صنعاء 19C امطار خفيفة

تكرار التاريخ بأدوات أشد خطورة

شهد جنوب اليمن بعد الاستقلال عام 1967 تحولات جذرية تمثلت في انتقال السلطة إلى الجبهة القومية التي ورثت دولة حديثة البنية نسبياً من الإدارة البريطانية. غير أن هذه الدولة، بما احتوته من جهاز إداري وخبرات تراكمت عبر عقود، ووجهت بعقلية ثورية متشددة رأت في كل ما هو قائم امتدادًا للاستعمار. أدى ذلك إلى إقصاء واسع للكفاءات والكوادر المؤهلة وإحلال عناصر ثورية لا تملك الخبرة الإدارية أو السياسية الكافية.

ومع مرور الوقت، تصاعدت الخلافات الداخلية بين التيارات المختلفة داخل الحزب الحاكم، وتحوّل التباين السياسي إلى صراع على النفوذ والسلطة، انتهى بمواجهات دامية في الثالث عشر من يناير 1986، وهو الحدث الذي خلّف آلاف الضحايا وأدى إلى تشتت النخب الجنوبية وفقدان الدولة لمقومات الاستقرار. وبعد أربع سنوات فقط، دخل الجنوب في وحدة غير متكافئة مع الشمال، انتهت بتبخر النظام الجنوبي السابق وتعرض المجتمع لآثار سلبية طويلة الأمد.
في السياق الراهن، يظهر أن المجلس الانتقالي الجنوبي يسير في مسار مشابه من حيث الذهنية وطبيعة الممارسة السياسية. فالميل إلى الإقصاء وتهميش الكفاءات لا يزال حاضرًا، إلى جانب تقديم الولاء السياسي والاندفاع الثوري على حساب الكفاءة والخبرة. كما أن التنافس على المناصب بات يتخذ طابعًا يغلب عليه منطق الغنيمة أكثر من منطق بناء المؤسسات. هذا التشابه التاريخي يثير القلق، غير أن الاختلاف الجوهري يتمثل في أن الظروف الحالية أكثر تعقيدًا وخطورة. فالصراع لم يعد محصورًا في نطاق داخلي كما كان الحال في الثمانينيات، بل أصبح مرتبطًا بتوازنات إقليمية متناقضة تعكس مصالح قوى خارجية مؤثرة في المشهد الجنوبي. إضافة إلى ذلك، فإن انتشار السلاح بشكل واسع خارج إطار الدولة يزيد من احتمالية تحوّل أي خلاف سياسي إلى نزاع مسلح يشمل المجتمع ككل، في ظل غياب مؤسسات قادرة على ضبط التوترات أو استيعابها.
وعلى خلاف مرحلة الثمانينيات التي كانت تشهد وجود جهاز دولة متماسك نسبيًا، يواجه الجنوب اليوم واقعًا أكثر هشاشة بعد عقود من الحروب والتفكك. هذا يجعل احتمالات الانهيار أوسع نطاقًا وأشد أثرًا، بحيث يمكن لأي تفجر داخلي أن يقضي على ما تبقى من مؤسسات ويضع القرار السياسي في قبضة التدخلات الخارجية لفترة طويلة. إن مقارنة التجربتين تكشف عن استمرار أنماط متشابهة من إدارة السلطة تقوم على الإقصاء والاحتكار وفقدان البوصلة الوطنية، غير أن الفارق يكمن في أن تداعيات الصراع المحتمل في الحاضر قد تتجاوز في عمقها وخطورتها ما عاشه الجنوب في أحداث يناير 1986.
تؤكد هذه القراءة أن الدروس المستفادة من التاريخ لم تُستوعب بعد، وأن تكرار الأخطاء ذاتها في بيئة أكثر هشاشة قد يقود إلى نتائج أشد كارثية. وإذا لم يتم تبني مقاربة أكثر شمولية تقوم على استيعاب مختلف القوى وتعزيز مؤسسات الحكم الرشيد، فإن احتمالية تجدد مأساة مشابهة لأحداث يناير تبقى قائمة، وربما تحمل هذه المرة أبعادًا أكثر دموية وأكثر تعقيدًا من حيث نتائجها السياسية والاجتماعية.

الكلمات الدلالية