صنعاء 19C امطار خفيفة

يموتون فطيس

كان حسن الترابي أكبر المحرضين على "الجهاد" في جنوب السودان ضد الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق. وخلال فترة تحالفه مع عمر البشير، دفع الترابي بمئات الآلاف من الشباب نحو الموت في جنوب السودان، وسط حملات تعبئة وحشد فكري استخدمت كل أدوات التحريض والتضليل لتزيين الموت وتقديمه باعتباره شهادة وقتالًا في سبيل الله.

وبعد أن اختلف الترابي مع البشير، التقى جون قرنق وتفاهم معه على إنهاء الحرب ومعارضة البشير. وبعد هذا التحول، سُئل الترابي: ماذا تقول اليوم لمن يذهب لقتال جون قرنق؟ فأجاب ببرود: "من يذهب للقتال فإنه يموت فطيس"، أي يموت بلا قيمة ولا جدوى.
خلال الثمانينيات كان عبدالمجيد الزنداني من أكبر المحرضين والداعين لـ"جهاد" الشيوعيين في أفغانستان. وكان هو وعبدالله عزام من أبرز من روّج للخرافات حول "كرامات المجاهدين". وقد أدّت دعايتهم وغيرها من دعايات رجال الدين إلى سوق آلاف الشباب المغفلين للجهاد في أفغانستان.
في المقابل، لم يسعَ الزنداني يومًا إلى الشهادة التي كان يحمس غيره للوصول إليها؛ لا في أفغانستان ولا في حروب اليمن العديدة التي كان أحد صانعيها. ولم يجاهد إلى أن مات في إسطنبول متمتعًا بجنة الدنيا التي حرم آلاف البسطاء منها.
عبدالملك الحوثي، الذي يدفع بآلاف الشباب إلى الموت ليحكم هو وعائلته وسلالته، يعيش متخفيًا منذ أكثر من عشرين عامًا، هاربًا من "الجهاد" و"الشهادة" التي يدعو الآخرين إليها.
قد يقول البعض إن رجال الدين والسياسة مثل الترابي والزنداني والحوثي، مهمتهم إدارة الجهاد والتعبئة الفكرية، وإن دورهم أكبر من الذهاب إلى الجبهات بأنفسهم، في حين يقوم الناس العاديون بالقتال. يبدو هذا التبرير مقنعًا ظاهريًا، لكن السؤال الأهم: لماذا لا يدفعون بأبنائهم وأقاربهم إلى الجهاد كما يدفعون بأبناء الآخرين، بخاصة الفقراء والمغفلين؟ فالمعروف أن أبناءهم نادرًا ما يجاهدون، وفي الغالب يتم ذلك دون رضاهم.
على امتداد التاريخ، كانت الحروب تُصنع وتُروّج ويُستفاد منها من قبل شبقيّي السلطة والمال والجنس من عديمي الضمير والأخلاق، بينما يدفع ثمنها الفقراء والمغرر بهم ممن يُوهمون بأنهم يقاتلون من أجل قضايا عادلة، وأكثر هؤلاء يُدفعون تحت غطاء العقيدة الدينية.
بعد الحرب في اليمن، رأيتُ شبابًا من الجرحى؛ فقد بعضهم بصره، وفقد آخرون أطرافهم، وتشوهت وجوههم، وأصبحوا معاقين بشكل كلي أو جزئي. كان منظرهم يفطر القلب إلى حد أنني لم أكن أحتمل النظر إلى ما آلوا إليه.
معاقو حرب اليمن، الذين استعرض حزب الإصلاح بعضهم قبل أيام لاستثمارهم في مشاريعه الخاصة، يقدّرون بعشرات الآلاف، فيما هناك مثلهم، وربما أكثر، قد امتلأت بهم المقابر التي ازدهرت وازداد روادها بفضل هذه الحرب.
هؤلاء القتلى والجرحى ذهبوا إلى المعارك تحت وطأة الفقر والحاجة، أو بدافع الحماس والاعتقاد بأنهم يقاتلون من أجل قضية عادلة. لكن الحقيقة أنهم جميعًا ذهبوا إلى حروب ليست حروبهم؛ بل حروب الحوثي والزنداني، وغيرهم، وبالتحديد من يقف خلفهم من خارج الحدود.
"المجاهد" في أفغانستان مات من أجل مصالح دول كبيرة على رأسها الولايات المتحدة، وكانت أجهزة استخبارات "الكفار" والمسلمين تستخدمه أداة رخيصة في صراعاتها الكبرى. والمقاتل في حرب اليمن يموت ويُجرح لصالح تجار الحروب، صغارهم وكبارهم، والسياسيين المحليين ورعاتهم الخارجيين. يُوصف بالمجاهد والشهيد حين يموت لأجلهم، و"يموت فطيس" حين لا يعودون بحاجة إليه. هذه هي فلسفة كل تاجر حرب: إن متّ من أجلي فأنت شهيد، وإن متّ لصالح غيري فأنت تموت فطيس.
أوجّه كلامي لأبنائي المقاتلين في اليمن: لا توجد معركة عادلة تستحق أن تموتوا من أجلها. أنتم تروس صغيرة في ماكينة ضخمة يديرها أمراء الحرب وتجار الدم، وخلفهم دول لا تكترث بحياتكم.
ليست هناك حرب من أجل الجهاد ومحاربة إسرائيل وأمريكا كما يزعم الحوثي، ولا حرب من أجل استعادة الدولة كما يروّج الإصلاح، ولا حرب دفاعًا عن عمر وعائشة كما يقول السلفيون، ولا حرب من أجل "استعادة دولة الجنوب" كما يردد الانفصاليون. أنتم تموتون فطيس، وهذا هو الواضح أمامي.
هل تعلمون أن من تقاتلون لأجلهم سيعانقون غدًا من يقولون لكم اليوم إنهم شياطين وأعداء أبديون، إذا اقتضت مصالحهم ذلك، أو جاءت الأوامر من أسيادهم في الخارج؟ هكذا فعل الترابي مع قرنق، وهكذا فعل ويفعل السياسيون وأمراء الحروب عبر التاريخ.
في اليمن، وبعد أن اتضحت الصورة تمامًا بأنه لا توجد معركة لاستعادة الدولة، بات كل من يقاتل اليوم يقاتل على باطل دون استثناء. فلا تقاتلوا إلا إذا كنتم على يقين بأنكم تقاتلون من أجل وطنكم وكرامتكم، لا من أجل مصالح غيركم.

