صنعاء 19C امطار خفيفة

الصراع في الجنوب.. حين تتحول القوة إلى مأزق استراتيجي

ما يشهده جنوب اليمن لم يعد صراع نفوذ داخل إطار هش، بل تحول إلى صراع على القواعد نفسها. خلال السنوات الخمس الماضية، جرى احتواء التناقضات برعاية إقليمية ومباركة دولية، بين المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية عبر معادلة: إدارة التناقض دون تفجيره، وتقاسم النفوذ دون المساس بالمركز القانوني للدولة.

بيد أن التحركات الأخيرة للانتقالي صوب حضرموت والمهرة، وما تلاها من إجراءات سياسية، كسرت هذه المعادلة، ونقلت الصراع من مستوى "التعايش القسري" إلى مستوى اختبار الشرعية وحدودها. عكس هذا التحول، انتقالا من منطق إدارة الأزمة إلى محاولة فرض الوقائع، وهو انتقال عالي المخاطر في بيئة لم تحسم فيها بعد أسئلة الدولة والتمثيل والشرعية.

السيطرة الميدانية كعامل استنزاف

من منظور استراتيجي، لا تقاس السيطرة فقط بالمساحة أو السرعة، بل بقدرتها على التحول إلى نفوذ مستدام بغطاء قانوني وتوافقات إقليمية.
ما تحقق ميدانيا في حضرموت والمهرة جرى في سياق فراغ أمني وسياسي، لا في سياق مواجهة مكتملة. فالسيطرة في لحظة الانكشاف لا تنتج تلقائيا شرعية أو قبولا، بل تراكم أعباء أمنية وسياسية وإدارية واجتماعية. كما أن طبيعة المحافظات الشرقية – بتركيبتها القبلية، وارتباطاتها الإقليمية، وحساسيتها التاريخية تجاه المركز – تجعل من أي محاولة للفرض العسكري مشروعا مرتفع الكلفة، قابلا للتحول من ورقة ضغط إلى نقطة استنزاف طويلة الأمد، وهو في الغالب ما لم يحسب حسابه المجلس الانتقالي ومن ورائه الإمارات العربية المتحدة، كداعم رئيسي له.

الأبعاد الاقتصادية للصراع

الصراع في حضرموت والمهرة لا يقتصر على النفوذ السياسي أو السيطرة العسكرية، بل يمتد بشكل مباشر إلى الموارد الاقتصادية الحيوية، التي تمثل شريان الحياة للجنوب واليمن بشكل عام. كلا المحافظتين غنية بالنفط والغاز والمعادن، والمنافذ الحيوية، وتشكل محورا أساسيا للإيرادات الحكومية وميزان القوى الاقتصادي.
التمدد العسكري للمجلس الانتقالي يخلق حالة من الانقسام في إدارة الموارد: توقف النشاطات الاقتصادية، إضعاف تحصيل الإيرادات، وإتاحة المجال لاستخدام الموارد كأداة ضغط سياسي وإقليمي. أي خلل في إدارة هذه الموارد لا يقتصر أثره على المستوى المالي، بل يمتد إلى الخدمات الأساسية، الاستثمارات، وتوازن القوى داخل المحافظة نفسها.

القوى المحلية والفاعلون غير الرسميين

لا يمكن فهم المشهد في حضرموت والمهرة دون تحليل دور القوى المحلية، خصوصا القبائل والفاعلين غير الرسميين الذين يمثلون العمود الفقري للمجتمع. هذه القوى لها قدرة على تحريك الرأي العام، أو التفاعل مع أي تحرك عسكري أو سياسي.
محاولة المجلس الانتقالي فرض السيطرة دون وضع الاعتبار لهذه القوى، أو كسب رضاها مباشرة، ستؤدي إلى مقاومة مستترة أو انفجارات محلية، حتى لو بدا المشهد الخارجي وكأنه مؤمن.
في بعض الحالات، استغلال الموارد أو فرض النفوذ العسكري يمكن أن يحفز تحالفات محلية مضادة، تعيد صياغة موازين القوى على الأرض، وتزيد من تعقيد أي تسوية مستقبلية.
بالتالي، أي تقدير استراتيجي ناجح يجب أن يأخذ في الحسبان هذا البعد المحلي الحيوي، فالسيطرة الميدانية وحدها لا تكفي إذا لم تدمج القوى التقليدية وغير الرسمية في صياغة حلول سياسية أو ترتيبات أمنية قابلة للاستمرار.

