صنعاء 19C امطار خفيفة

مصر يَا مَحلَى مصر!

لم أكن مُتَحمِّسًا لِلسَّفر إلى مصر في أواخر عام 2014. لكن تبين لي أنَّ مَا تُساق إليه خَيرٌ مِمَّا تَسعَى له.

استبأجرنا شُقَّة في أحد أحياء القاهرة، ثم ذهبنا لتناول الغداء. كان وَجبةَ أسماك وبعض المأكولات البحرية في مطعم «قَدُّورَه».
لم يكن الأخ سهيل رَاغبًا في تناول الطعام. كَانَ منسجمًا مع سيجارته التي آثرها على كل ما سواها حتى صحته. كانت الوجبة شهية واستثنائية. ثُمَّ خرجنا فلم نجد سهيل حيث تركناه كما توقعنا؛ فأخذنا نبحث عنه في كُلِّ الاتجاهات بقلق.
ثم وجدناه على مسافة لا بأس بها من المطعم، يترشف كأسًا من «الكاباتشينو»، على كُرسٍ عَالٍ بِقُرب أحد «المحلات».
كيف حصل هذا؟! لم يكن معه نقود! لقد رآه صاحب المحل يرتجف من البرد؛ فأقعده على الكرسي، وأضافه بكوب ساخن من الكابتشينو. كان صاحب المحل شَاميًا. شكرناه بامتنان، وعدنا أدراجنا إلى الشقة.
كُنتُ أستيقظ بَاكرًا كَعَادتِي، ثم أفتح الشُّرفَة المطلة على الشارع، وأرى المارة، وهم في طريقهم لأعمالهم وشئونهم الخاصة، ثُمَّ أخرج أنا وسهيل إلى مقهى شعبي مجاور لنا؛ لشرب القهوة أو اليانسون، وهناك نرى الزبائن يشربون «الأرجيلة» منذ الصباح الباكر، ونستمع لأصوات بعض القُرَّاء المصريين كالشيخ مصطفى إسمعيل يصدحون بآيات القرآن الكريم.
كان هناك محل مشهور خاص بالفول والطعمية، فكنت أقصده لشراء وجبة الإفطار. ولأني اعتدت في بلدتنا على تكرار الطلب مَرةً تلو أخرى، لاحظت غَضب المحاسب مني لإزعاجه بطلبي المتكرر. كانت مرةً واحدة كافيةً ليعرف طلبي بالضبط، وينتهي الأمر.
بدأت أستكشف المكان الذي نسكن فيه، وقادتني أقدامي إلى شارع وجدت فيه محلاً فيه معروضات لوحات زيتية، فأخذت أتأمل فيها، فدعاني الشخص العامل من الداخل للدخول. وبعد السلام والمصافحة طلب مني الجلوس.
كان على أحد الطاولات «موقد» غازي صغير، عليه إناء يغلي بالقهوة، ناولني كأسًا منها، ثُمَّ عَرضَ عَليَّ سِيجارة قائلاً: تدخن؟!
فوجدت يدي تمتد بتلقائية لتناول السيجارة من يده، مع كوني لا أدخن مُطلَقًا. ودار حديث بيننا لم يخطر لي ببال أني أسمعه مدة حياتي.
لقد حدثني هذا الإنسان الطيب، وفتح لي قلبه ككتاب، وكأني أقرب الناس إلى قلبه، وكأني صديقه الحميم عشتُ ونشأتُ معه منذ أن وعى قلبه على الدنيا.
قال لي إنّ زوجته خلعته، وله منها ابنتان أو ثلاث، وأنهنَّ يَعِشنَ مع أمِّهِنَّ، وهو يعيش الآن بمفرده. وأنه يعمل في هذا المحل لمستخدمه المصري مع ابنة رب العمل هذا بالمناوبة أو العمل سويًّا في بعض الأوقات؛ وأنها كما قال: «مكتوب كتابها».
وذكر لي أنه سافر إلى دولة من دول شرق آسيا؛ للعمل مع أحد الأثرياء المصريين. وهناك تعرف على امرأة آسيوية، واقترن بها، وأنجب منها طفلة. ثم إنه اختلف مع صاحب العمل، فأرادَهُ على القيام بتسليم جواز سفره له على وجه الكيد له، فامتنع، ولولا أنّ زوجة رب العمل، وهي آسيوية، وكانت امرأة ثرية وفاضلة، وَلعلَّ الثروة التي أصابها زوجها هِي مصدرها- لولا أنها تدخلت، لكان قد تمكن من حبس صاحبنا هذا، ثُمَّ سويت القضية بأن يترك العمل، فعاد من فوره إلى مصر.
ثم قال لي، وهو يزفر زفرة أسى: إنه يعمل بجد ليجمع مَبلغًا كَافيًا من النقود؛ حتى يزور عائلته هناك، وأنه لولا أنَّ لديه زَوجةً مُحبة تنتظره، و «وصلة لحمة صغيرة» -يقصد ابنته- يقلق بشأنهما، ويهتم لأمرهما؛ لَمَا بَالَى بِالعيش كيف يكون.
ثُمَّ قامَ هذا الإنسان الطيب والصديق العزيز بإخراج جواز سفره أرانيه، وفيه اسمه وصورته؛ راجيًا أن يسعفه الحظ للعودة ثانيًا إلى هذه البلدة ليجتمع شمله بعائلته.
