صنعاء 19C امطار خفيفة

"النداء".. حس التأسيس العالي

منذ صدورها قبل أكثر من 20 سنة، استلهمت صحيفة "النداء" في عملها قيمًا تحررية أساسية تمثلت في الدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، انطلاقًا من إيمانها العميق بدور الصحافة والمعرفة والفكر في ترجمة هذه القيم إلى شأن يومي حاضر في أذهان اليمنيات واليمنيين.

لقد واكبت "النداء" وما تعرضت له من تنكيل، ومن قرصنة وملاحقات وقمع بوليسي من لحظة ميلادها، من قبل سلطة تضيق بالصوت المستقل والحر، المنفتح على نقاشات وآراء أصيلة، والمناوش للأقبية والدياجير، وللمسكوت عنه من الانتهاكات والارتكابات المريعة التي عصفت بالبلاد عبر عقود مديدة من الاستبداد.
وشكلت "النداء" متنفسًا لأسر ضحايا التغييب والإخفاء القسري والخطف والاغتيال، وأصاخت لأنين وحسرات وكمد تلك الأسر بجد وأصالة ومنهجية ومثابرة، كاشفة بهتان نظام مستبد، فاسد وقائم على سفك الدماء والغدر والارتياب والعصاب.
وبعدسة مستقلة فتحت "النداء" العديد من الملفات الهامة والحساسة، وتطرقت إلى محطات ومنعرجات تاريخية حرجة، ولذلك تعرض مقرها للعدوان والقرصنة، وسرقت أجهزتها من قبل جلاوزة الأمن القومي، وتعرضت أسرة تحريرها، وبخاصة الزميل والصديق العزيز سامي غالب، للتضييق والملاحقات والمحاكمات التي لم تفلح في كتم هذا الصوت المستقل والنزيه، المنافح عن الحريات والحقوق في كافة أرجاء اليمن.
لقد كان منبر "النداء" ومازال متميزًا ومفارقًا لحالة الصحافة الرسمية والحزبية و"المستقلة" التي طالما اتسمت -غالبًا- بالرثاثة، وتخبطت في العشوائية والاعتباط، والتاثت بالفساد، وافتقرت إلى التمأسس والمؤسسية.
ومن لحظة صدورها امتلكت "النداء" سلطتها الناقدة، وكانت نقطة ارتكازها "ميثاق شرف" تضمن مفردات قواعد سلوك أمنت استقلاليتها ومصداقيتها، ونأت بها عن إصدار الأحكام والاحتكام إلى الاعتبارات والتفضيلات الأحادية في النشر، وعن التحيزات والنوازع الضيقة والابتزازية -راجع ميثاق شرف النداء- باعتماد قوعد سلوك مهنية ناظمة وضابطة لإيقاع عملها بمعايير مهنية وأخلاقية توسلت الارتقاء بالذات، وامتلاك شروط ومؤهلات التصدي للشأن العام بجدارة، ومن باب الحرص على ضرورة أن تبدأ الصحافة بإصلاح نفسها قبل أن تنبري لرفع راية الإصلاح والدعوة لمكافحة الفساد خارجها.

الحس التأسيسي

ما تقدم يؤشر بجلاء إلى أن العزيز سامي غالب يتمتع بذلك الحس التأسيسي المعزز بروح المبادرة والاقتراح، وهو حس طالما افتقرت إليه معظم النخبة اليمنية الخائبة، الطاعنة في الهرم والسادرة في "رقدة العدم".
لم تكتفِ "النداء" باعتماد معايير سلوك مهنية وأخلاقية في بلاد كانت ومازالت صحافتها هي الأسوأ مقارنة مع غيرها في المحيط العربي، بل بالمبادرة إلى فتح ملفات حساسة وخطيرة، والتغطية الفعالة والنزيهة لكل ما يغتلي ويمور في البلاد، واستيعاب التنوع والاختلاف، والانفتاح على كل الأطراف والأطياف.
وأخيرًا وليس آخرًا، ها هي "النداء" سباقة في مبادرتها لتوثيق وإصدار كتاب "النداء"، والاحتفاء بالكتاب الذين واكبوا مشوارها، رغم صعوبة ظروفها ومحدودية إمكانياتها وطاقمها، وذلك هو حال من يتجرأ على الأمل في مسرح أجدب وقاحل، ويرفرف بأجنحة الخيال والحلم، ويتحلى بالصبر والمثابرة ليتجلى كمستحيل جميل، من غير قصد وبلا أي قدر من الاستعراض.
إنه شيء لا يصدق، مدهش حقًا، وجدير بالاحتفاء، وإنجاز كبير وبعيد، ولا أقول هذا لأني من بين أولئك الذين ستصدر مقالاته في كتاب، فهي خواطر وتطيرات متواضعة، وقد اكتنفت بعضها -بخاصة المقالات الأولى- حالة من التشوش والارتباك والغبش المصاحب لتكتكات "الساعة السليمانية"، وذلك ما أدركته وأنا أتصفح الصفحات الأولى من الكتاب، ولو كان الأمر بيدي لأعملت فيها مشرط الحذف بلا رحمة.

