صنعاء 19C امطار خفيفة

من يحكم تعز؟ سؤال تطرحه دماء افتهان المشهري

من يحكم تعز؟ سؤال تطرحه دماء افتهان المشهري

بعد مرور ثلاثة أيام على مقتل الدكتورة افتهان المشهري، رئيسة صندوق النظافة والتحسين في تعز، على يد أفراد ينتمون إلى اللواء 170 دفاع جوي التابع للجيش الوطني، ظل السؤال يتردد: لماذا لم يقم الرئيس رشاد العليمي بإقالة القيادات العسكرية والأمنية والمحلية في تعز، رغم أن الجناة معروفون ولم يتم القبض عليهم؟


للإجابة، لا بد من النظر إلى جذور الأزمة الأمنية والسياسية في اليمن، وبخاصة في تعز، التي تمثل صورة مكثفة للصراع الوطني الأشمل.

الملف الأمني وسيطرة حزب الإصلاح

أول وأهم سبب هو أن الملف الأمني والعسكري في تعز بيد حزب الإصلاح، بدءًا من قيادة المحور والأمن وصولًا إلى قادة الألوية. هذا الاحتكار جعل وحدات مثل اللواء 170 دفاع جوي واللواء 22 ميكا تتحول إلى أذرع حزبية أكثر من كونها وحدات وطنية، إذ جرى تجنيد أعداد كبيرة من أبناء قرى وعزل بعينها (شرعب والمخلاف: الرحبة، شجاف، بني عون، الكدرة، التبهة، كندة... إلخ). وبهذا أصبحت هذه الألوية حاضنة لعناصر مطلوبة وفارين من العدالة، يجدون الحماية من قادتهم ويتم تهريبهم أحيانًا إلى مناطق الحوثيين. قضية "غزوان المخلافي" خير مثال على هذا النمط.
لذلك، أي إصلاح جذري يبدأ بسحب الملف الأمني من يد الإصلاح، ثم إعادة هيكلة الألوية وتوزيع أفرادها على تشكيلات مختلفة مع تغيير قادتها، لمنع تكوين مراكز قوى مناطقية أو حزبية داخل الجيش.
فدور الجيش في الأصل هو تحرير المناطق من المليشيات، بينما دور الأمن هو فرض النظام وبسط الاستقرار بعد التحرير، ثم يأتي دور السلطات المحلية لتوفير الخدمات وتهيئة عودة الحياة الطبيعية.
لكن ما يجري في تعز مختلف: التحرير يتم دون خطة مؤسسية لاحقة، فيتحول كل حي أو جبهة إلى منطقة نفوذ لفصيل مسلح. النتيجة: انفلات أمني، عصابات، وغياب الدولة.
على سبيل المقارنة، الحوثيون رغم طابعهم المليشياوي، إلا أنهم يوزعون الأدوار بشكل مؤسسي: عندما يسيطرون على منطقة ما، خلال أيام تنزل الشرطة والنجدة والدفاع المدني وبقية المكاتب الخدمية، ويظهر أثر الدولة (بصورتهم). هذا ما يفسر الاستقرار النسبي في مناطق مثل صنعاء والحوبان، مقابل الفوضى المستمرة في مناطق الشرعية.

تدخل الأحزاب وإضعاف هيبة الدولة

في مناطق سيطرة الشرعية، أي قرار رئاسي يصطدم بجدار من المطالب والشروط، فحزب الإصلاح يهدد بالشارع والجبهات، وحزب المؤتمر يلوّح بقاعدته الاجتماعية، والمجلس الانتقالي يستخدم نفوذه العسكري والميداني، وكل طرف لا يوافق على قرارات الرئيس إلا إذا حصل على قائمة من التعيينات والمكاسب التي تعزز نفوذه، ما يقيد صلاحيات الرئيس ويشل قراراته.
في المقابل، بصنعاء، نجد أحزابًا كالمؤتمر والإصلاح (نسخة الحوثيين) مشلولة تمامًا، محصورة في الدور المدني، ممنوعة من التدخل العسكري أو التحريضي، لأن الحوثيين فرضوا هيبة الدولة -وفق فهمهم- بالقوة القمعية.
المشهدد الحالي هو نتيجة مباشرة لتراكمات عهد الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي فقد السيطرة:
الإصلاح حشد أنصاره واستحوذ على الملف الأمني في تعز.
الانتقالي تحالف مع الإمارات وبنى جيشه وأمنه.
السعودية دعمت هادي، وضخت الأموال لمأرب، ووسعت نفوذ حلفائها.
الإمارات دعمت طارق صالح، وشكلت له قوة قتالية (القوات المشتركة) تضم فصائل انتقاليين وتهاميين.
السعودية دعمت عثمان مجلي في جبهات الحدود.
وعندما تعقد المشهد، جُمعت هذه القوى المتنافرة تحت قيادة رشاد العليمي، الرجل المدني بلا قاعدة عسكرية أو مناطقية، ليكون رئيسًا توافقيًا تدعمه الخبرة السياسية، لا القوة المسلحة.
اليوم، الرئيس العليمي يعمل بعقلية التوافق: يرضي هذا، يسايس ذاك، يرشّي الآخر سياسيًا. هو ليس عاجزًا، لكنه مقيد بواقع الانقسامات. لو كانت الصلاحيات كاملة بيده لفرض تغييرات جذرية، لكن الظروف تجبره على الموازنة الدقيقة حتى لا تنفجر الساحة.
لذلك، مقتل الدكتورة افتهان المشهري ليس مجرد جريمة جنائية، بل نافذة على أزمة أعمق: غياب الدولة، تغول الأحزاب داخل الجيش والأمن، وتضارب المصالح بين القوى.
الرئيس العليمي لم يقم بإقالة القيادات في تعز، لأنه ببساطة ليس وحده صاحب القرار، بل أسير لتوافقات وتحالفات معقدة تجعل أية خطوة جذرية محفوفة بالمخاطر.
الحل يبدأ من نزع السلاح الحزبي عن المؤسسات، إعادة هيكلة الجيش والأمن، وبناء تكامل مؤسسي بين الجيش والشرطة والسلطات المحلية. عندها فقط يمكن القول إن دماء افتهان وأمثالها لن تذهب سدى.

الكلمات الدلالية