نساء الحديدة.. نضال يومي من أجل البقاء وتأمين لقمة العيش

نساء من الحديدة
في أزقة الحديدة وأسواقها المزدحمة، وفي البيوت الطينية التي أنهكها الزمن والحرب، تخوض النساء هناك معركة صامتة من أجل البقاء. لم يعد دورهن يقتصر على رعاية الأبناء وإدارة شؤون المنزل كما في السابق، بل وجدن أنفسهن في الصفوف الأولى لمواجهة الفقر والجوع وتداعيات الصراع الذي غيّر ملامح الحياة في المدينة الساحلية.
منذ سنوات، تحمّلت المرأة اليمنية مسؤوليات جسيمة، جمعت فيها بين دور الأم والأب، وبين تربية الأبناء وتأمين احتياجاتهم، سواء بوجود الرجل أو في غيابه. ومع الحرب، تضاعفت الأعباء، وأصبحت كثير من النساء عماداً اقتصادياً لأسرهن في وقت انهارت فيه مصادر الدخل وتوقفت الرواتب.
حين يصبح العمل ضرورة
في أحد أحياء الحديدة، تجلس صابرين (اسم مستعار) على مكتبها المتواضع في مؤسسة طبية خاصة تعمل في قسم التسويق. لم يكن خروجها للعمل خيارًا، بل ضرورة فرضتها الظروف القاسية بعد أن بات دخل أشقائها الثلاثة غير كافٍ لإعالة الأسرة كما كان قبل الحرب.
تعيش صابرين (30 عامًا) في منزل واحد مع والدها وثلاث من شقيقاتها وأحد أشقائها الذي يعيل أسرته المكونة من زوجة وثلاثة أطفال. هي الوحيدة التي أتمت تعليمها الجامعي، بينما أجبرت الظروف شقيقاتها الأخريات على ترك الدراسة.
تقول بصوت يختلط فيه التعب بالإصرار: يكتفي شقيقي بدفع إيجار المنزل البالغ 30 ألف ريال وتوفير 2000 ريال كمصروف يومي فقط. دخله لا يسمح بأكثر من ذلك. أما شقيقاي الآخران فلكل واحدٍ منهما أسرته الخاصة ودخله بالكاد يغطي متطلباتهم. من راتبي أستطيع أن أوفر احتياجاتنا الأساسية، وإن كان ذلك بشق الأنفس.
حرب سرقت الوظائف
الحرب التي تعصف باليمن منذ سنوات دمرت الكثير من المصانع ومجالات العمل وسرقت مصادر الرزق. مئات المؤسسات والمنشآت الخاصة في الحديدة توقفت عن العمل أو قلّصت موظفيها بسبب تراجع الإيرادات وانعدام الاستقرار الاقتصادي، ما أدى إلى موجات تسريح واسعة وارتفاع معدلات البطالة.

أم فاطمة واحدة من هؤلاء النساء اللواتي وجدن أنفسهن أمام واقع جديد بعد أن فقد زوجها عمله إثر تدمير المصنع الذي كان يعمل فيه. تقول لـ"النداء": بدأت أعمل في بيع الإكسسوارات وأجهزها داخل المنزل. العمل مرهق ويتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين، وأحيانًا أواصل حتى ساعات متأخرة من الليل. أعاني من آلام في ظهري وعينيّ، لكن ظروف الحياة تجبرنا على التحمل.
ورغم غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة، إلا أن قصص النساء اللواتي اضطررن للعمل بعد فقدان أزواجهن أو أقاربهن لمصادر الدخل باتت مشهدًا يوميًا في المدينة.
رجال بلا رواتب.. ونساء في الميدان
مع انقطاع رواتب موظفي الدولة منذ اندلاع الحرب، وجدت كثير من النساء أنفسهن أمام خيار وحيد: البحث عن مصدر دخل بديل يعين أسرهن على مواجهة الغلاء.
أم عبدالرحمن مثال آخر لمعاناة لا تنتهي. زوجها معلم في مدرسة حكومية، وبعد توقف راتبه لم يجد عملًا إضافيًا، ما اضطرها للعمل في بوفيه إحدى المدارس الخاصة.
تروي لـ"النداء" تجربتها بمرارة: منذ انقطاع راتب زوجي فقدنا الاستقرار. الراتب حياة، ونريد أن يعود أزواجنا لأعمالهم ورواتبهم. أحاول جهدًا توفير متطلبات الأبناء بمساعدة زوجي الذي وجد في التدريس الخصوصي وسيلة لكسب الرزق.
عملي في البوفيه ساعدنا قليلًا، لكننا نعاني كثيرًا خلال الإجازة السنوية بسبب توقف العمل. بحثت عن عمل بديل دون جدوى، وليس أمامنا سوى الانتظار حتى يبدأ العام الدراسي.
مهن كثيرة وكرامة واحدة
في مواجهة هذا الواقع، تنوعت مجالات عمل النساء في الحديدة بشكل لافت. تقول الناشطة الإعلامية أفراح بورجي إن كثيرًا من النساء امتهنّ بيع الوجبات الشعبية والحلويات والمعجنات، كما عملن في الخياطة والتطريز وبيع الحناء والكركم والبخور والعطور. وفي الأرياف، وجدن في بيع المنتجات الزراعية وقطف زهر الفل وجني الخضروات وتربية الماشية مصدرًا للعيش.
وتضيف في حديثها لـ"النداء": العديد من النساء يعملن أيضًا في إنتاج الأعمال اليدوية وتسويق السلع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كل ذلك من أجل تأمين لقمة العيش. إنه دور بطولي يعكس شجاعة المرأة التهامية وقدرتها على التكيّف مع أقسى الظروف لحماية كرامة أسرتها.
يؤكد الباحث الاقتصادي رشيد الحداد أن دور المرأة اليمنية في الحديدة وغيرها كان حاسمًا خلال سنوات الحرب، إذ ساهمت في إعالة مئات الآلاف من الأسر من خلال العمل المنزلي أو انخراطها في سوق العمل، مما ساعد في الحفاظ على مستوى دخل الأسرة رغم الأزمة.

ويشير الحداد في حديثه لـ"النداء" إلى أن النساء لم يكتفين بذلك، بل أسهمن في خلق فرص عمل للشباب من الجنسين، وبرزت نماذج ناجحة لمشاريع أسرية انطلقت من المنازل وتحولت إلى مصادر دخل ثابتة. ويضيف: للمرأة اليمنية دور اقتصادي وتجاري تاريخي، فهي لم تغب يومًا عن عملية الإنتاج المحلي أو استيراد السلع أو العمل في المصانع والمنشآت التجارية، وهذا يعكس مساهمتها المهمة في دعم الاقتصاد الوطني.
نداء حياة
في شوارع الحديدة وأسواقها وأزقتها، تتكرر حكايات "صابرين" و"أم فاطمة" و"أم عبدالرحمن" بوجوه وأسماء مختلفة، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو الإصرار على البقاء والإيمان بأن الكرامة لا تُشترى إلا بالعمل.
ورغم الألم والمعاناة، تمضي نساء الحديدة في معركتهن اليومية ضد الفقر، مسلحات بالإرادة والصبر، وموقنات أن أدوارهن تتجاوز الجدران الأربعة للبيت لتصبح حجر الزاوية في بقاء أسرهن وصمود مجتمعاتهن.