مأساة أسرة الصلوي: 25 عاماً من الظلم لم تنتهِ بحريق العدالة

عبدالحق الصلوي
في مشهد صادم ومؤلم، أقدم الشاب عادل الصلوي (35 عاماً) على إحراق جسده احتجاجاً على ما وصفه بالخذلان من قِبل القضاء، بعد ربع قرن من الانتظار لاسترداد حقوق والده المنهوبة.
الحادثة التي وثقتها عدسات الهواتف لم تكن مجرد فعل يائس فردي، بل صرخة مدوية ضد بطء العدالة وتفشي الفساد، تضع الرأي العام أمام تساؤلات موجعة: كم قلباً يجب أن ينكسر؟ وكم جسدا وحياة يجب أن تحرق؟ وكم روحاً ينبغي أن تُزهق قبل أن تتحرك عجلة القانون؟
مغترب عاد بحلم كبير
في وطن يفترض أن يكون الحضن الآمن، ولد عبد الحق الصلوي عام 1962م بتعز لأسرة فقيرة لا تملك سوى قوت يومها من فلاحة الأرض. لكن هذا الوطن لم يمنحه سوى اليتم المبكر والفقر المدقع، ومسؤولية ثقيلة حملها وهو في سن العاشرة بعد وفاة والده وتركه الأكبر بين ثمانية إخوة أيتام. لم يجد في بلده ما يسند ظهره ولا ما يسد رمق إخوته، فاضطر وهو لم يتجاوز الحادية عشرة، إلى الهجرة بعيداً بحثاً عن كرامة العيش إلى أرض الغربة التي احتضنته أكثر مما احتضنه وطنه.
وُلد عبدالحق الصلوي، في قرية نائية في منطقة الصلو بمحافظة تعز لأسرة بسيطة ومتواضعة. لكن تاريخه في الكفاح يفوق كل القصص التي سمعناها. تجربة بسيطة لكنها تلخص تاريخ واحتقار أمة. يقول طلال الصلوي النجل الاكبر لعبدالحق، "إن والده حمل عبء إعالة إخوته الثمانية منذ صغره، بعد وفاة والده، فاضطر للهجرة إلى السعودية في سن مبكرة. حيث قضى هناك أكثر من 17 عاماً من عمره في العمل الشاق، قبل أن يعود عام 1990 محملاً بثمرة غربته: أموال بمختلف العملات، معدات صناعية، سيارات، ومستلزمات لإنشاء ورش ومعامل إنتاج".

استأجر عبدالحق الصلوي حينها عقاراً في شارع مأرب في العاصمة صنعاء، وأنشأ ورشة حديد وألمنيوم. وخلال سنوات قليلة، أصبح الرجل مثالاً للمستثمر اليمني المكافح والعصامي، يسدد الإيجارات مقدماً ويعامل الناس بأخلاق عالية. لكن استقراره لم يدم طويلاً.
بداية الصراع مع "العلماني"
بعد وفاة مالك العقار الأصلي عام 2001، بدأ ورثته، وعلى رأسهم المدعو "زيد العلماني وأبناؤه، بمحاولات متكررة لطرده من المحلات"، مستخدمين التهديد والاعتداءات المسلحة. وأضاف: "تصاعدت الخلافات إلى أن وصلت حد إطلاق النار والاختطاف".
رغم صدور حكم قضائي لصالحه حينها، اختار عبدالحق "التنازل حقناً للدماء، وقَبِل برفع الإيجارات". غير أن الاعتداءات لم تتوقف،كما يفيد طلال وتؤكد نسخ الاحكام والوثائق التي حصلت عليها النداء.
في عام 2003، وأثناء قضاء عبدالحق إجازة العيد مع أسرته في القرية، اقتحم أبناء "العلماني وعصابة مسلحة الورشة من السطح ونهبوا الأموال، الذهب، الأسلحة المرخصة، والأوراق الرسمية، كما سرقوا المعدات الصناعية كاملة"، وفقا لطلال. لافتًا إلى أن "ما لم يستطيعوا حمله؛ دمروه عمداً، بوضع السكر في محركات السيارات والمعدات لتدميرها، وقاموا بتكسير المكابس والمولدات".
