التعليم واكتشاف الذات... الإنسان كنز لا نراه
في خضمّ الأزمات المتلاحقة التي يعيشها اليمن، قد يبدو الحديث عن التعليم رفاهية مؤجّلة. لكن الحقيقة أن التعليم ليس ترفًا، بل ضرورة لا غنى عنها إذا أردنا بناء مستقبل مختلف. فالأمم لا تنهض إلا حين تؤمن بأن الإنسان هو المحور، والتعليم هو وسيلة كشف قدراته لا ترويضها.
ما نخسره حين نهمل التعليم لا يُقاس بعدد المدارس المغلقة أو المناهج المتقادمة فقط، بل بما هو أخطر: فقدان الإيمان بقدرة الإنسان على التطور والتغيير.
حين يتحول التعليم إلى عملية تلقين خاوية، وتُقاس قيمة الطالب بدرجات الاختبار لا بقدرته على التفكير، فنحن بذلك نُطفئ شرارة قد تصنع فارقًا في مستقبل البلد.
في اليمن، لا تنقص الأمثلة التي تؤكد أن القدرات البشرية حاضرة، حتى في أقسى الظروف. نسمع عن طلاب تعلّموا ذاتيًا، أو عن شباب أطلقوا مبادرات مجتمعية بلا دعم رسمي. هؤلاء لم يكونوا استثناءً، بل دليلًا على أن الإنسان، حين يجد بيئة حاضنة، قادر على أن يُدهشنا بإصراره وطاقته.
لكن هذه النماذج الفردية تظل محدودة ما لم تُصبح جزءًا من رؤية أوسع.
رؤية تُعيد تعريف التعليم من مجرد تحصيل إلى عملية تحفيز للقدرات الداخلية. تعليم يعلّم الطالب كيف يفكّر، لا ماذا يفكّر. تعليم يُشعره أن له دورًا في مجتمعه، لا أنه ينتظر وظيفة حكومية ليُثبت قيمته.
إن أخطر ما قد يقع فيه أي نظام تعليمي هو أن يُهمّش قيمة الإنسان لحساب النظام التعليمي، أو يغرس في الطلاب شعورًا بالعجز بدلًا من الثقة.
في حين أن الأصل في التعليم أن يكون مشروعًا لاكتشاف الذات، وبناء شخصية متوازنة فكريًا وأخلاقيًا، تشعر بالمسؤولية تجاه نفسها وتجاه مجتمعها.
التعليم الذي نحتاجه اليوم في اليمن هو تعليم يعترف بتعدّد القدرات، ويحتضن التنوع، ويرى في كل طالب مشروع نهضة لا رقمًا في دفتر الحضور. تعليم يربط المعرفة بالعمل، والمعلومة بالقيمة، والطموح بالواقع، دون أن يُطفئ الحلم.
ولن يتحقق ذلك بمجرد تغيير في الكتب، بل يحتاج إلى تحوّل في العقلية التي ترى الإنسان موردًا، لا مستهلكًا؛ وتؤمن أن بناء الإنسان أهم من بناء الجدران.
إذا أردنا أن نعيد بناء اليمن، فلنبدأ ببناء الإنسان.
وإذا أردنا أن نكتشف الإنسان، فلا سبيل لذلك إلا بتعليم يُضيء داخله، لا يُطفئه.
الإنسان اليمني ليس عبئًا، بل فرصة.
والفرص لا تُثمر إلا حين نؤمن بها.