تكررت زيارتي لهذا الأخ في المعرض الصغير صَباحًا وعصرًا، لشرب القهوة أو الشاي عصرًا مع السجائر، وتبادل الأحاديث معه- أحاديث لم أعهد نفسي -مُدَّة حياتي كلها، وأنا الذي ذَرَّفت على الأربعين حينها- أني شاركتها أو شاركنيها أقرب الأصدقاء، ولو بالنزر اليسير منها.
وفي أحد العصريات قال لي: إذا جاءت ابنة رب العمل، سيقول لها: إني ابن عمه؛ وأني مهاجر في أحد الدول الأوروبية، وجئت في زيارة سريعة لمصر؛ حتى لا تنزعج من مشاهدة غريب يجلس في المحل.
فقلت له: لا يمكن هذا بحال، فأنا حتى لا أجيد اللهجة المصرية بشكل جيد، ثُمَّ لا داعي لأن نضع أنفسنا في مثل هذا الموقف المحرج.
وَكَانَ مما أفضي إليَّ أنه لا يطيق صبرًا بأن يظلَّ بدون زوجة، وأنه يبحث عن امرأة أرملة يتزوجها، فخطر ببالي أن أعرفه على امرأة كان لديها «بوتيك» متوسط الحجم، تدير فيه أعمالها، وتبيع فيه بعض الثياب التي تجلبها من بعض دول أوروبا، وتقوم بتبديل بعض الدولارات لنا.
كانت هذه المرأة. سمراء البشرة. لطيفة. حُلوة الحديث والملامح، وهي في منتصف عمرها. وكان قد لفت انتباهي معروضات محلها؛ إذ بدت لي فخمة وزاهية وصناعتها جيدة، فظننت أنها تستوردها كبضاعة تَمَّ استخدامها من قبل، ولمَّا سألتها بموجب ظني، أجابتني بلهجتها المصرية، وهي مُحنِقَة: «حاضرَبَكْ!»، فضحكت واعتذرت منها، ثُمَّ وضَّحت لي أنَّ الأمر ليس كما ظننت وأنها تستوردها جديدة.
ذكرت أني أردت أن أوفق بين هذين الشخصين الذين رأيت أنهما مناسبين لبعض، لكني ارتأيت أن أضرب صَفحًا عن هذه الفكرة، فمن الأفضل ترك ذلك، خاصة أنه لم يكن من عادتي إقحام نفسي في مثل هذه المواضيع.
ذات مرة، وفيما كنا في زيارة لهذه المرأة الفاضلة، أخبرتنا عن ابنة أخيها الطائشة، وشرعت تخبرنا عن جمالها البارع، وكان مما وصفتها به أنَّ «جسمها فرنساوي»، وذكرت قصة لم أعد أذكر تفاصيلها، رُبَّمَا نَجَاتُهَا من حادث سيارة كانت تقودها مع صديقاتها بتهور، حين كان بعض الشباب يَطاردونهنّ بسيارةٍ أخرى.
في اليوم التالي، وفيما أنا منتظر للوالدة والأخت خارج المحل، اقتربت فتاة سمراء مني. كانت تلبس بنطال جينز، وقميصًا أبيض. كانت متوسطة الجمال، في منتصف العشرين تَقريبًا، فطفقت أنظر إليها، فبادرتني بالقول: «ازيَّك يَاحَجْ؟».
ومع أنَّ الشيب لم يكن قد وَخطَ مُعظم لِحيتي الخفيفة أو رأسي في تلك الفترة، وكنت أرى نفسي في عنفوان الشباب، فكان هذا السؤال صَادمًا بِالنِّسَبة لي، فأجبتها على مَضَض بَأنَّي بخير حال.
ثُمَّ أني لاحظت شبهها بصاحبة «البوتيك»، فعرفت أنها صاحبة القصة المذكورة، فقلت لها بهدوء ووقار غير متصنعين: عليك ألا تقلقي أهلك عليك. فسكتت، ثُمَّ لم أدرِ بعدها أين ذهبت.
كُنتُ غَالبًا لا أستقر في الشقة صباحًا أو مساءً. ففي العصر كنت إمَّا أن أذهبَ مشيًّا أو مُستقِلاً «لأوتوبيس» إلى وسط البلد؛ لتزجية الوقت، وزيارة بعض المكتبات.
وَفَي إحدَى المرَّات، وأنا على الأوتوبيس وَاقفًا، أومأت إليَّ فتاة بمثلِ عمري، كانت قاعدة على أحد الكراسي، وأشارت إلى شخص أشيب اللحية في حدود الستين من العُمرِ وَاقفًا؛ ليأتي ويجلس على مقعدها الذي تركته وآثرته به.
وفي إحدى الليالي، وأنا في أحد أحياء القاهرة أمشي، أهمُّ بالصعود على الرَّصِيف، صادفت امرأةً تصحب طفلها على جَرَّايَة، وفيما كانت تريد أن تنزل من الرصيف، عَلِقَت إحدى عجلات الجراية في الرصيف، وظلت تعالج المسألة لبُرهَة، وأنا بانتظارها، حتى تنتهي من عملها لأصعد الرصيف، ولم يَجرِ على بالي مساعدتها، حتى إذا نزلت من الرصيف، نظرت إلي، وقالت بمنتهى اللطف: «مَعَلِشْ أنا آسفة!»؛ فشعرت بالخجل من نفسي؛ لأنه أنا مَنْ كَانَ يتوجب عليه الاعتذار؛ لفقدان اللياقة والتهذيب بترك مساعدتها.
(للحديث بقية).

الكلمات الدلالية