مخاطر كسر الإطار المؤسسي

أخطر ما جرى استراتيجيا لم يكن التمدد العسكري، بل نقل الصراع إلى داخل مؤسسات الدولة. عندما تستخدم الوزارات والهيئات كأدوات اصطفاف سياسي، يضرب جوهر الدولة لا خصومها فقط. هذا المسار يخلق سابقة خطيرة: تفريغ الشرعية من مضمونها وفتح الباب أمام تفكك شامل يصعب التحكم بمساره. فالدولة، حتى في أضعف حالاتها، تمثل إطارا جامعا، وكسر هذا الإطار دون امتلاك بديل توافقي يعني الانتقال من صراع سياسي إلى فوضى سياسية مقنعة.

البيئة الإقليمية والدولية وحدود الممكن

التحركات الأخيرة، للمجلس الانتقالي، اصطدمت بسرعة بحدود البيئة الإقليمية. فالموقف السعودي الأخير عبر وزارة الخارجية، بوصفه موقف رسمي معلن، إذ لم يكن رد فعل انفعالي، بل تعبيرا عن رؤية استراتيجية؛ ترى أن أي إعادة تشكيل للمشهد في الجنوب يجب أن يمر عبر توافقات، لا عبر كسر مفاجئ للإطار القائم. ويتقاطع هذا مع الموقف الدولي الأوسع، الذي ينظر إلى الإجراءات الأحادية باعتبارها عنصر عدم استقرار، لا مدخلا للحل، وهو ما عكسه تحديدا موقف مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي.
هذا يوضح أن هامش الحركة الاستراتيجية أمام الفعل الأحادي محدودة، وأن أي محاولة لتحويل السيطرة إلى مكسب سياسي ستظل مرهونة بالإرادة الإقليمية والدولية.

مأزق المجلس الانتقالي

يقف المجلس الانتقالي أمام معضلة استراتيجية واضحة: التراجع الكامل يضعف صورته كقوة صاعدة، والاستمرار في التصعيد دون غطاء سياسي يراكم الاستنزاف، والتحول إلى مسار تفاوضي مشروط يفرض عليه تقديم تنازلات تقوض سردية الحسم. في هذا السياق، يتحول الزمن إلى عامل ضغط لا عنصر دعم، فكل يوم يمر دون تثبيت سياسي يوسع الفجوة بين السيطرة والشرعية.

الشرعية.. صراع على "الإطار" لا الأداء

رغم ضعفها البنيوي، وجدت الشرعية نفسها فجأة في موقع الدفاع عن "الإطار" (السيادة، مركز القرار، المركز القانوني…) لا عن الإنجاز. وهذا تطور مهم استراتيجيا، لأن الصراع لم يعد على كفاءة الحكم، بل على من يملك حق كسر القواعد. الدفاع عن "الإطار" يمنح الشرعية سندا إقليميا ودوليا، حتى وإن ظل أداؤها محل انتقاد داخلي واسع.

المآلات الاستراتيجية المحتملة

يمكن تحديد ثلاثة مسارات رئيسية:
احتواء منضبط: تراجع تكتيكي، إعادة انتشار، وعودة الصراع إلى إدارته داخل قواعد مضبوطة في إطار الشرعية والرعاية الإقليمية.
استنزاف بطيء: استمرار السيطرة دون تثبيت سياسي، مع تصاعد الكلفة الأمنية والاجتماعية.
انفجار مؤجل: تفكك الإطار المؤسسي، ودخول الجنوب في حالة سيولة سياسية يصعب ضبطها.
المرجح في المدى المنظور هو مزيج بين المسارين الأول والثاني، مع تأجيل الانفجار لا منعه.

الخلاصة الاستراتيجية

ما يجري في الجنوب ليس لحظة حسم، بل اختبار للحدود: حدود القوة، وحدود الشرعية، وحدود الرعاية الإقليمية. كسرت قواعد الاشتباك السياسي، لكن لم تكتب قواعد بديلة؛ ففي حالة الصراعات المركبة، هذه أخطر لحظة على الإطلاق.
استراتيجيا، لا يكمن الخطر في فقدان السيطرة، بل في فقدان القدرة على تحويلها إلى سياسة. وعندما تعجز القوة عن التحول إلى إطار جامع، فإنها تميل – بوعي أو بدون وعي – إلى تعميم الانقسام كأداة بقاء. وفي هذه الحالة، لا ينتصر أحد، بل تتوسع رقعة الخسارة.

الكلمات الدلالية