عودة إلى سؤال "الوحدة الوطنية" لثورة 26 سبتمبر!
كيف تنافرت التوقعات في بواكير سبتمبر ممهدة لأحداث أغسطس؟
ما أكثر ما صادفتني هذه الوثيقة التي نشرتها "النداء" في أكتوبر 2010. غالبًا تظهر منقوصة أو محرفة. وقد يضيف بعض الطيبين إلى نصها شروحًا وما يعتقد أنها إيضاحات بسبب امتناع "النداء" عن نشر بعض الألفاظ القاسية الواردة في الوثيقة، وتنال من الرئيس اليمني الشمالي الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني.
في الشهور التي أعقبت نشر الوثيقة، اندلعت ثورة شعبية في اليمن، لكنها ارتطمت باستعصاء الحكم عن الاستجابة لمتطلبات العصر، فأفرز الاستعصاء انشقاقًا في جيش النظام الذي اتسم بالطابع القبلي العصبوي جراء سياسات الحكم في اليمن الشمالي، ثم في الجمهورية اليمنية (1990)، خصوصًا بعد الحرب التي شنها الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، متحالفًا مع التجمع اليمني للإصلاح (إخوان مسلمين) والجهاديين العائدين من أفغانستان (أسامة بن لادن) ضد الحزب الاشتراكي والقوات العسكرية المحسوبة عليه (جيش اليمن الجنوبي قبل مايو 1990).
 في مطلع يونيو 2011، حوصر مقر صحيفة "النداء" من مسلحين مؤيدين للرئيس صالح. هؤلاء المسلحون هم جزء من مليشيات مسلحة أطلق عليها الإعلام الموالي لصالح اسم "أنصار الشرعية" التي ستواجه ما عرف عقب 18 مارس (جمعة الكرامة) باسم أنصار الثورة بقيادة علي محسن الأحمر (الذراع اليمنى لسلطة الرئيس صالح منذ 1978). وكان أبلغني صديق من قيادة المؤتمر الشعبي في أمانة العاصمة، باسم قيادي في حزبه، هو من قاد الحملة على "النداء"، وحرض المليشيات المسلحة التي سيطرت على شارع الزبيري باتجاه عصر.
 في يونيو 2011، أطلق هؤلاء المسلحون تهديدات بقتل سامي غالب وزملائه في "النداء"، الذين "يتطاولون على الشرعية" ورمزها!
ولما كانت المنطقة خاضعة لسيطرتهم، فقد تعذر تمامًا الوصول إلى مكتب الصحيفة التي توقفت خلال فترة الانقسام التي استمرت حتى مطلع عام جديد. وعندما جري انتخاب رئيس توافقي جديد في فبراير 2012، كان مطلب استئناف إصدار "النداء" قد دخل دائرة المستحيل، لأن "أنصار الشرعية" قرروا القيام بخطوتهم الختامية بعد 7 شهور من الحصار، وهي -كما هو مألوف في اليمن- اقتحام مكتب الصحيفة، ونهب ما يحتويه من معدات، تاركين "القطعة النفيسة" (هارد الجهاز الرئيسي).
 لم يكونوا في "الهارد" من الزاهدين، بل هي الغفلة الحميدة، فهارد جهاز الإخراج الرئيس كان -من حسن الحظ- أسفل مكتب الزميل العزيز طارق السامعي، المخرج الفني للصحيفة.
 بعد سنتين بالتمام (في فبراير 2014) تم إنهاء موقع "النداء" الإلكتروني الذي كان ينشر مواد العدد الأسبوعي (بصيغة وورد) منذ أغسطس 2006. وبذلك أجهز كليًا على أي أثر مادي لـ"النداء" (هناك فرضية تقول بأن أحد التجار الذي ورد اسمه، في تقرير لـ"النداء"، ضمن مجموعة مهربي السلاح، تولى عبر محاميه وآخرين، تصفية الموقع ككل!).
 في 2015 تحولت الحرب اليمنية الداخلية إلى حرب إقليمية في (وعلى) اليمن. وفي السنوات التالية تم نشر وثيقة "الوحدة الوطنية" المنشورة في "النداء"، من قبل سياسيين وكتاب ومدونين في مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها دليلًا دامغًا على أن "الزيود" هم العدو الوجودي لتطلعات المناطق اليمنية غير الزيدية.
