صنعاء 19C امطار خفيفة

الذكرى الـ26 لرحيل المناضل يوسف الشحّاري

في مثل هذا اليوم، السادس عشر من سبتمبر قبل ستةٍ وعشرين عامًا، غادرنا المناضل الكبير، والضابط الحر، والشاعر الصادق، الأستاذ يوسف الشحاري، بعد عمرٍ قضاه في ساحات الدفاع عن الوطن، وحمل همّ الناس، والصدق مع النفس قبل الصدق مع الآخرين. كان رحيله في يوم السبت 17 جمادى الثانية 1421هـ، الموافق 16 سبتمبر 2000م، ورغم المكانة التي يحتلها في قلوب من عرفوه أو سمعوا عنه، تمرّ هذه الذكرى مرةً أخرى دون أن تنال حقها من التأمل أو التوثيق، وكأنما الصمت الرسمي والمجتمعي أصبح هو القاعدة في التعامل مع العظماء الذين ماتوا نظافًا كما عاشوا.

ويا لمرارة هذا النكران لمناضلٍ قديس، وطني شريف، نزيه، شجاع، نظيف اليد واللسان، لم يعرف الرياء، ولم يختبئ خلف حسابات السياسة ولا توازنات المصالح. لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يتردّد في قول الحق، ولو على نفسه. كان يُلقب بين من عرفوه بـ"أشجع الضباط"، ليس في ساحة المعركة فحسب، بل في ميدان الكلمة، وفي حضرة السلطة، حين تكون الكلمة مكلفة. كان من أوائل من كتبوا الشعر في نقد نظام الإمام أحمد، ومع ذلك، بعد الثورة، لم يستغل ذلك في تصفية حسابات مع الماضي، بل دعا -كما كان يقول- إلى نقد الحاضر بدل الاجترار المرضي للماضي. وهو في هذا كان يُشبه كثيرًا البردوني: لا يُهاجم حاكمًا بعد موته، ولا يُجامل حيًا في ظلمه.
في أحد مقائل قصر صالة، وكان علي عبدالله صالح يتحدث عن الإمام أحمد، قائلًا بأنه كان يتعمد لبس قمصان ضيّقة على رقبته حتى تبرز عيناه بشكل مخيف ليرعب الناس، فإذا بالمناضل الشحاري ينهض معترضًا قائلًا: لا يجوز أن نزوّر التاريخ، فالإمام أحمد كان شجاعًا، وقد واجه وحده انقلاب 1955م، وامتطى جواده ليُفشله، ووقف في ساحة الميدان يعدد ما فعله الثلايا من حرق وقتل، ويسأل الناس عن الحكم على من يرتكب مثل هذه الجرائم، فكان ردهم: الإعدام. ثم راح يوسف يعدد بطولات الإمام، من معاركه ضد جيش عبدالعزيز عام 1934، إلى حروبه في تهامة، وانتصاراته على الزرانيق في الجاح. لم يكن يُدافع عن النظام الإمامي، بل يُدافع عن الأمانة في قراءة التاريخ.
ولم يكن هذا موقفًا معزولًا. الشحاري كان رجل التوازنات الأخلاقية، يرفض أن تُستخدم الثورة كوسيلة انتقام، وكان أول من عارض الإعدامات بعد الثورة. بل إنّ مشاركته ليلة الثورة في الحديدة لم تكن من أجل التصفية، بل لإعداد وترتيب الأوضاع وفق خطة وطنية وضعها التنظيم بقيادة حمود الجائفي، وشاركه فيها الشهيد محمد الرعيني والعميد محمد الرعيني، وكان الشحاري من منفذي التعليمات التنظيمية لتأمين اللواء، السيطرة على الميناء والمطار، تأمين الطرق، وإنهاء وحدات الحرس الملكي، مع إشراك شباب المنطقة في الجوانب الإعلامية، مثل عبدالله مقبول الصيقل، يوسف هبة، وغيرهما. وعندما علم بإعدام نائب الإمام يحيى عبدالقادر، عارض ذلك بشدة، ووقف معارضًا للإعدامات، حتى داخل النظام الثوري نفسه.
