذلك الوقت.

رحمة: بعد أن تم جلدك بعشر جلدات، هل كنت تشعر بالفخر لأنك جُلدت لفكرة أنت مؤمن بها، أم كان الوجع أكبر؟
القربي: في ذلك الوقت، قضية الحرية وحرية التظاهر لم تكن مفهومة كما هو مفهوم اليوم، وكانت تعتبر خروجًا عن النظام الدراسي أو نظام المدرسة. وبالتالي اعتبرتها عقوبة مستحقة لأني لم ألتزم بضوابط الدراسة.
رحمة: وبالنسبة لوالدك ووالدتك، ألم يغضبا من ذلك؟
القربي: والدي لم يعرف بذلك.
رحمة: وهل كانت أسرتك قلقة من انخراطك في أي نشاط ثوري أو سياسي؟
القربي: لم يكن نشاطًا ثوريًا، ولكنه كان ردّ فعل شخصيًا لما يجري من حولي.
رحمة: هل كان هذا هو الموقف الوحيد الذي خرجت فيه بنشاط؟
القربي: نعم، في عدن. وفي الحقيقة أول انتماء سياسي لي - مع أني لا أعتبره انتماءً سياسيًا - هو الانتماء إلى "رابطة أبناء الجنوب".
رحمة: حتى نتحدث عن رابطة أبناء الجنوب، أنت ذكرت أنه لم يكن هناك تمييز ضد القادمين من الشمال أو غيرهم، ولكن وجود "عدن للعدنيين" مَن كانت تستهدف؟ و"رابطة أبناء الجنوب" مَن كانت تستهدف؟ لماذا التأكيد على أبناء الجنوب وعدن؟
القربي: رابطة أبناء الجنوب كانت تعني مَن وُلد في عدن، وكان هناك شعور بأنه يجب ان يكون لهم الحق في إدارة شؤون عدن. لأن عدن في تلك الفترة كانت تمر بمرحلة المجالس المحلية والانتخابات والمجلس التشريعي وغيره. وأبناء الجنوب كانوا يتحدثون عن وحدة الجنوب العربي: المحميات مع عدن.
رحمة: وبالنسبة لمحافظات لحج وأبين والضالع؟
القربي: هؤلاء كانوا من المحميات. كانت هناك محميات شرقية وغربية؛ الشرقية حضرموت والمهرة، والغربية الضالع والحُج وأبين وبقية المحافظات.
رحمة: بمعنى أنه لم يكن ذلك على أساس عنصري، بل كان التقسيم الموجود حينها هكذا؟
القربي: سياسي.
رحمة: في تلك الفترة، ما الذي تتذكره من الحراك السياسي الذي كان سائدًا في الجنوب أو في عدن تحديدًا؟
القربي: أهم حراك كان ظهور الحركة العمالية في عدن في تلك الفترة، والتي كانت تمثل حركة عمالية، ولكن ببعد سياسي، لأنها كانت تعلن عن الإضرابات واتخاذ المواقف وغيرها، وهي التي بدأت بهذا النشاط.

رحمة: وبالنسبة للوضع الاقتصادي، وبالطبع كان والدك رجل أعمال، وقد تكون الصورة غير واضحة، ولكن ممكن أن نستعين بحالة زملائك حينها. كم كان مصروفك وماذا كان يغطي؟
القربي: كان لدينا ما يكفينا.
رحمة: كان هناك اكتفاء؟
القربي: بالنسبة لمعيشتنا نعم، والحمد لله.
رحمة: وبالنسبة لزملائك، ألم يكن هناك أحد محتاج؟
القربي: الحياة متفاوتة، ولا يمكن أن يكون الناس متساوين.
رحمة: وهل كان التفاوت كبيرًا أم متوازنًا؟
القربي: الفقر لم يكن كما نشهده الآن.
رحمة: بمعنى أن زملاءك لم يكونوا يرتدون ملابس ممزقة أو مهترئة، ولم يكن هناك فارق طبقي كبير؟
القربي: هناك مظاهر حاجة عند جماعة المهمشين كما نسميها الآن، ولا أريد أن أستخدم ألفاظًا أخرى، ولكن كانوا مهمشين موجودين في أي مجتمع كان.
رحمة: فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي، كيف كان الوضع في عدن من حيث الحرية، والدتك وخواتك، تعليمهن، والعلاقة بين الذكر والأنثى؟
القربي: طبعًا نحن كنا أسرة محافظة، خواتي درس بعضهن وبعضهن لا، وتزوجن في سن مبكرة. ولكن بالنسبة للعلاقة الأسرية، كان الوالد لا يفرق بين الذكر والأنثى.
رحمة: وكان المحيط حينها يتعامل مع الذكر والأنثى بنفس الطريقة، ولم يكن هناك أي تمييز؟
القربي: نعم.
رحمة: من أين جاءت فكرة أن تدرس الطب؟ وهل كان في بالك تخصص آخر؟
القربي: أنا بعد أن أكملت الدراسة الثانوية كنت أطمح في الدراسات العليا، ووالدي كان يريدني أن أبقى وأعمل معه في التجارة، ولكن أصريت على الدراسة الجامعية. وكان بعض أقاربي يدرسون في القاهرة، وكنت أشعر بأن احتمال الحصول على منحة دراسية من الحكومة البريطانية ضئيل، بعد ما حدث في المظاهرة التي ربما تكون قد سُجلت عليّ. ثم ذهبت إلى القاهرة وبدأت أُعامِل للالتحاق بدراسة الطب في الجامعة.
رحمة: عندما أخبرت والدك أنك تريد دراسة الطب، ماذا كان رد فعله، وبأنك ستسافر؟
القربي: احتجت لفترة من الوقت لإقناعه بأن يسمح لي بالذهاب إلى الخارج للدراسة أولًا، وبالنسبة لدراسة الطب لم يكن لديه إشكالية، ولكن كانت إشكاليته في خروجي إلى الخارج، وأنا كنت المدلل لوالدي.
