المثقف اليمني بين الاختطاف والخوف والحرية
في اليمن، كما في بلدان كثيرة، ظل المثقف والمفكر والكاتب الحر ملاحقًا من السلطة، محاصرًا بالكبت والاختطاف والإخفاء القسري.
ثلاثون عامًا من التاريخ السياسي الحديث في هذا البلد الصعب، كانت كافية لإظهار حقيقة واحدة: إن كلمة المثقف أقوى من رصاصة المقاتل، ولهذا كانت السلطات على اختلاف أشكالها تعتبره خصمًا أكثر خطورة من أي عدو آخر. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، جرى تغييب العديد من الكتاب والصحفيين والناشطين الذين رفضوا الارتهان لسلطة الحزب أو القبيلة أو المليشيا، بينما سُمح للمثقف السلطوي والمنفعي والمصلحي بالتصدر والمشهد، كونه لا يشكل تهديدًا، بل يجمّل وجه السلطة ويدافع عن مصالحها.
ومع قدوم جماعة الحوثي إلى الواجهة، بدا القمع أشد وأكثر فجاجة. إذ إن هذه الجماعة تدرك أن الكلمة الناقدة، الساخرة، والمستقلة قادرة على هدم بنيتها الفكرية والعقائدية. ولذلك لجأت إلى سياسة ممنهجة في استهداف الأصوات الحرة، فاختطفت الشاعر أوراس الإرياني من أمام منزله بصنعاء، لأنه كتب كلمات ساخرة لا أكثر، كما اختطفت معه الصحفي ماجد زايد. وقبل ذلك بسنوات كان عشرات الناشطين والصحفيين قد اختفوا قسرًا في سجون الجماعة، مثل الصحفي عبدالله المنيفي الذي عانى الإخفاء والتعذيب في ذمار، وعدد من شباب الثورة الذين اعتقلوا عام 2015 مثل معين الضبياني وعمر أحمد صالح الفقيه ونواف اليتم ومراد الضبياني وحمير السقفي ومحمد الراعي. ولم تتوقف الاعتقالات عند هذا الحد، ففي الأعوام الأخيرة بلغ عدد من جرى اعتقالهم لمجرد الاحتفال بثورة 26 سبتمبر، أكثر من 150 ناشطًا في تسع محافظات، بينهم أطفال، في محاولة لتجريم الفرح الوطني وتحويله إلى جريمة.

لكن لا يمكن القول إن الحوثيين وحدهم هم من مارسوا هذه الانتهاكات، إذ إن أطرافًا أخرى في ما تسمى المقاومة أو القوى المتنازعة مارست بدورها القمع ضد المثقف المستقل. أي صوت يرفض الخضوع للأيديولوجيا، سواء أكانت دينية أو حزبية أو قبلية، يصبح هدفًا. هذا ما يجعل المثقف الحقيقي بلا حماية، غريبًا في وطنه، مهددًا من كل الأطراف. لم يكن أوراس الإرياني ولا غيره من المختطفين تابعين لحزب أو مليشيا أو لتجار الحروب، بل كانوا مجرد حاملين لكلمة حرة، وهذه الحرية بحد ذاتها هي ما يخيف جميع السلطات.
إن المفارقة أن اليمنيين الذين يرفعون السلاح لا يُخشى منهم بقدر ما يُخشى من الذين يرفعون الكلمة. لأن النص، والفكرة، والسخرية، والمقال، والقصيدة، تحمل قدرة على خلخلة البنية الصلبة للاستبداد أكثر من آلاف الطلقات. فالرصاصة تقتل جسدًا، أما الكلمة فتفتح وعيًا وتزعزع شرعية سلطة بأكملها. ولهذا، كلما ازداد خوف السلطة من الكلمة، ازدادت بطشًا بمبدعيها، لكنها في الوقت ذاته تكشف هشاشتها أمام القلم والفكر.
لقد كان من المفترض أن تكون الثقافة حاضنة للنقاش الحر والاختلاف والتنوع، لكن ما جرى هو العكس: تحولت الساحة إلى ميدان مطاردات وكمائن ضد كل من يجرؤ على التفكير خارج إطار القوة والغلبة. المثقف السلطوي بقي في واجهة المشهد يزين الخطاب ويبرر القمع، بينما اختُطف المثقف المستقل إلى السجون، أو أُجبر على المنفى، أو صمت تحت وطأة الخوف. ومع ذلك تبقى الحقيقة أن الكلمة لا تموت. فكما كان الإنسان في البدء فكرة ثم تحول إلى كائن، تظل الكلمة في البدء والنهاية هي التي تمنح الوجود معناه.
إن ما يحدث في اليمن اليوم يعيد التذكير بمسؤولية الكُتّاب والمثقفين والمفكرين الأحرار في عدم التوقف عن الكتابة. عليهم أن يواصلوا إطلاق رصاص كلماتهم، لا لتصفية الأجساد، بل لمواجهة المليشيات التي تمادت في كل شيء، ولمحاسبة السلطة التي تعمدت تغييبهم، ولإيقاظ الناس من سباتهم الطويل. فالمستقبل لا يُصنع بالبندقية وحدها، بل بالكلمة التي تفتح عيون الأجيال على بدائل إنسانية، عادلة، وحرة.
بهذا المعنى، يصبح اختطاف أوراس الإرياني أو عبدالله المنيفي أو غيرهما من المختطفين ليس مجرد حدث سياسي أو أمني، بل علامة فارقة على مدى رعب السلطة من القصيدة والمقالة والفكرة. وما دام هذا الرعب قائمًا، فذلك يعني أن الكلمة ما تزال تمتلك قوتها، وأن الطريق إلى الحرية، وإن بدا بعيدًا، يظل ممهدًا بأقلام لا تنكسر.