الـ 26 من سبتمبر يوم المواطنة اليمنية

احدى دبابات ثوار ثورة 26 سبتمبر
وُلِدَت المُوَاطَنَة اليمنية في يوم الـسادس والعشرين من سبتمبر 1962. قبل ثورة سبتمبر كننا ننتمي لقبائل، ومناطق، وأُسَر، وجنوب، وشمال أكثر من الانتماء لليمن. لقد أيقظت الثورة وَعيَنَا وانتماءنا الوطني، وتراجعت الانتماءات البدائية الضيقة.
انفتحت اليمن على الأخوة القومية وعلى العصر الحديث. حرب السبعة أعوام أعاقت التنمية والبناء والتحديث، ومع ذلك التحق أبناء الفلاحين و«المدكنين»، وأصحاب الحرف بالتعليم الحديث، وانخرط جُلُّ المواطنين في الحياة السياسية، وتحققت إنجازات طيبة في مختلف مجالات الحياة.
فُتِحَت مئات وآلاف المدارس، وعشرات المستشفيات، ومئات وآلاف المستوصفات والمراكز الصحية، وانتعشت التجارة، وكان لدعم الأشقاء العرب: مصر، والكويت، وسوريا، والجزائر، والعراق؛ وكذلك الأصدقاء: روسيا، والصين- الدور الكبير في دعم اليمن ومساندة ثورتها وجمهوريتها.
لم يَمضِ إلا عام واحد حتى اشتعلت الثورة في جبال ردفان في الرابع عشر من أكتوبر 1963 ضد الاحتلال البريطاني، وواجهت الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر تحديات خطيرة، ولم تكن كُلُّهَا مؤامرات خارجية أو من صنع الرجعية والاستعمار؛ وإنَّمَا كانت أخطاء الثوار حاضرة، وجرائم الثورة المضادة أقوى.
في العيد الثالث والستين للثورة اليمنية لن نبكي، ولكننا سنقرأ، ونعيد القراءة، ونفكر في الحل.
ليس علينا كيمنيين وكعرب نسيان أو تجاهل أخطاء الثورات القومية، كما أنَّ الحال الذي وصلت إليه شعوبنا وأمتنا العربية لم يكن آتيًا فقط من الرجعية والاستعمار، وإنما أيضًا من أخطاء الثُّوَار أنفسهم، وجرائم الثورة المضادة التي كانت قوة حاكمة في مصر (مراكز القوى)، وفي رأس البعث في سوريا، وفي العراق، وفي قيادة الجيش والدولة في اليمن.
لم يكن اهتمام أمريكا وبريطانيا باليمن كبيرًا جدًا لمكانة اليمن ووزنها وتأثيرها فحسب؛ وإنما أيضًا لِقُربِها من آبار النفط، وخطر ثورتها على الخليج والسعودية.
أخطاء الثوار كانت الثغرة التي نُفِذَ منها، وتَمَّ العمل عليها مِنْ أعداء الشعوب والأمة العربية. ففي الشمال اليمني (الجمهورية العربية اليمنية) احتدمَ الصراع، ومنذ اليوم الأول، حَولَ مَنْ يحكم، وليس كيف يحكم، واتخذ الصراع في قلب الحكم أبعَادًا شديدة التخلف، وكان للنجدة القومية المصرية دور إيجابي في الدفاع عن الثورة والجمهورية، وفي دعم الثورة في جنوب الوطن، ولكن الأخطاء المصرية أيضًا كانت خطيرة في التوسيع العامد لدائرة الحرب، وفي نقل خلافات النظام في مصر مع القوى السياسية المصرية، ومع سوريا والعراق- إلى اليمن.
والواقع أنَّ مراكز القوى التي أعاقت التطور السياسي، وقمعت التعددية والحريات في مصر، وأساءت إلى تجربة الوحدة في سوريا- عملت في اليمن أسوأ مما تعمله في مصر أو مع شقيقاتها العربية؛ فقد اعتمدت الحرب، وقوة مشايخ الضمان وَسيلةً وحيدةً لهذه الغاية، وأذكت الصراعات بين قُوَى الثورة والمجتمع اليمني لغايات تخصها، وتدخلت في تفاصيل الحياة في اليمن، ودفعت بثوار وموالين للثورة إلى الجهة المُعَادِيَة.
غير أنَّ هذا لا ينسينا دور القُوَى المعادية أيضًا؛ ففي كتاب «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، يشير مارك كورتيس؛ وهو مؤرخ بريطاني تمكن من الاطلاع على الوثائق السرية البريطانية التي رُفِعتْ عنها السِّرِّيَّة (وثائق الخارجية والمخابرات)، ويقول في كتابه هذا: "وكانت اليمن هي التي توافقت فيها مصالح بريطانيا والسعودية- السياسية لأقصى حَدّ؛ وذلك في دعمها لقوى دينية محافظة في وجه تهديد قومي عربي. ففي سبتمبر 1962 خلع انقلاب شعبي قامت به جمهورية بقيادة العقيد عبد الله السلال الإمام محمد البدر الذي ظَلَّ في السلطة أسبُوعًا".
ويضيف: " ولجأت قوات الإمام للجبال، وأعلنت العصيان، وقَدَّمتْ «هوايتهول» الأسلحةَ والنقودَ للمتمردين، وهي تعرف أنَّ المستفيدين من ذلك لا يستطيعون كسب الحرب، ولكن كما قال رئيس الوزراء ماكميلان للرئيس كينيدي أنه لن يضرنا كثيرًا أن ينشغل النظام اليمني الجديد بشئونه الداخلية خلال السنوات القليلة القادمة؛ كما حدث في إندونيسيا قبل بضع سنوات. لقد اعتبرت بريطانيا أنَّ نزاعًا كهذا يوفر قيمة مفيدة لإزعاج العدو". (ص 147- 148).