رحمة: وبالنسبة لوالدتك، ماذا كان موقفها خصوصًا وأنك الأقرب من بين أبنائها؟
القربي: كانت معترضة على سفري.
رحمة: وكيف أقنعتهما؟
القربي: كما أخبرتك، لقد أخذ مني جهدًا، ولكني اضطُررت للاستعانة بأصدقاء لوالدي ووسطتهم إلى أن اقتنع.
رحمة: وبالنسبة لفكرة الطب، هل تأثرت بطبيب وتمنيت أن تكون مثله، أم كان هو التخصص المتاح حينها؟
القربي: لا، لم يكن التخصص المتاح، ولكن كنت أعتقد أن الطب قريب إلى نفسي، ولأنني في طفولتي عانيت واشك انه كان لدي حينها مرض التيفوئيد لأني كنت اعاني من التهاب شديد في الصدر، والحمد لله شُفيت منه، وربما هذا أثّر عليّ في هذا القرار. وجئت إلى القاهرة وبدأت أُعامِل في كلية الطب بجامعة القاهرة، وأوشكت أن أنتهي من المعاملة، وإذا برسالة تأتي إلى والدي في عدن بأن لجنة البعثة في إدارة المعارف يريدون أن أحضر لمقابلة من أجل منحة. وكانت مرحلة صعبة: هل أبقى في القاهرة وأدرس فيها، أم أذهب إلى المنحة ولا أدري إذا كنت سأحصل عليها أم لا؟ ولكن كنت أعلم أنني إذا ذهبت ولم أحصل على المنحة سأعود إلى القاهرة. كانت الصعوبة: هل أدرس في القاهرة، أم أذهب إلى بريطانيا؟ هل الأفضل أن أبقى في القاهرة بين أصدقائي، أم أغامر إلى مجتمع جديد وأكتسب تجربة جديدة؟
رحمة: كرجل من البيضاء عاش في عدن، متى كانت أول سفريّة لك إلى الشطر الشمالي حينها؟
القربي: بحكم العلاقة بالأسرة في البيضاء كنا نسافر من عدن إلى البيضاء، وكان السفر خلال دراستي المرحلة المتوسطة.
رحمة: عندما ذهبت أول مرة إلى هناك، كيف كان انطباعك؟
القربي: أول انطباع ما زال عالقًا في ذهني إلى الآن، عندما كنا نسير ونحن نرتدي البنطلون، ولم يكن الناس متعوّدين عليه، فكانوا ينظرون إلينا بتعجب على هذا اللباس.
رحمة: هل كانوا يضحكون عليكم ويتنمرون؟
القربي: نعم.
رحمة: ماذا كانوا يقولون لكم، على سبيل المثال؟
القربي: في الحقيقة لا أتذكر، لكن أتذكر أنهم كانوا ينظرون إلينا كما كان الأوروبيون ينظرون إلى السود، وكانوا يرون في ذلك شيئًا غريبًا أو مرعبًا.
رحمة: أثناء السفر، هل كان هناك إجراءات معيّنة مفروضة؟
القربي: لم تكن هناك أي إجراءات، وكنا عادة ننتقل من عدن إلى مكيراس بالطائرة (اليمدا)، ومن هناك بالسيارة من مكيراس إلى مدينة البيضاء. وعلى الرغم من أن المسافة قصيرة، إلا أن الطرق كانت صعبة جدًا وتأخذ ثلاث ساعات، اليوم بعد الوحدة وبعد تعبيد الطرق، تأخذ المسافة ما يقارب 15 إلى 20 دقيقة.
رحمة: بمعنى أن هناك كانت سهولة في التنقل؟
القربي: لا أحد يسأل عنك، تصلين إلى مطار مكيراس ، وكانت مكيراس من المحميات، ومنها إلى البيضاء مثل ما كانت من تعز إلى عدن.

رحمة: هذا كان في مرحلة الخمسينيات؟ كان عمرك حينها ما يقارب 15 سنة في 56. ألم تكن تستغرب من الاختلاف في طريقة اللبس ونمط الحياة؟
القربي: اللبس في البيضاء كان مختلفًا عن المناطق الشمالية، وهو أقرب إلى المحافظات الجنوبية.
رحمة: واللهجة؟
القربي: اللهجة مختلفة قليلًا، ولكن لهجة البيضاء قريبة من أبين ومن هذه المناطق أكثر من المناطق الشمالية كصنعاء وغيرها.
رحمة: في تلك الفترة، كان الحديث في عائلتكم أو في إطارها أغلبيته ديني أو مرتبط بالجانب الاقتصادي؟ ألم يكن هناك أي جانب سياسي، مثل انقلاب الثلايا في 1955 أو ثورة القبائل في 1959؟ ألم يكن هناك أي أخبار أو معلومات؟
القربي: بالتأكيد سمعنا عن هذه الأحداث. وأنا أتذكر بالنسبة للإمام أحمد، عندما زار عدن في ذلك الوقت ومر بسيارته وحراسته من شارع الزعفران، وكنا نراه من نوافذ المنزل، وكانت هناك علاقة موجودة بين النظام البريطاني والإمام.

رحمة: في عائلتك، ألم يكن هناك حلم يتعلق بالوحدة اليمنية، وتحديدًا أنت، لأن أسرة والدك ما بين البيضاء وعدن؟
القربي: أنا أعتقد أن الشعور بالوحدة اليمنية مغروس في كل يمني، سواء في الشمال أو الجنوب. وللأسف الشديد، قضية الحديث عن الشمال والجنوب الذي عزّزها هو أنه بعد استقلال الجنوب وثورة 26 سبتمبر، لم تتم الوحدة كما ينبغي من بدايتها.