 كذلك اكتسبت وثيقة من منتصف ستينيات القرن الـ20، محمولات إضافية بعد نصف قرن، بالتمام، وقوة أداء رهيبة، خصوصًا وأن الموقعين عليها هم كبار القوم في "اليمن الأسفل"، وشخصيات لها مكانتها في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر.
 ومع أخذ الحرب الداخلية في عاميها الأولين (2015 و2016) سمات الحرب الأهلية، بات في وسع أي يمني (خصوصًا من المحافظات الجنوبية) إشهارها في وجه أي يمني آخر لا يرى في الوثيقة ما هو أكثر من منطوقها المباشر؛ أي أزمة نظام ثوري تباينت وجهات قادته ومؤيديه قبل أن يكمل عامه الثاني!
 كانت "النداء" متوقفة، وموقعها الإلكتروني مفقودًا. وكانت الحرب مستعرة بعد صيف عدن ولحج الملتهب في محافظة تعز التي فيها يتقرر -إلى حد بعيد- خارطة يمن المستقبل!
 هكذا صار ما كان يتردد همسًا في المجالس في تعز وإب وعدن والحديدة وصنعاء، يقال علنًا في الساحات وخنادق القتال، خصوصًا في مدينة تعز التي بدت كأنها نسخة من "تعز 64"، ولكن في غياب الشخصيات الوطنية وقائد الثورة عبدالله السلال والمكتب العربي (الجيش المصري).
 لكن "تعز 2015" كانت قد تغيرت كثيرًا. صارت مدينة تحوي مليوني نسمة قياسًا بـ150 ألف غداة ثورة سبتمبر. وكان الزمن قد غير عميقًا في الخارطة السياسية في اليمن والإقليم، والمحتربون المحليون غيروا مواقعهم ومصادر تمويلهم. و"الزيدي" المدعوم سعوديًا في جبهة الإماميين والرجعيين في الستينيات، هو الآن الثوري (ما نبالي) المصطف مع إيران ومحور المقاومة، مزودًا بعتاد عقائدي يمنحه "التفوق الأخلاقي" الذي يسمح له بالتنكيل بمواطنيه (زيودًا وشوافع وسلفية ويهودًا) بدعاوى الاصطفاء ومحاربة العدوان الصهيوني!
 أما خصومهم في مأرب وتعز وغيرهما من المحافظات الجنوبية والشرقية، الذين كانوا "ثوارًا" في الستينيات، فقد أمسوا -في "ليل الأمة الدامس"- من حملة الرايات الخليجية. لا يبالون بدورهم!
 هكذا كانت تطل الوثيقة في وسائل التواصل خلال سنوات الحرب، مذكرة بأن اليمني الطيب لن يتمتع بالسلام والاستقرار مادام "اليمني الشرير" متربصًا هناك؛ شمالي الهضبة.
 في أكتوبر 2022 عادت "النداء" كموقع إلكتروني، بعد أن تمكن الزميل العزيز رياض الأحمدي من العثور على الموقع القديم في تلابيب الشبكة العنكبوتية. ومع عودة الموقع صار في الوسع إطلاق إصدارات شهرية لأهم ملفات "النداء" وإسهامات أبرز كتابها. كما يمكن -وهذا مهم للغاية- استئناف تغطية عدد من القضايا العابرة للعقود، من شاكلة الاختفاء القسري والسجناء على ذمة ديون وعهد وغرامات (وهم بالآلاف)، فضلًا عما يشتمله أرشيف "النداء" من مواد تتعلق بأزمات العقد الأول من الألفية، وأهمها حروب صعدة والحراك الجنوبي.
 في 2010 كان نظام الحكم استنفد، فعليًا، مصادر شرعيته بعد 3 سنوات من انتخابات رئاسية فرط أطراف العملية السياسية بمكاسبها، فلا الفائز بها تصرف كرئيس منتخب لدورة أخيرة، وسعى بإخلاص لتنفيذ برنامجه، ولا الخاسر تقبل عمليًا الخسارة، وحضر نفسه لجولة ديمقراطية قادمة. تصرف الطرفان الرسميان كفاعلين راديكاليين، تمامًا كما الفاعلين غير السياسيين (الخارجيين)، وهما الحوثيون ومكونات الحراك الجنوبي. هكذا تم تعطيل الانتخابات النيابية باتفاق المؤتمر الشعبي (حزب الرئيس) وأحزاب اللقاء المشترك. ثم في خريف 2010 أعيد مجددًا طرح فكرة تعديلات دستورية بشكل منفرد من المؤتمر الشعبي، وقدم مشروع التعديلات إلى البرلمان في مطلع العام الجديد (2011)، فانفجر الشارع ضد نظام حكم متصدع سياسيًا واجتماعيًا.