عاد عبدالحق من إجازة العيد على جريمة حقيقية، حيث وجد حلم عمره مدمراً بالكامل. يقول طلال: "أصيب بانهيار عصبي نُقل على إثره إلى المستشفى، قبل أن يستجمع قواه لملاحقة الجناة بمساعدة بعض المشايخ والوجهاء". وبعد جهد شاق، أُوقفت السلطات المعنية بعضهم واعترفوا بجريمتهم. وبين عامي 2006 و2009، أصدرت المحاكم أحكاماً متتالية ضدهم، حصلت النداء على نسخة منها. من محكمه شمال الامانه والاستئناف والعليا.
من الانتصار إلى الخذلان
رغم وضوح هذه الأحكام، مع ذلك، لم تُنفذ أي منها. فالمتهم الرئيسي أُطلق سراحه عام 2010 بتواطؤ من مسؤولين نافذين وبدعم من محامين ووسطاء فاسدين،حسبما أكد طلال لموقع النداء. مشيرًا إلى أن القضية "تحولت من جنائية إلى مدنية بقرار غريب من وكيل النيابة"، وبدأت رحلة طويلة من المماطلة والتأجيلات.
خلال تلك السنوات، حاول عبدالحق وأسرته استعادة حقه "عبر 17 حكماً قضائياً متتابعاً، لكنه كان يصطدم بجدار "النفوذ والرشوة"، وفقا لنجله الأكبر. موضحًا انعكاساتها العميقة والمدمرة على حياة أسرته بأكملها: "باع كل ما يملك من أراضٍ ومنازل، وتراكمت عليه الديون، وتفككت أسرته".
ظل عبدالحق يتردد على المحاكم "حافياً أحياناً، بلا طعام أو مأوى"، كما يفيد طلال. واستمر على هذا النحو حتى "أصيب بأمراض مزمنة في الكبد"، كما تفيد التقارير الطبية.
في عام 2023، أسلم الرجل روحه لبارئها، بعد صراع طويل مع المرض والقهر، تاركاً أبناءه يواصلون ذات الطريق المسدود.
النهاية المأساوية: الابن يحترق
لم يكن احتراق جسد عادل الصلوي (نجل عبدالحق الأصغر) قبل اسبوع، سوى نتيجة طبيعية لتراكم نحو 25 عاماً من الظلم. فقد نشأ الفتى الذي يبلغ من العمر 36 عاما على وعد أبيه بأن العدالة ستنصفهم يوماً، وأن حقوقهم ستعود. لكن الوالد مات مكسوراً، والقضية ما تزال عالقة.
يقول طلال لـ"النداء": إن شقيقه عادل الذي حُرم من التعليم، ومن الزواج، ومن حياة طبيعية، "رأى في النار وسيلته الأخيرة للاحتجاج وإيصال مضلوميته". لقد تحوّل جسده إلى شعلة حقيقية أراد من خلالها أن يضيء بها قضية أسرته المظلمة، حتى لو احترق معها.
قبل أكثر من عقدين، كتب صحفيون مثل مراد هاشم وفكري قاسم عن القضية، كما عرضتها قنوات محلية أبرزها حلقة بعنوان "نهاية مستثمر يمني"، على قناة السعيدة. ورغم كل هذا الزخم الإعلامي، ماتزال العدالة غائبة، فيما أسرة الصلوي تدفع الثمن حتى اليوم، بعد ربع قرن.
وبينما تكشف هذه القضية عن حجم التلاعب والفساد في أروقة القضاء، فهي تطرح أسئلة جوهرية مثل: ما قيمة الأحكام القضائية إن لم تُنفذ؟ ما معنى العدالة إذا بقي المعتدي حراً والضحية ميتاً؟
على مدى سنوات، قدمت أسرة الصلوي عدة شكاوى ومناشدات إلى الجهات المعنية وفي مقدمتها رئاسة الوزراء، وزارة العدل، ومحكمة شمال الأمانة، مطالبين بالعدالة وتنفيذ الأحكام دون طائل.
قصة عبدالحق الصلوي وابنه عادل، تعكس حال آلاف اليمنيين الذين سُلبت حقوقهم بين فساد السلطة وتعطيل سلطة القضاء والتحكم فيها.
وصرخة طلال واحراق شقيقه لنفسه هي استغاثة من بين الرماد تسأل، وتبحث وتترقب وتنتظر: متى تتحول العدالة من نصوص جامدة إلى فعل منصف؟ ومتى يكف الوطن عن معاقبة فقرائه مرتين: مرة بسلب حقوقهم، ومرة بتركهم يموتون قهراً؟