رحمة: بالنسبة لشجرة القات، وهناك أسئلة كثيرة تدور في ذهني: كان الناس إلى أي مدى يقبلون على القات في فترة 1955 في عدن؟ هل كان الخميس والجمعة فقط؟ أم قُرر ذلك فيما بعد؟ أم كانوا يتعاطونه يوميًا؟
القربي: في عدن كانوا يمضغون القات، واتُّخذ قرار في فترة من الفترات بمنع دخول القات إلى عدن أيام الاستعمار البريطاني، ولكنه كان قرارًا من المجلس التشريعي في عدن. وعندما حدث هذا سبّب لنا مشكلة في كلية عدن.
رحمة: كيف؟
القربي: لأن كلية عدن تقع في دار سعد، وأصبح الناس يخرجون من عدن ومستعمرة عدن ويتوجهون جميعهم بعد الظهر إلى دار سعد من أجل مضغ القات هناك. وأصبحت هناك زحمة في المواصلات في ذلك الوقت، وكنا عندما نخرج من كلية عدن نواجه مشكلة نتيجة الازدحام بسبب السيارات التي تتوافد منهم الداخلين ومنهم الخارجين. واستمر هذا الوضع لفترة، ثم أُلغي بعد ذلك. وبعد الاستقلال طُبِّق هذا النظام يومين في الأسبوع من قبل الحزب الاشتراكي في ذلك الوقت.
رحمة: في الخمسينيات، هل كان هناك إقبال كبير من قبل الناس على مضغ القات؟
القربي: مضغ القات كان موجوداً، ولكن لم يكن هناك إقبال شديد.
رحمة: من أجل الازدحام في دار سعد وتحديداً في عدن؟
القربي: الناس كانوا يخرجون من أربع مدن إلى دار سعد.
رحمة: وأنت، هل مضغت القات؟ ومتى كانت أول مرة؟
القربي: أنا لم أمضغ القات إلا عندما جئت إلى صنعاء.
رحمة: أما في عدن، ألم تفكر في مضغ القات؟
القربي: أبداً.
رحمة: وهل كان زملاؤك في المتوسطة أو كلية عدن يمضغون القات؟
القربي: لا.
رحمة: أنت قررت دراسة الطب وأنت بعيد عن أي نشاط سياسي، ما عدا المظاهرة التي خرجت فيها عام 1956. كيف اخترت التخصص؟ حدِّثنا أولاً عن المنحة.
القربي: أنا قُبِلت أمام لجنة البعثة في إدارة المعارف كما أخبرتك مسبقاً. والغريب أنني عندما دخلت إلى اللجنة، لسبب من الأسباب، غيّرت التخصص الذي كنت أريد أن أدرسه من الطب، وطلبت منهم أن أدرس هندسة كيمياء.
رحمة: وماذا كان التخصص الأول؟
القربي: في القاهرة، أخبرتك أنه كان طب.
رحمة: ولكن ألم يكن هناك تخصص معين مثلاً باطنية أو غيره؟
القربي: هذا لا يأتي إلا بعد أن تأخذي شهادة الطب.
رحمة: ولكن كفكرة؟
القربي: بالطبع، كان باطنية.
رحمة: ولماذا غيّرت؟
القربي: لأنني قلت إنهم لن يمنحوني دراسة طب، وسيكون التنافس على الطب كثيراً، ففكرت بأخذ تخصص غريب. وأنا كنت أحب الكيمياء، فاخترت هندسة الكيمياء. نظروا إلي وقالوا: اليمن لا تحتاج إلى مهندسين كيميائيين. قلت لهم: ما المتوفر لديكم؟ قالوا: طب. قلت: وأنا قابل بدراسة الطب. وشاء الله ذلك.
رحمة: هل نعتبر أن أول ممارسة عملية لك في المفاوضات كانت في ذلك اليوم؟
القربي (ضاحكاً): ربما.
رحمة: من المؤكد أن هناك أحدًا تأثرتَ به، ويجب علينا أن نعود من جديد إلى البداية. هل كان والدك يدير الأمور بطريقة تفاوضية؟ لأنك طرحتها بذكاء: قمتَ بطرح تخصص مستحيل، هندسة كيميائية في اليمن، وجعلتهم يختارون لك الطب. ممن تعلمتَ المفاوضة؟ هل من والدتك؟
القربي: أولًا هذا توفيق من الله، وثانيًا والدي كان رجل أعمال، وكنت أجلس معه حينما كان يتفاوض على أسعار السكر والبر وغيره.
رحمة: كيف تلقيت الخبر عندما قالوا لك: إننا سنختار لك دراسة الطب؟
القربي: بالطبع ذُهلت، لأنه كان من الممكن أن يعرضوا عليَّ أيَّ تخصص آخر باستثناء الطب، واعتبرت أن ذلك حقيقة وإرادة إلهية.
رحمة: وبعد ذلك، كم استغرقت من الوقت لتجهيز نفسك؟
القربي: حوالي شهرين أو ثلاثة أشهر، لأنهم كانوا قبل أن تُبتعث إلى بريطانيا، هناك ما يُسمى بالمجلس البريطاني، وهو عبارة عن نادٍ للبريطانيين لنشر ثقافتهم البريطانية. وكانوا قبل سفر المبعوثين يرتّبون لنا دورات يعلّمون فيها كيف نستخدم الشوكة والسكين، وكيف نجيب على الأسئلة ونتعامل مع الآخرين والعادات البريطانية. قضينا تلك الفترة، ثم سافرنا إلى بريطانيا.
رحمة: هل كنت تشعر أن هناك أشياء جديدة في حياتك وتعاملت معها بشغف، أم شعرت بأن الوضع سيكون صعبًا؟
القربي: في البداية كنت متخوّفًا من الذهاب للدراسة في بريطانيا ومستوى الدراسة العالي فيها، وأنني قد أجد صعوبة في الدراسة، رغم أن نتائجي كانت في الشهادة البريطانية (G.C.E) كلها ممتازة. ولكن يختلف الأمر عندما تذهب إلى محيط جديد وحياة جديدة بعيدًا عن الأهل والأسرة، ومعتمدًا على نفسك. فكيف سيكون أداؤك؟ كنت متخوّفًا، ولكن ما على المضطر إلا ركوب الصعاب.
