من الثورة الى التشويه: التاريخ يشيطن أبطاله(3-6)
التاريخ في اليمن لا يكتفي برواية الحكاية كما هي، بل يمزجها بالأسطورة، ثم يسلخها ببطء كمن يستمتع بالمشهد. يصنع بطلًا من لحم ودم، يصفّق له لحظة عابرة، ثم يقدّمه قربانًا على مذبح السياسة. علي بن الفضل كان المثال الأوضح لهذه اللعبة القاسية.. الرجل الذي سيتحوّل إلى صداع مزمن في رأس القوى السياسية والدينية، نشأ في بيئة علمية ودينية غنية بالمعرفة، حيث درس علوم الدين واللغة والتاريخ والأنساب والفلك والنبات على يد علماء بلدته، حتى صار أشبه بمكتبة متنقلة.
لاحقًا قرر أن يحوّل تلك المعرفة إلى ثورة على الأرض. خرج من قرية صُهيب قرب جيشان، في القرن الثالث الهجري، لا ليحصد لقب شيخ قبيلة، ولا ليضيف شعارًا جديدًا إلى سوق الولاءات، بل ليكتب اليمن بمداد مختلف. لكنّ خصومه أصابوه بسيوف الرواية، فصارت شخصيته تُروى كما لو كانت من قصص ألف ليلة وليلة، حيث يمتزج الدم بالخيال، وتختفي الحقيقة خلف ستار من الشائعات.
الحكاية تبدأ مع الدعوة الإسماعيلية، إذ القى أبو الفتح علي بن الفضل الخنفري الحميري الشرارة الأولى قبل أن يدرك أن الشرارة وحدها لا تكفي، وأنه بحاجة إلى حريق يلتهم ما تبقى من وصاية الفاطميين. كان يرى اليمن دولة يمكن أن تقف على قدميها بلا وصيّ من المغرب ولا إمام من صعدة، وكان مشروعه جريئًا في زمن كانت الطاعة فيه فضيلة. لذا تحوّل سريعًا إلى عدوّ مشترك.. الهادوية، اليعفريون، الإسماعيليون، وحتى من لا يعرفون الفرق بينهم جميعًا اتفقوا ضمنًا على تصويره ككابوس، فصارت صورته تُكتب بحبر الخصوم لا بصوته هو.
ثورة ابن الفضل لم تكن نزوة شخصية ولا تمردًا قبليًا عابرًا، بل محاولة لتوحيد اليمن جغرافيًا وسياسيًا. رفع رايته باسم الجياع، وحين نهض معه الفقراء والمعدمون -وهم أغلب اليمنيين آنذاك- صار خطره مضاعفًا في أعين السلطة. سيطر على المناطق الوسطى الخصبة، واقترب من مفاصل التجارة والزراعة، ثم زحف إلى تهامة وانتزع أجزاء واسعة منها.
عندها استنجد الإقطاعيون في صنعاء بيحيى الرسي، ليخلّصهم من هذا "المجنون" الذي يغيّر قواعد اللعبة. صنعاء نفسها فتحت له أبوابها بعد معارك طاحنة، فدخلها منتصرًا، وأجبر الرسي على الفرار إلى صعدة.
كان قد أذاق الدولة الزيادية في زبيد هزيمة موجعة، وانتزع منها تهامة، مثبتًا أن العباسيين لم يعودوا سوى ظل بعيد. كل ذلك كان كافيًا لتحويله إلى أسطورة، ماكينة التشويه اشتغلت بكامل طاقتها.. اتهموه بشرب الخمر، وتحليل الحرام، وإقامة حفلات مجون على سطح جامع صنعاء، بل وصل الأمر إلى اتهامات خيالية مثل أمره بنكاح الأمهات والأخوات، وقتله من رفض طقوسه، وسبي خمسة وثلاثين ألف امرأة من زبيد، وكأن الرجل كان يملك جيشًا من الجن ينقل له هذه الغنائم.
ومع كل ذلك الضجيج، يبقى مشهد صغير عصيًا على الطمس.. حين دخل صنعاء وخطب في جامعها، أمر أتباعه بالكف عن النهب، كأنه أراد أن يثبت أن الثورة ليست فوضى، وأن الدولة تبدأ بالكلمة على المنبر قبل أن تبدأ بالسيف. لقد أراد أن يؤسس نموذج حكم جديدًا، دولة إدارة ورمزية لا دولة دماء وفتاوى.
لكن السياسة لم تحتمل هذا النوع من المشاريع، فكان لا بد أن تنتهي القصة كما تنتهي عادة، موت جسدي يليه موت سردي.. حتى بعد رحيله لم يُسمح له أن يرقد بسلام في الذاكرة. بقيت صورته سؤالًا معلقًا أهو ثائر أم زنديق؟ لكن الأكيد أنه كان مشروع دولة، رجل فكر، وزعيم حرب في آن واحد، وهذا ما جعل خصومه عاجزين عن تصنيفه.
من يقرأ التاريخ بعيون يقظة يلاحظ أن تلك الروايات المفبركة كُتبت بوقار مصطنع، وكأنها حقائق لا تقبل النقاش. لكن ابن الفضل كان أكبر من حكاياتهم. لقد حاول أن يضع سطرًا خاصًا به في كتاب اليمن، فقاموا بتمزيق الصفحة، غير أن السطر ظل واضحًا، يطل من بين فراغات التاريخ الرسمي كحقيقة ناقصة لم يجرؤ المؤرخون على إكمالها.
علي بن الفضل لم يكن قديسًا ولا شيطانًا، كان اليمني الذي حلم أن يرى اليمن لنفسه لا تابعًا لأحد، ولهذا يظل حاضرًا، ليس في الكتب المدرسية بل في ذاكرة الناس الذين ورثوا قصته كحكاية عن رجل حاول أن يصنع مستقبلًا، فقُتل مرتين.. مرة في جسده ومرة في سيرته. ويرجح أنه مات مسمومًا بأوامر الفاطميين الذين رأوا في مشروعه تهديدًا لهيمنتهم. لكن رغم موته، بقيت روحه ترفرف فوق التاريخ اليمني كتذكير دائم بأن مشروع الدولة الوطنية المستقلة لم يولد في القرن العشرين، بل قبل أكثر من ألف عام، على يد رجل أراد أن يجعل اليمن كيانه الخاص، بعيدًا عن كل وصاية خارجية أو مذهبية.