بل بلغ به الأمر أن اتهم محمد الأهنومي علنًا بعد أن لُفّقت للأخير قضية تخابر مزعومة ضد الشهيد محمد الرعيني مع إسرائيل -رغم أن الرعيني كان يشغل حينها منصب نائب رئيس الجمهورية في غياب السلال- وبعد إعدام الأهنومي، لم يتوقف عن الحديث عن الجريمة، ما جعله محط كراهية القيادات التي كانت موالية لمصر حينها. لكنه لم يكن يخاف، فقد كان يستمد شرعيته من الناس، لا من أية جهة، ولذلك كانت شعبيته تُربك حتى من يخالفه.
وُلد يوسف الشحاري عام 1932م في مدينة الحديدة، وتلقى تعليمه الأولي على يد والده، ثم في المدرسة السيفية على يد نخبة من العلماء، منهم العزي مصوعي، إبراهيم صادق، أحمد لقمان، وصغير سليمان. ثم التحق بكلية الشرطة في تعز، وتخرج منها عام 1956م بدبلوم أمني. بدأ حياته مديرًا لأمن اللحية، ثم للحديدة بعد الثورة، ثم مديرًا للإذاعة بصنعاء، فرئيسًا لتحرير صحيفة الثورة، فمعلمًا بكلية الشرطة. انتُخب عضوًا ووكيلًا لمجلس الشورى، وعضوًا في مجلس الشعب التأسيسي، وعضوًا في لجنة صياغة الدستور، ورئيس اللجنة العليا للانتخابات البلدية، ثم وكيلًا لمجلس الشورى مجددًا، ثم عضوًا في هيئة رئاسة مجلس النواب، وأخيرًا في المجلس الاستشاري.
خلال كل هذه المناصب، لم يُعرف عنه فساد ولا استغلال. كان يعيش كما الفقراء، يمشي في الشارع حافيًا أحيانًا، يلبس فوطة أو بنطالًا بسيطًا، وحذاءً بلاستيكيًا، لا يمتلك من المال ما يغنيه، لكنه يملك ضميرًا هو أثمن ما تركه خلفه. وكان له حضورٌ فاعل في المجال الأدبي، كأحد مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ونقابة الصحفيين، وشاعرًا ثوريًا ملتزمًا. رغم قلة إنتاجه المنشور، صدر له بعد وفاته ديوان "وعد ورعد"، حوى جملة من القصائد الوطنية الحماسية التي كان يكتبها في خلواته، أو في لحظات الغضب على الظلم.
وفي إحدى قصائده، التي تُلخّص وجعه من الظلم، وعمق إحساسه بالوطن، كتب:
باسم شعبي تحلو المنايا ويَحلو
السّجن دارًا وتُستطاب القيودُ
لن أُداري مادمت أشعر أني
يمنيٌ بأرضه مشدودُ
وعندما نودعه، نستعيد كلماته الأخيرة، وهو يرثي نفسه قائلًا:
الوداعُ الوداعُ يا ابنَ الشّحاري
بعد عمرٍ يفِضُّ بالأوزارِ
فترجَّل عن صهوة الأسفارِ
ولتواجه ما جئتَه من شرورٍ
نتناتٍ فاقت على كل عارِ
ذلك الشاعر، المقاتل، الضابط، المعلم، البرلماني، كان حالة يمنية نادرة. أشبه بالبردوني في الشعر، وبالجاوي في الموقف، وبالربادي في الصدق. هو يوسف الشحاري، الضابط الذي رفض العسكرة، والبرلماني الذي لم يبع ضميره، والإنسان الذي ظل إنسانًا حتى بعد أن علا شأنه. عاش نظيفًا، ومات عفيفًا، وها نحن نُذَكِّر الأجيال بأنه مازال بيننا، في ضمير الوطن، وفي ذاكرة شعبه.
رحم الله يوسف الشحّاري، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ذكراه شعلة في دروب الحق، وشاهدًا على أن في هذا البلد رجالًا لا يركعون إلا لله، ولا يعيشون إلا من أجل الناس.

الكلمات الدلالية