رحمة: هل كانت محطتك الأولى عند سفرك لندن أم مدينة بريطانية أخرى؟
القربي: لندن.
رحمة: ما أكثر شيء أدهشك في لندن وكان جديدًا على الطالب أبوبكر القربي، أول مرة يسافر إلى دولة أوروبية، دولة خارج جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية؟
القربي: أولًا النظام العام. وسأخبرك بموقف طريف: كان والدي يمنعني من التدخين. وعندما صعدنا إلى الطائرة البريطانية، وهي تمر من عدن إلى طرابلس في ليبيا ثم إلى لندن، كان معي زميلان: عادل العولقي وحمود شريف.

عادل العولقي كان معي لدراسة الطب، وكنا معًا سنذهب إلى إدنبرة. الآخر كان إلى جامعة في بريطانيا. وكان حمود شريف يشرب السيجارة. وأول ما صعدنا إلى الطائرة، كان هناك من يبيع السجائر، واعتبرت أن هذه فرصتي لأتحرر من حرمان والدي لي من التدخين. فقمت بشراء باكيت وبدأت بالتدخين، ولم يكن التدخين ممنوعًا في الطائرة.
ثم وصلنا إلى لندن بعد العصر، وأخذونا إلى مكان للطلبة ووضعنا حقائبنا، وتحمسنا للخروج للفسحة في لندن. خرجنا وسرنا في شوارع لندن وأنا طول الوقت أدخن السيجارة. أكملت اليوم وقد دخنت 80 سيجارة! وبدأت أشعر بصعوبة في البلع، ونمت. وعندما قمت صباح اليوم الثاني لشرب الشاي، لم أستطع. فأُسعفتُ حينها إلى طبيب لمعرفة المشكلة، وكان يقول لي: ما الذي شربته؟ هل شربتَ ماءً ساخنًا؟ قلت له: لا، ولكنني دخنت 80 سيجارة. قال: هل أنت مجنون؟ قلت له: لا ولكنها محاولة للتحرر. ثم عالجني، ومنذ ذلك اليوم لم أدخن سيجارة. واعتبرت أن ذلك انتقام من الله لوالدي، لأنه منعني لمصلحتي وأنا لم ألتزم بنصيحته.
رحمة: من الجيد أنك تمردت، وإلا لما كنت ستتوقف عن التدخين.
القربي: ربما، مواصلة للقصة التي يمكن أن تفيد البعض عندما يسمعونها، أنه عندما ينصحك والدك بشيء لا تعتبر أن هذا حرمان، وإنما وسيلة لإنقاذك.
رحمة: بعد سفرك، كيف كنت تتواصل مع عائلتك؟ هل كنت ترسل رسائل؟ أعتقد أن الوضع كان مختلفًا تمامًا عن الوضع في صنعاء.
القربي: كان التواصل صعبًا جدًا في تلك الأيام، كانت هناك مشكلة انك ترسل التلغراف، لكن نادرًا ما كان الواحد يستخدمه. كنا نكتب رسائل، وكانت تأخذ أسبوعين حتى تصل، وأسبوعين آخرين للرد. كان التواصل قليلًا جدًا في الحقيقة.
رحمة: كيف كنت تستقبل الرسالة من والديك وأنت تسافر لأول مرة، وبعيد عنهم؟
القربي: في الحقيقة، كان التواصل في بداية المرحلة وأنا في مرحلة الاستقرار والتعود على الحياة، يصاحبه شعور بالضيق ورغبة في العودة إلى عدن. شعرت بذلك منذ الأشهر الأولى، وكنت أبعث هذه الرسائل. ولحكمة من الوالد، كان لا يرد عليها ولا يقول لي: "عُد" أو "لا تعد". وبعد مرور شهرين، تعودت على الحياة هناك. لكن التحدي في تلك المرحلة كان الخوف من أول اختبار سأدخله في الجامعة ونتيجته.
رحمة: وكيف كانت النتيجة؟
القربي: ممتازة.
رحمة: كانت هناك عناية إلهية، وحرص واجتهاد منك.
القربي (متابع): عندما رأيت تلك النتيجة، اطمأنت أنني قادر على منافسة الطلبة البريطانيين الذين كنت أدرس معهم.
رحمة: وماذا عن اللغة الإنجليزية؟ كيف كانت؟ هل درست من جديد؟
القربي: لا.
رحمة: اعتمدت على الدراسة المتوسطة وكلية عدن؟
القربي: كلية عدن كانت تعطي مستوى ممتازًا.
رحمة: كيف تعاملت مع اللكنة البريطانية؟
القربي: اللكنة الاسكتلندية وليست البريطانية، لأنني كنت في إدنبرة، ولهم "أكسنت" خاص ولطيف.
رحمة: ما الذي يميز السنتين الأوليين من دراستك في إدنبرة؟
القربي: اكثر ما يميزها أنني وصلت إلى بريطانيا في 1961، وفي 1962 قامت ثورة 26 سبتمبر.
رحمة: كيف تلقيت الخبر؟
القربي: بفرحة. ثم جاءت بعدها ثورة الرابع عشر من أكتوبر، فزادت الفرحة. وبدأنا في تلك المرحلة نعود إلى الارتباط بالعمل السياسي في الداخل بعدن من خلال الارتباط بالجبهة القومية.
رحمة: هذا وأنت لا زلت تدرس في كلية الطب؟
القربي: نعم، كنت أدرس في السنة الأولى والثانية بكلية الطب.
رحمة: وكيف انخرطت حينها في العمل السياسي؟
القربي: كان التواصل مع الداخل، وتفعيل الحراك في بريطانيا مع الجالية اليمنية في برمنغهام وليفربول. وكان من المشاركين في ذلك العمل: الدكتور عبدالله عبدالولي ناشر، والدكتور أمين ناشر رحمه الله. كان عبدالله يدرس في ليفربول، وأمين في برمنغهام، وأنا في إدنبرة. وكانت برمنغهام نقطة لقاء دائماً لنا، حيث كنا نلتقي بالجالية اليمنية لنتداول التطورات، ونرتب للخروج بمظاهرات لدعم استقلال الجنوب.