المفارقة الراعبة أنَّ الأطراف المتصارعة كانت تريد الحرب، وإطالة أمدها. كيف؟
يريدها الثوار السبتمبريون؛ لاعتقادهم أنَّها الوسيلة الوحيدة للخلاص من الإمامة ومخلفاتها، ولا يعطون الاهتمام الكافي للتنمية والبناء والتحديث، ويريدها أكثر كبار الضباط ومشايخ الضمان؛ للإفادة من مواردها التي لا تنضب، ولم يدرك البعض من ثوار سبتمبر أنَّ الحرب تقوي هذا الصنف ولا تضعفهم، وهي سلاحهم عبر التاريخ.
ويريدها كبار المشايخ؛ لأنها مصدر تكديس المال والسلاح. فالمال والسلاح من المملكة السعودية، وبريطانيا، ومصر، ودول أخرى، وكان المشايخ الملكيون والجمهوريون يتواصلون وينسقون ويشتغلون على الحرب. فالحرب «تجارة لن تبور»؛ وهي وحدها وسيلة الإثراء والوجاهة.
ويريدها السعوديون لا لعودة الملكية، وإنَّمَا لإبقاء الأوضاع كما تركتها الإمامة، والقضاء على الثورة والجمهورية، وتصفية الحساب مع الزعيم عبد الناصر والقومية العربية، وتريدها مراكز القوى المصرية للمزيد من السيطرة على القرار في مصر، والحَدِّ من طموح ناصر القومي، وعسكرة الثورة المصرية وحرفها عن مسارها، بالإضافة إلى كسب المزيد من عوائدها.
أمَّا القوى التقليدية اليمنية فتريد إزاحة أسرة حميد الدين فقط، مع الإبقاء على جوهر الحكم؛ وهذا ما كان يتوافق عليه الاستعمار البريطاني، والسعودية، وتجلى في مؤتمرات عمران، وَخَمِر، والطائف- التي عبرت عن هذه الإرادة.
شباب الثورة من الضباط الأحرار الصغار الذين فجروا الثورة ذهبوا إلى المعارك واستشهدوا، وأقصي بعضهم الآخر من المواقع والقيادات، وبقية شبابها من الاتجاهات الماركسية، والبعثية، والمستقلين- جَرَّمَهُم الدستور الذي أدان الحزبية، ودمغ منتسبيها بالخيانة الوطنية، والعمالة للخارج، وتَمَّ إبعادهم، وفتحت السجون أبوابها لهم.
تحولت الحرب من أهلية إلى حرب وطنية، وإلى مواجهة مع قادة حروب مرتزقة: أمريكان، وبريطانيين، وبلجيك، وفرنسيين، وإيرانيين، وتدخل بريطاني وإسرائيلي مباشر.
قادة الحرب الحقيقيون كانوا يستهدفون توريط الجيش المصري في اليمن، واستنزاف قدرات الثورة المصرية، وتعميق الصراع العربي، وإعاقة وتعطيل الإنجازات الديمقراطية.
كان الأخطر من كُلِّ ذلك التهيئة لـ «حرب الأيام الستة» التي كانت مراكز القوى المصرية تتوخي منها حسم الصراع مع الثورة القومية، وتريدها الامبريالية الأمريكية والاستعمار البريطاني وإسرائيل طريقًا للقضاء على الثورة القومية في كُلٍّ مِنْ مصر، والجزائر، وسوريا، والعراق، واليمن، ولم تكن الرجعيات العربية غائبة.
قادة الثورات الوطنية وحروب التحرير اعتقدوا أنَّ التاريخ يبدأ من يوم وصولهم إلى السلطة، وألغوا أو استهانوا بالنضالات السلمية والديمقراطية التي صنعتهم، وجرموا الزعماء، والقادة النقابيين، وقادة الأحزاب الديمقراطيين، وصادروا الحريات والحياة السياسية، واعتقدوا أنَّ القوة والسلاح وحده والحرب هي الوسيلة الوحيدة والمثلى لكل معضلات السياسة، ومشاكل الاقتصاد والتطور والبناء. وإذا كان هذا داء عامًا في الثورات القومية؛ فإنَّ نصيبَ اليمن في الثورتين: سبتمبر، وأكتوبر هو الأوفى.
كانت المصالحة الوطنية عام 1970 حرفًا لمسار الحرب. أمَّا حرب السبعة أعوام، فكانت ضد الرجعية والاستعمار، ثُمَّ تحولت إلى حروب بين الشمال والجنوب في: 1972 ، و 1979، وحروب المناطق الوسطى، ثُمَّ الحروب والانقلابات والاغتيالات داخل كُلِّ شطرٍ على حدة. وأخطرها على الإطلاق أحداث أغسطس في صنعاء 1968، وأحداث يناير 1986، وثالثة الأثافي حرب 1994 ضد الجنوب وضد الوحدة السلمية.
ويقينًا فإنَّ حرب 1994 هي أمُّ الحروب المتواصلة التي دَمَّرَتْ الكيان اليمني، وَمَزَّقَتْ النسيج المجتمعي، وَحَوَّلتْ اليمن إلى كيانات هزيلة، وأعادت اليمن- كل اليمن- إلى المكونات الأولى.