صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن: سلطات بلا دولة

الأطراف المتصارعة في اليمن لا تُظهر في سلوكها السياسي والعسكري ما يشير إلى أنها معنية ببناء دولة وطنية ذات مؤسسات راسخة، بل إن مصالحها المباشرة ترتبط باستمرار الوضع القائم أو تكريسه بأشكال جديدة. فالحالة الراهنة تمنحها القدرة على التحكم في الموارد العامة من دون رقابة، وتتيح لها فرض أنماط من الحكم لا تخضع للمساءلة، ولا تستند إلى القوانين أو الأعراف المؤسسية. بهذا المعنى، فإن بقاء الدولة في وضعها الضعيف، أو إعادة تشكيلها على نحو يخدم هذه القوى، يمثل مصلحة جوهرية لها.

هذا النمط من السلوك السياسي ترافقه ظواهر متكررة تعكس غياب القيم الأخلاقية وانطفاء الضمير الجمعي في إدارة الشأن العام. فالانفلات الأمني، وارتفاع الأسعار، وانعدام الخدمات الأساسية ليست نتائج عرضية، بل هي انعكاس مباشر لطبيعة الإدارة القائمة على الاستغلال والفساد، حيث لا يشكل دفع مرتبات الموظفين أو ضمان سلامة المواطنين أولوية لدى القوى المسيطرة. ومن ثم يصبح القتل والنهب والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري ممارسات روتينية لا تواجه مساءلة جدية.
قضية مقتل أفتِهان المشهري في تعز، وقبلها قضية إخفاء عشال في عدن، ليست سوى أمثلة حديثة لظاهرة أوسع من الجرائم والانتهاكات التي تُدفن من دون تحقيق شفاف أو محاسبة. هذه الحالات تنضم إلى سجل طويل من الجرائم التي ارتُكبت في سجون وسلطات معظم المليشيات، حيث يغيب القانون وتُستبدل أدوات العدالة بممارسات القوة المجردة. وهو ما يرسّخ حالة من الإفلات من العقاب، ويشجع على تكرار الانتهاكات، ويُضعف ثقة المجتمع بأي مشروع سياسي يدّعي تمثيله.
في هذا السياق، يتعمّق إدراك عام بأن استمرار الوضع الراهن يفضي إلى مزيد من التآكل في البنية الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فإن التجربة التاريخية لليمنيين، خصوصاً إرث ثورتي سبتمبر وأكتوبر، توحي بأن موجات المقاومة الشعبية قادرة على إعادة التوازن في لحظة تاريخية فارقة. فالقوى التي تعطل قيام الدولة لا يمكنها الاستمرار إلى ما لا نهاية في مواجهة تطلعات الناس إلى العدالة والكرامة وبناء مؤسسات حقيقية.
إن المسار نحو الخروج من هذه الأزمة لا يمر عبر تفاهمات شكلية أو اقتسام جديد للسلطة بين الفاعلين الحاليين، بل عبر عملية أوسع لإعادة تأسيس العقد الاجتماعي على أسس وطنية جامعة. ويتطلب ذلك إصلاح المنظومة القضائية والأمنية، وتحرير الموارد العامة من سيطرة الجماعات المسلحة، وفتح مسارات للمساءلة والعدالة الانتقالية. من دون ذلك، سيظل مستقبل الدولة رهناً بمصالح ضيقة تعمّق الانقسام، وتؤجل إمكانية التعافي.

الكلمات الدلالية