رحمة: حدثنا حول ما كان يدور في هذه المداولات وأبرز الأنشطة التي قمتم بها.
القربي: قضية التوعية، والترتيب للمظاهرات. لم يكن لدينا شيء آخر نستطيع القيام به غير هذا.
رحمة: دائمًا الحظ معك، ولكن كيف كان الحظ معك عندما جاء لك بالدكتورة عزة غانم؟ هل التقيتم معًا في بريطانيا؟
القربي: الدكتورة عزة، كان أول لقاء معها في إدنبرة، لأن شقيقها كان يدرس معي في كلية الطب، وكانت هي تدرس في جامعة أبردين على بُعد حوالي ساعتين من إدنبرة، وكانت تأتي في بعض الأوقات لزيارته، وصادف أن التقيت مرة بها وهي تزور شقيقها.

رحمة: وهل في أول لقاء عرفت أنها ستكون شريكة حياتك؟
القربي: لا أبدًا، لم أشعر بهذا إطلاقًا.
رحمة: ما الذي حدث بعد ذلك؟
القربي: عندما عدت في إجازة صيفية إلى عدن، كانت علاقة والدتي بوالدتها قوية جدًا. والدها، الأستاذ محمد عبده غانم، كما تعرفين، كان مدير المعارف في عدن أثناء فترة الاستعمار البريطاني، وهو تربوي ومشرف تربية قدير في عدن. وكنت أزوره، والتقيت بها عدة مرات في اجازة الصيف، ومن هنا بدأ التفكير بالزواج.
رحمة: هل كانت هناك قِيَم مشتركة بينكما عززت مشروع قرار الزواج بها؟
القربي: كان أهم ما يميز الدكتورة عزة بالنسبة لي هو شخصيتها، والتزامها بالقيم الدينية، وأن طموحها يكاد أن يتركز على التربية أكثر من أي شيء آخر.
رحمة: وبالتالي شعرت أنها ستكون شريكة حياة مناسبة. هل تزوجتم أثناء الدراسة أم بعد إنهائها؟
القربي: هي كانت قد أنهت دراستها، وأنا لا زلت طالبًا في كلية الطب، وفي السنة قبل الأخيرة في كلية الطب. هي كانت قد عادت إلى عدن، وعملت كمدرسة في كلية البنات في خور مكسر، وأنا ظللت في إدنبرة. وبعدها، جاءت إلى إدنبرة وأنا في السنة الأخيرة، وظلت معي خلال المرحلة الصعبة للإعداد للامتحانات النهائية.
رحمة: متى كان تاريخ زواجكما؟
القربي: تزوجنا في 6 أغسطس 1966.
رحمة: أنتم تعرفتم على بعضكم ثم تزوجتم، ووقفت معك في آخر سنة. ولكن ما أبرز تحدٍّ واجهته علاقتكما مع بعض؟
القربي: تقصدين بعد أن وصلت إلى إدنبرة؟
رحمة: أقصد بعد زواجكما.
القربي: كانت التحديات كثيرة منذ فترة الزواج وحتى اليوم، لأن الحياة هكذا، تمر بصعوبات وتحديات. لكن بعد أن نجحت كطبيب في جامعة إدنبرة، كان أول ما دار بيننا هو قرار: هل أستمر واعمل سنة التدريب في بريطانيا أو أمريكا؟ لأنني أردت أن أكتسب تجربة جديدة بعد أن درست في بريطانيا. وقررت أن أبحث عن ذلك في أمريكا، وكانت متخوفة من الذهاب الى امريكا، لكن بعد ذلك اقتنعت برأيي.

وحصلت على وظيفة في مستشفى شيكاغو، وكانت تجربة مفيدة مررت بها، لأن هذا المستشفى الذي ذهبت إليه كان 80% من العاملين فيه من الأطباء والاستشاريين اليهود. وقبل أن نذهب الى هناك، أرسلت لهم بالمعلومات، وكانت الدكتورة عزة في ذلك الوقت حاملًا بطفلنا الأول، ريان.
وقيل لي: طالما ستأتي وهي حامل، عليك أن تدفع تكاليف المستشفى للولادة، ولم يكن لدي إمكانية لفعل ذلك، فبعثت برسالة اعتذار اني لست قادر واعتذر عن الوظيفة. ومن المفاجئ أنهم أرسلوا رسالة لي من المستشفى بأنهم سيتحملون التكاليف.
رحمة (ممازحة): محظوظ ، الآن آمنت أن هناك دعمًا إلهيًا! وسافرتم بعد ذلك إلى شيكاغو؟
القربي: نعم، سافرنا إلى شيكاغو، وكان بردها شديد في الشتاء، يصل إلى 25 أو 30 تحت الصفر. نحن لسنا معتادين على ذلك. وكان في المستشفى شقق للأطباء، ولكن في ذلك الوقت لم تكن هناك شقة يمكننا أن نعيش فيها.
قمت بتأجير شقة قريبة من المستشفى، تبعد عنها بحوالي 200 متر، ولكن كان الذهاب صباحاً إلى المستشفى في ذلك البرد القارس مؤلمًا. والأسوأ من ذلك أنني كنت أذهب صباحًا، وكل ثاني ليلة أبات في المستشفى، والدكتورة تظل وحدها في الشقة وهي حامل، وكنت في قمة قلقي. وهذه واحدة من الصعوبات، ولكنها تحملت، وسهّل الله الأمور، وانتقلنا بعد ذلك إلى شقة في المستشفى، وارتحنا فيها كثيرًا.
