من الركام إلى الأمل: الدريهمي التي أنهكتها الحرب
من بين الركام تنبض الدريهمي بالحياة من جديد. المدينة التي خنقتها الحرب، ومرّت عليها سنوات من الحصار والقصف والنزوح، تحاول اليوم أن تلملم جراحها، وتنهض كطائرٍ جريح يفتح جناحيه رغم النزف.. في طرقاتها التي عرفها الدمار يعود صدى خطوات الأطفال، وفي حقول نخيلها التي صودرت ثمارها مرارًا، يغرس الأهالي الأمل، كما يغرسون فسائل النخل الصغيرة.
على بُعد نحو 20 كيلومترًا جنوب مدينة الحديدة، تقف الدريهمي شاهدة على واحدة من أعنف المآسي الإنسانية التي خلّفتها الحرب في الساحل الغربي.. مدينة صغيرة ببيوتها الطينية ومزارع نخيلها التي كانت تمدّ أهلها بالعيش الكريم، تحولت إلى مسرحٍ للمواجهات، ثم إلى مدينة أشباح نزح عنها سكانها قسرًا، ليعودوا إليها بعد سنوات، فيجدوا الخراب والألغام.
الحياة أقوى من الموت
لم تكن الدريهمي يومًا مجرد جغرافيا لمدينة تهامية صغيرة، بل حكاية صمود إنساني في وجه الرصاص والجوع والحصار والألغام.. واليوم بعد سبع سنوات من الدمار يقف أبناؤها على مفترق طرق، إمّا أن تبقى شاهدًا على جراح الحرب، أو أن تنهض لتعلن أن الحياة أقوى من الموت.
من بعيد تبدو الدريهمي كأنها مدينة خرجت للتو من كتاب التاريخ، نخيلها شاهدٌ على قصفٍ لم يرحم، وبيوتها التي كانت ملاذًا دافئًا، تحولت إلى أطلالٍ، وبين الأزقة تتناثر الحكايات كأشلاء مبعثرة. لكنها رغم كل شيء، مازالت تنبض، تحاول أن تنفض الغبار عن كتفيها، وتستعيد ملامحها التي شوّهتها الحرب.

تبدو المدينة اليوم مثل لوحة مشروخة من الحرب.. نخيل مقطوع، منازل نصفها أطلال، وشوارع صامتة إلا من حكايات الناجين. بعد سبع سنوات من النزاع، لاتزال المدينة تعاني آثار واحدة من أعنف المواجهات التي شهدها اليمن منذ 2018.
قصف ونزوح
في يونيو 2018، تقدمت القوات المشتركة نحو مدينة الحديدة، لتقع الدريهمي في قلب المواجهات.. وفي أغسطس من العام نفسه، تعرّضت لقصفٍ عنيف وحصار خانق أجبر أكثر من 35 ألف نسمة على النزوح الجماعي.
يقول حسن سالم، أحد العائدين: "خرجنا بلا شيء. حملنا أطفالنا فقط، وتركنا بيوتنا ونخيلنا وذكرياتنا. كنا نظن أننا سنعود بعد أيام، لكننا بقينا سنوات نتنقل بين القرى والمخيمات".
لم يكن النزوح وحده مأساة الدريهمي. ففي 2019 و2020، عاش من تبقى من الأهالي تحت حصار خانق. الغذاء كان نادرًا، الدواء شبه معدوم، والموت حاصر الجميع.
تروي أم حسين، إحدى الناجيات: "كنت أقسّم رغيف الخبز على أربعة. بعض الأيام لم نجد سوى الماء. رأيت جارتي تفارق الحياة لأنها لم تجد علاجًا لمرضها".
تقارير دولية أكدت أن الحصار كان من الأقسى في اليمن، وأن عشرات المدنيين قضوا بسبب الجوع والمرض.
عودة محفوفة بالموت
في نوفمبر 2021 انسحبت القوات المشتركة من جنوب الحديدة، فعاد بعض النازحين إلى الدريهمي على أمل استعادة حياتهم. لكنهم اصطدموا بواقع أشد قسوة.. منازل مهدمة، أراضٍ جرداء، وطرقات مفخخة بالألغام.
ووفق المرصد اليمني للألغام، فإن أكثر من 120 مدنيًا قُتلوا أو جُرحوا بين 2021 و2023 نتيجة انفجار ألغام زرعت في منازل وطرقات عامة.
تحكي أم خالد بحرقة: "ابني عاد فرحًا ليستعيد بيتنا، لكنه لم يعد. انفجر به لغم، ولم أجد سوى بقايا ثيابه. لغم صغير حوّل فرحتنا بالعودة إلى مأساة جديدة".
أما مريم (12 عامًا) فتقول بحسرة: "أشتاق لمدرستي. عندما عدنا وجدناها مهدمة. صرت ألعب بين الأنقاض بدلًا من الفصول".
اعتقالات وملاحقات
إلى جانب المآسي الإنسانية، واجه العائدون اعتقالات وملاحقات من قبل الحوثيين الذين أحكموا قبضتهم على المدينة. ففي 2022 و2023 اعتُقل شباب بتهمة ما سمي "التعاون مع المرتزقة" لمجرد أنهم حاولوا ترميم منازلهم.
يقول شاب رفض ذكر اسمه: "عدت لأرى بيتنا، لكنني كنت أخشى أن يطرقوا الباب في أية لحظة. بعض أصدقائي اعتقلوا لمجرد أنهم حاولوا إصلاح منازلهم. لم نعد نعرف هل نحن ضحايا أم متهمون".
ويقول عبدالله من أبناء الدريهمي: "بقيت أسبوعًا واحدًا فقط بعد عودتي. اقتحموا بيت صديقي واعتقلوه. أدركت أننا عدنا إلى جحيم مختلف".
المناصف يُصادر
مؤخرًا، برزت مأساة جديدة مع فرض الحوثيين على ملاك النخيل تسليم جزء من محاصيل التمر "المناصف" لتمويل مقاتليهم.
يقول أبو عيسى، مزارع سبعيني: "كنا نعيش من بيع المناصف، ونعلّم أبناءنا منه. اليوم يُجبروننا على تسليم المحصول للجبهات. حتى قوت أطفالنا صار غنيمة للحرب".
بين الألم والأمل
اليوم، تقف الدريهمي مثقلة بالوجع، لكن أبناءها يحاولون رغم كل شيء إعادة الحياة إليها.. يرممون ما تبقى من بيوتهم، يزرعون أرضهم، ويتمسكون بظل نخيلهم.
قصة الدريهمي تختصر ما عاشه اليمن كله.. نزوح، حصار، جوع، ألغام، اعتقالات، ومصادرة أرزاق.. لكنها تختصر أيضًا معنى التشبث بالحياة.

إنها مرآة مأساة وطن وأيقونة أمل بأن هذا الركام قد يتحول يومًا إلى بداية جديدة، وأن النخيل سيعود يومًا يظلّل المدينة بالسلام لا بالحرب. فرغم كل ما جرى يظل سكانها متمسكين بخيط أمل رفيع بأن تعود مدينتهم يومًا لتزهر من جديد، وأن تتحول أشجار النخيل التي نهضت على ترابها، إلى رمز صمود لا يُكسر.
إنها مدينة تحاول أن تقول للعالم: قد ينهار الحجر تحت القصف، لكن الإنسان يظل قادرًا على النهوض.