النقطة الفاصلة

بعد إقدام السلطة على تزوير إرادة الناس ومصادرة أصواتهم واختطاف الفوز المؤكد للمهندس فيصل بن شملان، في الانتخابات الرئاسية في سبتمبر 2006، تمنهجت مقارباتي في منحى رصد وتحليل وقائع سقوط وانهيار "النظام" الذي اندفع بنزق في اتجاه مراكمة المزيد من شروط وأسباب انهياره وانفجاره على نفسه وعلى اليمن.
لقد خلصت المقاربات إلى أنه في ظل غياب نخبة سياسية وثقافية قادرة على إنتاج إدراك مشترك لهشاشة ومخاطر الوضع بعد 2006، ولتبعات تجلط وانسداد شرايين السياسة، فإن الكارثة ماثلة ولا مهرب منها.
واستعرضت مقالات ما بعد 2006، المحاولات الخارجية لإنقاذ اليمن وبالأحرى "النظام" ومؤتمرات المانحين و"أصدقاء اليمن" في لندن والرياض وبرلين، ووصول تلك الجهات التي عملت على إنقاذ النظام من نفسه، إلى قناعة بأنه لا فائدة "من نظام اعتمد على طريقة إدارة البلاد بالحروب، وأصبح عاجزًا حتى عن استيعاب الدعم المالي والقروض والمساعدات، ولم يتمكن خلال ثلاث سنوات من استيعاب أكثر من سبعة بالمائة من الدعم المالي المقدم في مؤتمر لندن 2006"... "فلا وجود ولا حيثية لهكذا نظام إلا بالفوضى".
..."وأصبح النظام غير قابل للإصلاح، فهو مضروب من ساسه إلى رأسه، وقد بلغ الساعة 25 التي يفوت معها كل إنقاذ".
ولم تنفع محاولات تذكيره بمصائر نسخ مماثلة كنسخة "أبو مصلح"، الرئيس الصومالي محمد سياد بري، الذي كان في غيبوبة حينما تنازع أنجاله وأصهاره على العرش والأموال المنهوبة، قبل أن يغادروا جميعا في ليل 26 يناير 1991ليتركوا مخازن السلاح مفتوحة أمام الفصائل التي اقتحمت مقديشو.
لم ينفع تذكيره بمصير الرئيس القرغيزي كرمان بيك، الذي سرق خزينة الدولة بمشاركة أنجاله وأشقائه، وانحصر كل همه في توريث نجله، وانتهى به الأمر هاربًا من العدالة.
لم تنفع محاولة لفت رأس النظام إلى اهتزاز الأرض من تحت عروش الحكام في تونس ومصر، بل ذهب في الاتجاه المعاكس لتيار التاريخ، وفي مطلع عام الحرائق 2011، خرج ليعلن عزمه إجراء تعديلات دستورية لتأبيد رئاسته وتوريث نجله.
لقد أصر على مواصلة الحرب على الشعب، وتخليف الكثير والمزيد من المظلوميات، والحرائق والمليشيات، وكما كان تنظيم القاعدة جزءًا من "النظام" وجزءًا أصيلًا من الانقسام والتناحر والتشظي، بالإضافة إلى أنه كان بمثابة التجلي المتطرف لانقسامات المجتمع والحرائق والحروب التي أشعلتها السلطة، فقد كان ذلك هو حال المليشيات الحوثية وغيرها من المليشيات التي تتناهش أوصال اليمن، وجلها خرج من الرحم المظلم لذلك النظام.
إن كل المليشيات والعصابات الإجرامية المتوحشة التي تفترس البلاد اليوم، وتعربد في الأرجاء، هي نتاج منظومة العنف التي زرعها النظام السابق بما هو مركب عصابي كيبوقراطي: عصابة قائمة على الحرب والنهب والسرقة، وقد اعتمدت الحرب كوظيفة اقتصادية، وغنيمة مستمرة، وبذلك حملت أسباب تحللها وانهيارها في داخلها.
.....
ما سبق كان عبارة عن اقتباسات وعرض خاطف لما تطرقت إليه المقاربات التي تضمنتها مقالاتي المنشورة في "النداء" بعد 2006، ويحتويها هذا الكتاب، وقد كدت أنساها، ولا أخفي أني ارتعدت وأنا أتصفح بعضها، فكيف تجرأت على دفعه للنشر، وكيف كانت "النداء" أكثر جرأة مني، وحز في نفسي إدراكي المتأخر أني كنت من المتسببين بتطاول محنة "النداء" التي استوعبت نبرة النقد الصارخة والحارقة تجاه ذلك النظام/اللعنة.
....
أخيرًا، لا أملك إلا أن أعبر عن كل الشكر والامتنان للأحباء في "النداء"، وفي مقدمتهم صديقي الأعز سامي غالب، وكل الطاقم الجميل: طارق السامعي، فائز عبده، فاطمة، رياض، وغيرهم.
* مقدمة كتاب"الكتابة في تكتكة الساعة".

الكلمات الدلالية