واللطيف في هذا المستشفى أنه في أحاديثي مع الأطباء الاستشاريين الذين كنت أعمل تحت إشرافهم، كنا دائمًا نتحدث عن قضية فلسطين و"إسرائيل" وأغلبيتهم يهود. وكنا ندخل في جدل، وكان هذا المستشفى يقدّم شهادة التميز لطبيب واحد من الذين يعملون فيه كل عام. فكنت، عندما أجلس مع زملائي ونسأل: من سيكون المرشح؟ كانوا دائمًا يقولون: "لن تكون أنت، لأننا نسمع نقاشاتك مع الأطباء اليهود، وأنت تدافع عن القضية الفلسطينية". وفوجئت أنني كنت الطبيب الذي حصل على شهادة التميز! وهذا علّمني أن الاختلاف، مهما كان، يجب ألّا يتخلى عن الانصاف. مهما اختلفت مع إنسان، يجب ألّا تنظر فقط إلى سيئاته، وإنما إلى القيمة التي يمثلها وصحة ما يقول.
رحمة: إلى أي مدى أثرت دراستك في إدنبرة ثم شيكاغو على حلمك الشخصي؟
القربي: أعتقد أنها عززت قناعتي بأن الإنسان يمكن أن يُسهم ويؤدي عمله في أي مكان كان ، إذا تحلّى بقيم تمكّنه من أن يُبدع في عمله. "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، والإتقان هو الأساس.
رحمة: دكتور، وأنت في جامعة إدنبرة ثم شيكاغو، هل كانت اليمن حاضرة في ذهنك وانت تدرس؟ هل كنت تفكر: ان هذا يمكن أن أطبّقه عندما أعود؟ او هذا يناسب اليمن؟
القربي: بالطبع، وبكل تأكيد. عندما وصلت إلى شيكاغو، كان لدي جواز بريطاني، أو بالأصح جواز مستعمرة عدن.
ولكن حدث الاستقلال في نوفمبر 67، وأنا ذهبت إلى شيكاغو في 68، ومع الحراك الوطني الذي كان في الجنوب بعد الاستقلال والفرحة، قررت أن أتنازل عن هذا الجواز التابع للمستعمرة البريطانية.
وذهبت إلى القنصلية البريطانية في شيكاغو وسلّمتهم الجواز. ولم اعلم أنني سأكون بدون جواز مع الدكتورة، هكذا الحماس كان لقضية لا تقدّم ولا تؤخّر، في نهاية الأمر، إذا سلّمت الجواز أو لم أُسلّمه.
رحمة: وما ذنب ريان؟
القربي: ريان سيحصل على الجواز الأمريكي، لكنه لم يحصل عليه في حينها، وكلفني ذلك الذهاب إلى نيويورك، إلى مكتب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الأمم المتحدة، لأنهم كانوا يمتلكون قنصلية هناك، واستخرجت جوازات لي وللدكتورة حتى نعود إلى بريطانيا بعد انتهاء الفترة في شيكاغو.
رحمة: بعد ذلك عدتم إلى جامعة ليفربول في عام 1969 وتخصصتَ بأمراض المناطق الحارة؟
القربي: نعم، كانت تلك المرحلة تهيئة للعودة إلى اليمن، لأن الدراسة في بريطانيا وفترة التدريب في أمريكا لا تعطيك ما يكفي عن الأمراض المنتشرة في المناطق الاستوائية، مثل الملاريا، والبلهارسيا، والتهابات الكبد، وغيرها. ولهذا، هذه الدورة، والتي كانت دبلومًا لمدة ثلاثة أشهر في ليفربول، أعطتنا الخلفية الحقيقية والأرضية التي مكنتنا من العودة إلى عدن وممارسة الطب، ومعرفة الكثير عن الأمراض الوبائية المنتشرة.
رحمة: ماذا كان أبرزها تحديدًا في عدن؟
القربي: الملاريا، والبلهارسيا، والحمَّيات بصورة عامة، والأمراض المعدية.
رحمة: في عام 1972 سافرت إلى لندن لدراسة علم الأمراض، هل كنت تدرس عامًا وتعود، ثم تدرس وتعود؟
القربي: أنا عدت إلى عدن في نهاية 1969، وعملت 70-71م
وفي أثناء عملي في عدن في تلك الفترة، بدأ التغيير في السياسات؛ الحزب الاشتراكي ومحاولة التوجّه نحو الفكر اليساري. وحدثت الخلافات بين قيادات الجبهة القومية، بين قحطان الشعبي، وفيصل عبداللطيف، ورفاقه، وبدأت التصفيات لبعضهم البعض، أو تصفيات على الأقل لطرف منهم.
حينها شعرت بالإحباط، لأن الجبهة القومية أصبحت صراعًا على السلطة، وليس صراعًا على بناء الوطن. وجمدت نشاطي في الجبهة القومية ، وجاءت هذه المنحة لي من منظمة الصحة العالمية للدراسة في بريطانيا.
رغم أنني كنت أميل إلى علم الأمراض، إلا أنه لم يكن هناك خيار غيره، فقبلت الذهاب والتخصص في هذا المجال في بريطانيا.
رحمة: كنتَ تعود لعدة سنوات ثم تذهب للدراسة من جديد. دعنا هنا نسلط الضوء على الوضع السياسي والاقتصادي حينها في عدن، بعد الاستقلال وحتى السبعينيات.
القربي: أنا عندما غادرت عدن في عام 1961، كانت عدن شعلة من النشاط الاقتصادي والتنمية وغيره، خاصة بعد انتقال القاعدة البريطانية من قناة السويس إلى عدن. وكانت هناك نهضة عمرانية واقتصادية، وكل شيء، وفي تلك الفترة كانت عدن نموذجًا للتعايش بين الأديان والطوائف والمذاهب، إلى آخره.
لكن عندما عدت في عام 1969، كان الوضع مختلفًا. عندما كنت أسير في شوارع عدن، لم أشعر بتلك الحياة الطبيعية التي اعتدت عليها.
