الغموض الاستراتيجي: إلى أين تتجه السياسة السعودية في اليمن؟
منذ أن أطلقت السعودية عمليتها العسكرية عام 2015، تحت مسمى عاصفة الحزم، ظهرت واثقة من قدرتها على إعادة تشكيل المعادلة اليمنية خلال أسابيع قليلة، وتحقيق أهدافها التي تمحورت حول استعادة الشرعية، واحتواء التهديد الحوثي، واستعادة نفوذها التقليدي. غير أن الحصيلة بعد عقد من الزمن تكشف واقعًا مختلفًا تمامًا: لا الشرعية عادت، ولا النفوذ استعاد زخمه، ولا الخطر الحوثي انحسر.
اليوم، بات المشهد اليمني أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى؛ ويختبر تآكلًا غير مسبوق للدولة وسلطتها، وتحوّل اليمن إلى ساحة تتنازعها مشاريع محلية وإقليمية، فيما تجد الرياض نفسها في مواجهة تحديات أوسع وأخطر بكثير من تلك التي واجهتها عند بدء التدخل. فهي مطالبة اليوم بمواجهة النفوذ المتوسع لمنافسيها الإقليميين، وضمان استقرار البحر الأحمر وخطوط الملاحة الحيوية.
لكن المشكلة لا تكمن في كثرة الأهداف والتحديات، ولا في نقص الأدوات، فالسعودية تمتلك أوراق ضغط معتبرة: قدرة مالية هائلة، حضور عسكري مباشر، نفوذ سياسي داخل الحكومة اليمنية، ومكانة إقليمية ودولية وازنة. مع ذلك، لم تتحول هذه الأدوات إلى نفوذ حاسم أو إنجازات استراتيجية واضحة. بل إن ازدواجية الخطاب وترددها في حسم الخيارات جعلاها تبدو كفاعل مرتبك. فهل تعرف الرياض ما الذي تريده في اليمن، وما الذي تستطيع تحقيقه؟
الحقيقة أن الأمر أعمق من مجرد ارتباك. فمنذ وقت مبكر، جرى إزاحة قائمة الأهداف المعلنة وحلّت محلها أجندة غامضة، وبدت السياسات السعودية كأنها تسير في اتجاه مغاير لما قيل عند بداية التدخل، ومصممة للوصول إلى وجهة أخرى غير تلك التي اتفق عليها في بداية الأمر. يشير الحاصل إلى انقلاب كبير في السياسة السعودية، حتى إن الرياض تخلت عن حذرها التقليدي وحرصها على عدم التورط وتفضيلها العمل من وراء الستار عبر الوكلاء، ولأول مرة في تاريخها أصبح لها وجود عسكري مباشر خارج أراضيها بصورة لا تبدو مؤقتة.
والأخطر، أن السياسات السعودية باتت تُشكّل تهديدًا لوحدة البلاد. فبينما تؤكد المملكة في خطابها الرسمي دعم وحدة البلاد، فإن ممارساتها على الأرض تعطي إشارات مغايرة: تسامح مبكر مع صناعة المليشيات، انخراط مباشر في تشكيل قوى عسكرية موازية، وتعايش طويل مع الفصائل الانفصالية، دون أن يصدر عنها موقف صريح يرفض مشروع الانفصال.
أما علاقتها بالحكومة اليمنية فتقدّم مثالًا صارخًا على التناقض. فعلى الرغم من أنها مازالت تدعم هذه الحكومة، إلا أنها تبني سياسات دعم انتقائية مصممة للإبقاء عليها ضعيفة، فالدعم المقدم لهذه الحكومة في أدنى مستوياته، وبما يكفي فقط لمنع انهيارها، ويظل متواضعًا مقارنة باحتياجاتها وظروفها الصعبة، ولا يرقى إلى مستوى ما تفرضه المسؤولية التحالفية. وإبقاء الحكومة ضعيفة يشمل بطبيعة الحال إبقاء موقفها العسكري وقواتها ضعيفة كذلك، الأمر الذي عمّق هشاشة الدولة وأضعف قدرتها على فرض سلطتها.
لقد أسهمت هذه المقاربة في تعميق الانقسامات بدل تجاوزها، وحوّلت مناطق كانت مستقرة نسبيًا مثل المهرة وحضرموت، إلى بؤر توتر واحتقان. ورغم تقديم السعودية دعمًا إنسانيًا وتنمويًا واسع النطاق، إلا أن سياساتها في الوقت ذاته تغذي أسباب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتبقيها قائمة.
في المحصلة، تبدو السياسة السعودية عاجزة عن تحقيق سلام مستدام في اليمن، بل إنها تقوّض الأساس الذي بُنيت عليه علاقتها التاريخية بجوارها الجنوبي. وما تزرعه اليوم من سياسات غامضة قد يتسبب باضطراب مزمن في شبه الجزيرة العربية بأسرها.
ما تحتاجه المملكة -ويحتاجه اليمن ومعه أمن الجزيرة العربية- هو وضوح الرؤية وشجاعة المراجعة. فالخيار الحقيقي يكمن في مغادرة سياسة الغموض الاستراتيجي، والتحول من منطق النفوذ والسيطرة إلى منطق الشراكة، والمبادرة إلى هندسة علاقة متوازنة مع اليمنيين، تضمن استقرارًا طويل الأمد في الجنوب العربي. وسيبقى مستقبل الاستقرار والنظام الإقليمي رهنًا بمدى نضج السياسة السعودية في اليمن. فإما أن تختار المملكة أن تكون صانعة سلام واستقرار، أو أن تبقى أسيرة ارتباكها وطموحاتها، غارقة ومتسببة في صراع لا نهاية له، في ساحة تمثل العمق الاستراتيجي لأمنها القومي.