 في صيف 2011 كنا نخطط لاستضافة عبدالله الواسعي، وهو من رموز التيار القومي البعثي في اليمن، وشخصية تحظى باحترام عابر للأحزاب والتيارات. زرته في لقاء تمهيدي في منزله شرقي العاصمة (سعوان)، ودار حديث عن مقدمات ثورة سبتمبر وانخراط الشباب من مختلف مناطق اليمن، بما فيها تلك الواقعة تحت الاحتلال البريطاني كالضالع ويافع وأبين، فضلًا عن عدن. أطلقت ثورة سبتمبر كل الوعود دفعة واحدة. لكن رومانسية الثوار الشباب سرعان ما ارتطمت بواقع شديد التعقيد مع أول احتكاك بيروقراطي في داخل القصر الجمهوري. روى لي الفقيد العزيز الأستاذ عبدالله الواسعي (وهو من أسرة اشتهرت بالعلم في اليمن، وأبرز أعلامها المؤرخ اليمني الشهير الواسعي) كيف كانت صدمته رهيبة في الشهر الأول للثورة، عندما سمع أحد الطيبين من رجال العهد الحديد في القصر الجمهوري بصنعاء، يشددد على ضرورة أن تكون الأولوية في الوظائف والمنح الدراسية لأبناء اليمن الأسفل الذين عانوا طويلًا من سياسات التمييز في العهد الإمامي المباد!
 كانت تلك صدمة هائلة هزت مسلمات الشاب الثوري الذي كانه، لكن زخم العهد الجديد وضراوة المؤامرات على الثورة أجلت سؤال الوحدة الوطنية إلى أن "وقعت الواقعة" بعد 6 سنوات!
 الأكيد أن ثورة سبتمبر 1962 حفرت عميقًا في الشخصية اليمنية. وهي احتلت مكانها في مقدمة الأحداث الكبرى في التاريخ اليمني الحديث. لكن سؤال الوحدة الوطنية ظل ماثلًا منذ السنوات الأولى لسبتمبر، وخصوصًا عقب أحداث أغسطس 1968، عندما عجزت الأردية السياسية (محافظ وراديكالي) والأيديولوجية (بعث ضد قوميين عرب) عن إخفاء الوجه الثالث للأحداث، وهو الوجه المناطقي (اليمن الأعلى واليمن الأسفل).
 والآن مع الذكرى الـ63 لثورة سبتمبر، يتكرر -وإن بشكل أكثر حدة- السباق من أجل إثبات أحقية الانتساب إليها بين المحافظين والراديكاليين (في واقع الأمر بين أحفاد المعسكرين) أو بين وجهاء القبائل وأبناء الفلاحين في اليمنين الزيدي والشافعي، أو بين الأوفياء للرئيس الأسبق والثائرين عليه في 2011.
———
 في 2010 دار الحديث همسًا في المجالس حول هذه الوثيقة، ما عدا مقالات محدودة في "النداء" وصحف أخرى.
 لكن الأسئلة التي أثارتها الوثيقة في 2010 بشأن ظروف إعلانها في 1964، ظلت ماثلةً، وخصوصا علاقة فيصل الشعبي والجبهة القومية بمحرريها، وهل تلى البيان رقم 1 بيانات أخرى، أم أن البيان لم يلبث أن تلاشى مع تسارع الأحداث وصولًا إلى أغسطس 1968.
 والأهم من ذلك كله هو الدور المصري في ظهور هذا البيان، ثم ما يمكن اعتباره تبريد أصحابه!
 تثار هذه الأسئلة وغيرها الآن، كما قبل 15 سنة، لوجاهتها، خصوصًا مع ظهور تسجيلات جديدة لأهم الفاعلين في اليمن في عقد الستينيات، وهما الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، والمسؤول السياسي عن اليمن في القيادة المصرية الرئيس الأسبق محمد أنور السادات.
 نعيد نشر البيان ومقدماته في "النداء"، آملين أن يوفر فرصًا لإثارة الأسئلة الصحيحة بشأن ثورة سبتمبر، والتوقعات التي فجرتها.
    
                
                                                                                