ومع ذلك، في عملي كطبيب، كنا قِلّة من الأطباء خريجي بريطانيا، وكانت عياداتنا مليئة بالمرضى الذين يأتون إلينا، رغم أن الفحص كان في تلك الفترة بخمسة شلن، وكان مبلغًا بسيطًا جدًا، لكنه كان يضيف كثيرًا إلى الدخل. فالمرتب كان 1200 شلن، وفي ليلة واحدة تدخل في عيادتك 500 شلن.
رحمة: كيف كانت المنظومة الصحية حينها في عدن في السبعينات؟
القربي: الخدمات الصحية كانت لا تزال تعيش على تراث النظام البريطاني. كان هناك المستشفى الجمهوري، وهو نفسه مستشفى الملكة إليزابيث سابقًا، قبل أن يُسمى بالجمهوري. لكن بدأت تظهر مشكلات في صيانة المستشفى، والخدمات، والمعدات، إلى آخره.
رحمة: في عام 1974 حصلت على زمالة الكلية الملكية البريطانية. ما أبرز تحدٍّ واجهته للحصول على هذه الزمالة؟
القربي: هذه زمالة الباطنة، وهي زمالة من الكلية الملكية لأمراض الباطنة. أنا ذهبت لأدرس علم الأمراض، ولكنني عملت في مستشفى في بريطانيا من المستشفيات المتميزة علميًا من حيث الأبحاث وغيرها، ولهذا اندمجت في الجانب السريري. ومن خلال الدمج بين العمل في المختبر في ذلك الوقت والأقسام الطبية، وضعت لنفسي هدفًا على أن أحصل على هذه الزمالة، وهي من الزمالات الصعبة، ولكن الحمد لله، وُفقت. وحصلت عليها قبل أن أحصل على الزمالة في الكيمياء السريرية، والتي حصلت عليها أولًا في كندا، ثم في بريطانيا.
رحمة: يبدو أنك شغوف وطموح بالعلم، وبالتالي فإن الله سبحانه وتعالى ساندك. أكيد الزمالة الكندية أثّرت في تاريخك المهني بشكل كبير، ما أبرز تأثير لمسته؟
القربي: التجربة الكندية في الأساس مبنية على تجربتي في بريطانيا، وإضافتها العلمية كانت محدودة جدًا، لكنها فتحت لي آفاقًا. أنا ذهبت إلى كندا كمهاجر في عام 1974م، وعشنا فيها حتى 1979، وحصلت خلالها على الجنسية الكندية.
رحمة: ولماذا ذهبت كمهاجر؟
القربي: لأنني أولًا، كان التفكير في ذلك الوقت هو العودة إلى الجنوب، ولكن مجريات الأمور في عدن لم تكن تُسر.
رحمة: دكتور أبو بكر، لماذا هاجرت إلى كندا؟ هل تعرّضت لتهديدات أو كانت هناك مضايقات؟
القربي: لا، لم يكن هناك أي تهديد أو مضايقات، وانما الشعور بالإحباط مما كان يجري في عدن. كنا نعتقد أن الاستقلال سيعيد إليها هويتها القومية العربية الحقيقية، وهذا الإحباط هو الذي دفعني إلى التفكير بالهجرة، حتى يريد الله وتُصلَح الأمور.
رحمة: هل كان لديكم حينها طفل واحد، وهو ريان؟
القربي: لا، عندما ذهبنا إلى كندا كان لدينا طفلان؛ نسيب، وُلد في بريطانيا بعد أن ذهبتُ إليها للدراسات العليا.
رحمة: وبالتالي، كنت تفكر في مستقبل أبنائك في ظل هذا الصراع الموجود. كيف كانت الفترة التي قضيتها في كندا؟
القربي: كانت إضافة تجربة وخبرة. عمليًا، أُتيحت لي فرصة أن أُنمّي قدراتي في جانب مهم من العمل التشخيصي، من خلال القيام بدراسة مثلاً حول جودة أداء المختبرات في ثلاث محافظات كندية وتقييمها. ومن خلالها، عرفت كيف تُدار المختبرات، وكيف يؤمّن المرء نوعية أدائها.
لأن القضية ليست فقط أن يتسلّم الطبيب نتيجة المختبر، بل يجب أن تكون لها أساس حقيقي حتى يبني عليها قراره في العلاج. وكان معروفًا أن كثيرًا من الأخطاء تحدث، ويجب ضبط العملية وهذا جانب.
ومن جانب آخر، تدريسي في جامعة "هاليفاكس" طبعًا، في البداية عملت في جامعة " أوتاوا" ، ثم في جامعة هاليفاكس بشرق كندا، وكنت أدرّس الكيمياء الحيوية، وهي ما تُعرف اليوم بالكيمياء التشخيصية. وكانت هذه تجربة، وكان عملي في هذه الجامعة فرصة لأني كنت في منطقة كان يوجد بها الكثير من المسلمين. أيضًا، انخرطت مع أبناء الجالية الإسلامية في النشاط التربية الإسلامية للشباب والأطفال في كندا، وهذا انعكس فيما بعد على أولادنا، لبيب ونسيب، اللذين كانا لا يزالان في المرحلة الابتدائية. والذي دفعنا في النهاية لإعادة النظر في موضوع البقاء في كندا أو الهجرة منها من جديد.

رحمة (مقاطعة): لا خوف عليك، مع اليهود، مع المسلمين، شغفك بالدراسة والتعليم وإدارة المفاوضات دائمًا يخرجك إلى طريق، وبالذات مع الدعم الإلهي. عدت في عام 1976، وحصلت على زمالة الكلية البريطانية. كيف جمعت بين الدراسة والعمل، وفي الوقت نفسه دورك كأب وكزوج؟
القربي: هذا كله يتم بمساعدة الزوجة، التي تتحمّل أن تقوم بكل تلك الأعمال، وهي تدفع ثمنًا لذلك. ولكن قبولها بهذا الثمن هو ما مكنني من القيام بكل هذه الأشياء، وأنا أحمد الله.
