صنعاء 19C امطار خفيفة

وقفة تأمل مع مقال "إشكالية موروث ثقافة كربلاء في الوعي العربي"

في مقاله الجريء والعميق، المعنون بـ"إشكالية موروث ثقافة كربلاء في الوعي العربي"، يقدم الدكتور ياسين سعيد نعمان قراءة مختلفة تمامًا لواقعة كربلاء، لا كحدث تاريخي معزول، بل كحالة ثقافية مترسخة في الوعي العربي، تمارس حضورها باستمرار في المحطات الفاصلة من تاريخنا السياسي والاجتماعي.

ما يميز هذا الطرح أن الدكتور نعمان لا يحاكم الحدث من منظور مذهبي أو طائفي، بل يتعامل معه كـ"بنية ثقافية"، تشكلت من عنصرين أساسيين: الخذلان، والنواح. الأولى (الخذلان) هي لحظة التخلي والانفضاض عن "الكبير" أو "الملهم" حين تشتد الظروف، والثانية (النواح) هي الفعل التالي، حين يعمد المخذولون إلى البكاء والندب، إما للتطهر من خيانتهم، أو لتبريرها.
في وصفه القاطع، يقول الدكتور نعمان: "كربلاء موروث ثقافي لئيم، موروث يلاحقنا كظل ملازم لحركتنا وسكوننا على السواء".
هذه العبارة لا تُعبر فقط عن موقف تجاه حدثٍ مأساوي، بل تسلط الضوء على ما يمكن وصفه بـ"الانقلاب المفاهيمي" الذي تمارسه هذه الثقافة؛ فحين تُهزم الأمة أو الجماعة، تُقلب الهزيمة إلى "نصر معنوي"، ويُبنى عليها خطاب عاطفي بكائي يُخدّر الوعي، ويحول دون المراجعة والمحاسبة. ويكفي أن نرى كيف تُحول المأساة إلى طقوس ومواسم، فيما تتكرر أسباب الخذلان بصيغ جديدة، دون أن تُطرح أية محاولة جادة لوقف هذا الإرث المتجذر.
وهنا تبرز إحدى أهم المفارقات التاريخية التي أعاد الدكتور نعمان تسليط الضوء عليها، من خلال نموذج عمر بن سعد بن أبي وقاص، الذي خُيّر بين الوقوف إلى جانب الحق المتمثل في الحسين، أو الظفر بمنصب ووظيفة تحت راية يزيد. لقد اختار المصلحة الآنية، تمامًا كما يُعاد هذا الاختيار اليوم بأسماء مختلفة: منصب، سلطة، دعم خارجي، أو حتى وهم الاستقرار.
لكن المأساة لم تقف عند حدود هذا الاختيار الشخصي؛ فقد خرج الحسين بدعوة من أهل العراق، فخذلوه عند لحظة الحسم. وعندما أراد الرجوع إلى مكة، رفض الشمر بن ذي الجوشن ذلك، لتنتهي القصة بقتله وقتل أهله وأطفاله، في مشهد من أكثر مشاهد التاريخ العربي قسوة وتجردًا من الإنسانية.
في هذا السياق، يُعيد الدكتور نعمان قراءة السلوك الجمعي ويقول: "لا فرق بين من خذل الحسين وأخذ يستحم في مأساته ليتطهر، وبين من خذل ولي نعمته، عبر التاريخ، وراح ينعق في خراب سلطته بعد السقوط، ليتبرأ من الخيانة".
هذا التوصيف يلقي الضوء على تكرار النسق ذاته: دعوة ثم تراجع، حماسة ثم نكوص، شعارات ثم انبطاح. وهكذا تتحول الخيانة من فعل فردي إلى "بنية ثقافية" تتوارثها الأجيال، وتتخفى خلف ستار النواح والعزاء لتمنع الحقيقة من أن تخرج إلى السطح.
ولعل الأخطر من هذا كله، كما يلمّح المقال، هو أن هذه الثقافة لا تكتفي بتبرير الخذلان، بل تذهب إلى أبعد من ذلك، فتمجيد الألم يصبح هوية، ويتحوّل البكاء إلى وسيلة للتطهر، وتُستبدل المواجهة بالعاطفة، والخيانة بالحكمة السياسية، والذلة بـ"الانتصار المعنوي". وهنا يفقد الوعي العربي القدرة على التفريق بين الظالم والمظلوم، وبين الحق والمصلحة.
وقد عبّر الدكتور ياسين سعيد نعمان عن هذا التحول الثقافي، بقوله: "منذ ذلك التاريخ، وثقافة كربلاء تسوّد حياتنا بوقائع مختلفة من التدثر ببراقع الألم لإخفاء الخذلان".
وعليه، فإن الدكتور نعمان لا يدعو إلى محاكمة الحدث التاريخي ذاته، بل إلى تفكيك آليات إعادة إنتاجه، لا سيما حين تتحول الواقعة إلى ثقافة سياسية تشوه الوعي، وتُنتج كوارث جديدة بنفس أدوات الماضي.
يختتم الدكتور مقاله بتحذير واضح من استمرار هذه الدورة المهلكة، ويقول: "ميراث لئيم سيواصل إنتاج وإعادة إنتاج الكارثة التي غرقنا فيها مرة باسم كربلاء، ومرات بأسماء مراكز وبيوتات الحكم".
من هنا، تصبح المراجعة ضرورة لا ترفًا. مراجعة لا للتاريخ فحسب، بل للوعي الذي يتغذى عليه. فما لم نستطع التحرر من هذا الموروث الثقيل، سيظل حاضرنا ومستقبلنا رهينة ثقافة الهزيمة المتخفية خلف شعارات البطولة الزائفة.
فهل آن الأوان لنسأل أنفسنا: هل نبكي الحسين حقًا، أم نبكي خذلاننا المستمر لكل من سار على درب الحسين؟ وهل يمكن أن نخرج من دائرة "الدعوة ثم التخلي" التي أصبحت مع الأسف سمة عميقة في ثقافتنا السياسية والاجتماعية؟

الكلمات الدلالية