اخرجوا من الجبهات، واتركوا السياسيين وتجار الحروب يتقاتلون بأنفسهم. وحينها سترونهم يتصالحون مع من أوهموكم بأنهم أعداؤكم، أو يفرون بحثًا عن ملاذات آمنة؛ لأنهم ببساطة لا يحبون الشهادة ولا الجنة ولا الحور العين، فهم يرفضون القتال بأنفسهم.

عبدالملك الحوثي المختبئ في بطون الجبال، إذا وصل الخطر إلى باب الكهف أو السرداب الذي يختبئ فيه، سيستسلم ويعقد صفقة تُبقيه حيًا أو تمنحه جزءًا من السلطة. لن يقاتل حتى النهاية كما يوهم أنصاره. ومثله فعل قادة الإصلاح، وعلى رأسهم الزنداني الذي فرّ عند أول "قارح" إلى الرياض، مختلقًا قصة الهروب التي تمت بعناية إلهية خاصة قادته إلى بر الأمان، كما زعم.
ومثل الحوثي والزنداني، سيفرّ أو يتصالح أو يغيّر ولاءه كل سياسي أو تاجر حرب، صغيرًا كان أو كبيرًا، إذا اقترب الخطر منه. فستسمعون سياسيين وقادة حوثيين يرددون "لا حوثي بعد اليوم" حين يُهزم الحوثي، كما ستسمعون سياسيين تابعين لطارق صالح والإصلاح والانفصاليين يرددون صرخة الحوثي إذا سيطر الحوثي على مناطقهم.
لا أحد منهم سيقاتل. هم لا يريدون الجنة ولا الشهادة، والأرجح أنهم لا يؤمنون بها أصلًا؛ فلو آمنوا بها لكانوا في الصفوف الأولى.
عودوا إلى أسرِكم وحياتكم. حياتكم أغلى من حياتهم جميعًا. حافظوا على أعينكم وأيديكم وأرجلكم. وإن كان ثمة جدوى للقتال، فلتكن ضد من يسوقكم للموت فطيس من أجله، فهو أولى بأن تقاتلوه.
أنتم تستحقون الحياة، لا أن تموتوا فطيس.

الكلمات الدلالية