وبالنسبة لي، التعامل مع الزمن قضية رئيسية. أعرف متى أشاهد التلفزيون، ومتى أكتب، ومتى أقرأ، ومتى أنام، ومتى ألتقي بالأصدقاء. التوازن في الحياة مسألة أساسية.
رحمة: الدكتورة عزة ضحّت بطموحها حتى تكون رفيقة وزوجة وأم. ضحّت لأنها تنقّلت معك من إدنبرة، إلى عدن، إلى شيكاغو، ثم كندا، وكانت معك دائمًا.
القربي: هي، في الوقت نفسه، كانت تؤجّل تحقيق طموحها. لأنها أثناء هذه الفترة هي حصلت على الماجستير والدكتوراه.
رحمة: يعني كانت تدرس أيضًا، بالإضافة إلى كونها أمًا. بين عامي 1974 و1978، عملت أستاذًا في كلية الطب. أي صورة حملتها عن اليمن في تلك الفترة؟
القربي: في تلك الفترة، كانت المحافظات الجنوبية والنظام الاشتراكي يمثلان حالة إحباط. بينما كان النظام في المحافظات الجنوبية والانفتاح يعطي بارقة أمل، ولكنها ليست كما يتمناها المرء. وكان الواحد يطمئن من يتحدث إليه عن اليمن، بأن اليمن واعد بالخير، وأن خيراتها كثيرة إذا وعي أبناؤها ذلك.
رحمة: في عام 1979، هل كانت أول زيارة لك إلى صنعاء بعد عودتك من كندا؟
القربي: لا، أنا زرت صنعاء أول مرة في عام 1959.
رحمة: وكيف رأيت صنعاء؟
القربي: كانت الحياة فيها بسيطة جدًا. كنت أعيش في سكن لأقارب بيت "المحضار" إذا سمعتِ عنهم، وكان لديهم محطة بترول خارج باب اليمن، ومنزلهم في الداخل.

كنا نخرج احياناً في الصباح ونمشي إلى الروضة ونعود. اليوم، من باب اليمن إلى شارع علي عبدالمغني ستكون رحلة مرهقة، أما آنذاك، فكنا نمشيها يوميًا. وكان الواحد يشاهد البساتين الجميلة، والمباني الجميلة، والأسواق… كانت متعة.
رحمة: متعة؟ ألم تكن هناك صدمة حضارية، خصوصًا وأنت قادم من عدن إلى صنعاء؟
القربي: أبدًا، بالنسبة لي كانت متعة. أن أرى هذه الحياة البسيطة التي تمثل اليمن وتاريخه.
رحمة: أنت يا دكتور ربما تنظر بعين إيجابية. ولكن، ألم تكن هناك فروق جوهرية بارزة في عام 1959 بين عدن وصنعاء، بين الميناء والجبل؟ ما أبرزها؟
القربي: بالطبع، توجد. ولكن عدن - رحمها الله - بالاستعمار.
رحمة: وهناك الإمامَة... وبالنسبة للوضع الاقتصادي، من المؤكد كان هناك اختلاف كبير؟
القربي: بكل تأكيد، لأن عدن كانت النافذة الاقتصادية للمناطق الشمالية.
رحمة: ولكنك لم تشعر بذلك الوضع، لأن وضع والدك المالي كان جيدًا؟
القربي: طبعًا.
رحمة: وبالنسبة للوضع الاجتماعي، هل كان صادمًا أكثر ربما؟
القربي: إلى حدٍ ما، نعم.
رحمة (ممازحة): أنا أحاول استفزازك واستدراجك! انبش ذاكراتك حتى نعرف: كيف كانت صنعاء في الخمسينيات؟ ألا توجد قصة بارزة، طريفة، صادمة، أو مدهشة عن الفرق بين صنعاء وعدن حينها؟
القربي: لا أتذكر شيئًا محددًا، لكن الذي أتذكره أنني استمتعت بـ"بنت الصحن" و"السلتة" في تلك الأيام، وهي أطباق لم أكن أعرفها في عدن.
رحمة: والزربيان؟ هل كان حاضرًا؟ وهل كنت تشتاق إليه؟
القربي: الزربيان في عدن.
رحمة: أقصد عندما كنت في صنعاء؟
القربي: بعض الأطباق التي كانت خصوصية في صنعاء، وخصوصية في عدن، انتهت. لم تعد هناك "خصوصية". الآن تجد الطعام منتشرًا في اليمن بأكملها.
رحمة: في فترة الخمسينيات، كم بقيت في صنعاء؟
القربي: تقصدين في 1959؟ بقيت حوالي أسبوعين أو ثلاثة. ورحلتي إلى صنعاء لم تكن سهلة؛ لأني سافرت من عدن إلى تعز برًّا، ومن تعز إلى الحديدة برًّا ، ومن الحديدة إلى صنعاء برًّا، عبر طرق غير معبّدة، وعلى متن شاحنة بضائع، كنت أرى الهاوية وأغمض عيني!
رحمة: وكم كان عمرك حينها؟
القربي: في ذلك الوقت كان عمري 18 عامًا.
رحمة: ما الذي جعلك تغامر بالذهاب إلى صنعاء عبر هذه الطريقة الطويلة وغير المعبّدة؟
القربي: الأقارب. لأن تلك السيارات كانت ملكًا للأقارب، وكانوا يقولون: "اذهب معنا إلى صنعاء"، فذهبت معهم. ومن صنعاء إلى البيضاء عدت برًّا، ومن البيضاء إلى عدن برًّا أيضًا.
رحمة: كان القلق الوحيد الذي يصاحب المسافر حينها هو الطريق، وليس الناس أو التقطعات؟
القربي: لا، لا يوجد من هذا أبدًا.
رحمة: كانت رحلتك صعبة من عدن إلى صنعاء في عام 1959، وكانت لأجل الأقارب. أريد أن أعرف متى زرت صنعاء مرة أخرى، لكن... في الحلقة القادمة.
رحمة: مشاهدينا، نلقاكم في حلقة أخرى مع الدكتور أبو بكر القربي.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)