من الثورة الى التشويه: التاريخ يشيطن أبطاله 4-6
لم يكن الحسن الهمداني مجرد مؤرخ أو شاعر، كان عملية جراحية في جسد التاريخ اليمني، أزاح فيها أورام الزيف، ولو مؤقتاً.. إنه من اولئك الذين قرروا أن لا يكونوا مجرد هامش يُقرأ، بل همس يتسلّل بين سطور الإمامة ليكشف ما تحاول السلطة إخفاءه. كان شاعراً يقاتل بالكلمة، ورحّالة يطارد الحقيقة بين جبال صعدة وسهول تهامة. كل سطر كتبه كان كأنه طلقة في قلب مشروع أراد أن يحوّل اليمنيين إلى رعايا لمعبد سياسي مقدس.. هكذا، أصبح الهمداني بالنسبة للإمامة الهادوية ليس مجرد خصم، بل المؤشر الذي يكشف أن السلطة المقدسة يمكن أن تكون أكثر غرابة من أي أسطورة تُحكى في الأسواق.
مع قدوم يحيى الرسي إلى اليمن، في القرن الهجري الثالث، لم يقف الهمداني على الحياد، ولم يكتب بمداد السلطة، بل بمداد جرح مفتوح. وحين سجنه الأئمة لم يكتب توبة، بل كتب "الإكليل" ليضع تاجاً على رأس اليمن ويعيد لتاريخه وجهه الذي حاولوا تشويهه. وكأنه يضع تاجاً من الكلمات على رأس اليمن.. لم يكن تأليف "الإكليل" نزوة مثقف، بل كان إعلان مقاومة، محاولة لإنقاذ ذاكرة جماعية من الغرق في محيط الاصطفاء السلالي.
أما الإمامة الهادوية، فقد كانت أشبه بماكينة ضخمة تعيد تشكيل المجتمع على مقاس نظرية "البطنين"، تنزع من اليمنيين هويتهم كما يُنزع الثوب القديم، ثم تلبسهم ثوب الطاعة.. الهمداني لم يتعامل مع هذا المشروع كخلاف فقهي، بل كخطر وجودي، فكان صوته بمثابة جرس إنذار مبكر.. لقد فهم بأن الهادي لم يدخل اليمن ليزرع حقولاً أو يبني جسوراً، بل ليؤسس مشروعاً لتفكيك الهوية وإعادة تركيبها بما يناسب نظرية "البطنين" وهي نظرية سياسية تؤسس لحكم سلالي كهنوتي، يرتكز على نظريات الحق الإلهي بالحكم، ما يعني احتكار الحكم لسلالة معينة، ومن هنا كانت البدايات الأولى للحركة الوطنية، التي رأت أن هذه الأفكار تمثل تهديدا مباشراً للميراث الحضاري لليمنيين وهويتهم الضاربة في جذور التاريخ البشري.
بدأ الهمداني مبكراً يكتب نصوصاً تعيد اليمن إلى جذورها وتذكّر الناس بأن التاريخ ليس نصاً مقدساً يكتب في صعدة، بل ذاكرة حرة يمكن أن تروي الحكاية من زاوية أخرى.. لم يرضَ أن يرى اليمن ملفوفاً براية "البطنين" كما يُلفّ الميت بكفن، كتب وألّف وهجا حتى صار اسمه مرادفاً لكلمة "مواجهة" في زمن كانت المواجهة فيه تهمة تكفي لإسقاط الرأس من الجسد. كتب "الإكليل" ليعيد اليمن إلى مقعده في التاريخ، وكتب "الدامغة" ليضع الإصبع على جرح الإمامة نفسها، مسفهاً فكرة الاصطفاء.
كانت الإمامة تدرك أن كلمة الهمداني أخطر من سيف المقاتل، ولذلك ألقوا به في السجن أكثر من مرة، مرة في صعدة على يد الناصر بن الهادي، ومرة في صنعاء على يد أسعد بن يعفر بتحريض إمامي. كأن الحبس كان طقساً تطهيرياً "إما أن تخرس أو أن تموت ببطء" .. هدموا داره، قيّدوا حركته، لكنه ظل يكتب، وكأن الكتابة كانت طريقته في الانتقام.
كان مشروع مقاومة فكرية تمشي على قدمين، رجلاً أدرك أن أخطر ما يمكن أن تفعله السلطة ليس قتل الجسد بل تزوير ذاكرة الأمة. كان قلمه حاداً بما يكفي ليقطع حبال الأسطورة التي نسجتها الإمامة حول نفسها، مثل مشرط يشرّح الأكاذيب حتى العظم.
أما كتبه، فكان مصيرها مصير كل ما يهدد الرواية الرسمية. اختفت أجزاؤها كما تختفي وعود السلالات الحاكمة بعد كل ثورة .. أمين الريحاني بعد ألف عام تقريباً سيزور صنعاء ويشهد بأن نسخة كاملة مخطوطة من "الإكليل" كانت في مكتبة يحيى حميد الدبن ، قبل أن تُبخّر، كما تُبخّر الوعود، وكأن قدر اليمن أن يعيش في ظل أئمة لا يسرقون فقط قوته بل يسرقون ذاكرته أيضاً.
مات الهمداني على الأرجح في ريدة، قبره مجهول حتى اليوم، ربما لأن الأرض قررت أن تحفظ سره، وكأنها رسالة من التاريخ "المكان ليس مهماً، المهم أن الفكرة باقية". الفكرة التي تقول إن اليمن يمكن أن يُقرأ بعيداً عن الوصاية، وأن تاريخه ليس ورقة يكتبها من يملك السلطة بل من يملك الجرأة.