صنعاء 19C امطار خفيفة

ثورة 26 سبتمبر: من إسقاط الملكية إلى استعباد الشعب بجمهورية ملكية

ثورة 26 سبتمبر: من إسقاط الملكية إلى استعباد الشعب بجمهورية ملكية

في فجر السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962، دوّى في صنعاء صوت المدافع، ليعلن سقوط النظام الملكي الإمامي الذي حكم اليمن لعقود طويلة، وانتصار ثورة رفعت شعارات الحرية والعدالة والكرامة والمواطنة. لم تكن هذه الثورة مجرد حدث عابر في تاريخ اليمن، بل جاءت امتدادًا لمحاولات سابقة منذ ثورة 1948 الدستورية التي قادها العلماء والمثقفون ضد حكم الإمام يحيى حميد الدين، ثم حركة 1955 ضد الإمام أحمد، وأخيرًا ثورة 1959 الفاشلة في تعز. كلها كانت محاولات مبكرة لميلاد وطن جديد لم يكتمل إلا بإعلان الجمهورية في 26 سبتمبر 1962.

لقد جسدت الثورة في بدايتها حلم اليمنيين بالتحرر من الاستبداد والخروج من عصور الظلام إلى آفاق النور. كان الحلم أن يتحول اليمن من بلد معزول تغلقه أسوار الكهنوت الإمامي إلى دولة حديثة تسير على خطى العالم العربي الذي كان آنذاك يعيش لحظة تحرر واسعة. وقد كان للدعم المصري بقيادة جمال عبدالناصر دور بارز في تثبيت أركان الجمهورية، حين أرسل الجيش المصري لحماية الثورة من هجمات الملكيين المدعومين من قوى إقليمية أخرى.
لكن، وبقدر ما كان الدم الزكي الذي سال في جبال اليمن ووديانه دفاعًا عن الجمهورية، شاهدًا على صدق الحلم، بقدر ما كان الصراع السياسي والاجتماعي الذي أعقب الثورة بداية انحرافها عن مسارها الأصيل. فالثورة التي وُلدت من رحم الشعب، سرعان ما وجدت نفسها محاصرة بتحالفات المصالح، وأبرزها دخول شيوخ القبائل الكبار إلى قلب السلطة. هؤلاء الشيوخ الذين كان يُفترض أن يكونوا سندًا للثورة، استغلوا ظروف الحرب الأهلية وموازين القوى، ليحولوا الجمهورية الناشئة إلى إقطاعيات خاصة، يوزعون فيها النفوذ والثروة كما يشاؤون.
لقد تحولت الجمهورية شيئًا فشيئًا إلى جمهورية ملكية بواجهة جديدة. فالقبيلة دخلت إلى الدولة، والدولة ذابت في نفوذ المشايخ، وأصبح المواطن اليمني محكومًا ليس بدستور الثورة ولا بمبادئها، بل بإرادة شيخ نافذ، أو بمزاج تحالف عسكري قبلي يمسك بمفاصل السلطة. صحيح أن الجمهورية أنهت حكم بيت حميد الدين، لكنها سرعان ما استبدلته ببيوت جديدة من المشايخ والعسكر، الذين ورثوا الثورة، لكنهم لم يحملوا روحها.
ولم يكن ذلك مجرد توصيف سياسي، بل واقع عاشه اليمنيون على مدى عقود. فقد بسط المشايخ الكبار نفوذهم على مقدرات الدولة: الوزارات، المؤسسات، الثروة الوطنية، وحتى مقاعد البرلمان. واستُغلت أهداف الثورة -الحرية والمساواة والعدالة- كعناوين للاستهلاك الخطابي، بينما بقي المواطن في العزلة والفقر والخوف. وكأنما استبدل اليمنيون تاج الإمام بعمامة الشيخ، واستبدلوا خطاب الكهنوت بخطاب السلطة القبلية التي صارت أكثر التصاقًا بالمال والنفوذ.
لقد كان من المفترض أن تفتح الجمهورية الباب واسعًا أمام بناء دولة مؤسسات، لكن الذي حدث أن شيوخ القبائل أعادوا إنتاج الملكية بطريقة أخرى. فبدلًا من جمهورية حديثة على غرار ما بشرت به الثورة، نشأت جمهورية عائلية -قبلية، احتكرت الحكم والقرار لعقود طويلة، وفرضت على الشعب واقعًا لا يختلف كثيرًا عن واقع الإمامة الذي ثاروا عليه.
وبعد ثلاثين عامًا من تلك التحولات، كان من الطبيعي أن ينفجر الشارع اليمني مجددًا في 11 فبراير 2011، باحثًا عن ثورة جديدة تُعيد للجمهورية معناها الحقيقي. خرجت الجماهير حينها تطالب بإسقاط النظام القبلي العسكري الذي استعبد الناس تحت ستار الجمهورية، وتمنّت أن تستعيد المبادئ التي رفعت في 26 سبتمبر: الحرية والكرامة والعدالة. لكن، وكما حدث في ستينيات القرن الماضي، تسللت القوى السياسية التقليدية، ومعها المشايخ ومراكز النفوذ، لتسرق الحلم مرة أخرى وتترك الشعب في مواجهة خيبات جديدة.
إن قراءة تجربة ثورة 26 سبتمبر بصدق تكشف أن المشكلة لم تكن فقط في بقايا الملكية التي حاربتها الثورة في سنواتها الأولى، بل في الطبقة القبلية السياسية التي استغلت الجمهورية لتؤسس ملكية جديدة داخلها. لقد أصبح اليمنيون منذ ذلك الحين يعيشون بين ملكيتين: ملكية سقطت بالتاريخ، وملكية مقنّعة لبست ثوب الجمهورية.
إن اليمن بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى مراجعة صادقة لتجربته الثورية، وإلى إعادة الاعتبار لمبادئ سبتمبر التي ضحى لأجلها آلاف الشهداء. فالجمهورية ليست شعارًا يُرفع ولا علمًا يُرفرف، بل عقد اجتماعي يقوم على المساواة، والمواطنة، وتوزيع عادل للثروة والسلطة. أما أن تبقى الجمهورية مرتهنة لمشايخ ونخب تتحكم في مقدرات الدولة، فإن ذلك ليس سوى إعادة إنتاج للملكية بوجه آخر، ووصمة عار في جبين التاريخ.
لقد آن الأوان أن يُكتب لتضحيات سبتمبر معنى جديد، وأن تُفك قيود الجمهورية من أسر المشايخ والعسكر. فاليمن لا يمكن أن ينهض ما لم تتحول الجمهورية من جمهورية ملكية إلى جمهورية شعبية حقيقية، يكون فيها المواطن هو السيد، والدولة هي المرجع، والكرامة هي القاعدة التي لا تُمس.

الكلمات الدلالية