فلسطين: من قضية الأجيال إلى امتحان الضمير الإنساني
منذ نعومة أظفارنا، لم يكن اسم فلسطين مجرد جغرافيا بعيدة أو خبرًا عابرًا في نشرات المساء، بل كان النداء الأول الذي شكّل وجداننا. كبرنا على وقع هذا الاسم كما يكبر الطفل على اسم الأم. في كل عيدٍ أو مناسبةٍ، كانت فلسطين حاضرة، وفي كل لقاء مع فلسطيني على أرضنا كنا نشعر أننا نلامس أصل الحكاية، وجذر الأرض، وروح التاريخ.
لكن ما إن بلغنا الوعي حتى اكتشفنا أن القضية التي توحّد قلوب الملايين تمزّقت بين أيدي اللاعبين السياسيين. تحوّلت إلى ملف متشظٍّ تتداوله المؤسسات والمنظمات والأحزاب والقيادات الدينية، كلٌّ يستثمر فيها لمصلحته، بينما ظلّ الفلسطيني نفسه يحمل عبء الألم وحده: لاجئًا، محاصرًا، مشردًا، أو مقيمًا فوق أرضه التي تُبتلع أمام عينيه.
ثم جاءت غزة لتصبح المحكّ الأهم في تاريخ القضية الفلسطينية. لم يعد الاحتلال قادرًا على إخفاء جرائمه خلف جدران الإعلام الموجّه. السوشيال ميديا كسرت جدار الصمت، وحوّلت كل هاتفٍ إلى شاهد، وكل منصة إلى محكمة. لأول مرة صار العالم يرى بوضوح حجم الدم، وعمق المأساة، وضخامة الجريمة. لقد انتقلت فلسطين من كونها خبرًا هامشيًا إلى بؤرة ضمير عالمي تتصدر الميادين والجامعات ووسائل الإعلام.
غير أن المفارقة المؤلمة تكمن في المشهد العربي. نسمع خطبًا رنانة في المساجد، شعارات تُرفع على المنابر، صناديق للتبرعات تُفتح، وبيانات سياسية تُتلى، بينما يبقى الفعل غائبًا. الشعوب تبكي وتلطم وتنام، والأنظمة تتخذ من القضية مظلة لحماية صورتها، لا لحماية فلسطين. كأنما أُريد للقضية أن تبقى مادة عاطفية تُثير الحماس ثم تُسكنه، لا مشروعًا سياسيًا واضحًا يُنهي الاحتلال.
في المقابل، نشهد في الغرب -من أمريكا إلى أوروبا، وصولًا إلى بعض دول آسيا- احتجاجات شبه يومية، حشودًا ضخمة ترفع شعارات جريئة، تنبّه، وتُحذّر، وتضغط على حكوماتها. لقد أظهر الغرب، بما فيه من طلاب وجماعات مدنية ونقابات، وعيًا عمليًا يتجاوز أحيانًا وعي الشارع العربي الذي يكتفي بالبكاء أمام شاشاته.
هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا بقيت فلسطين، رغم وضوح عدالتها، رهينة الخطاب، بدل أن تكون محور الفعل؟ لماذا ظلّت مادةً للشعارات أكثر من كونها مشروعًا للتحرير؟
الجواب المؤلم أن القضية الفلسطينية تحوّلت عبر العقود إلى أداة سياسية تُستغل عند الحاجة: ورقة مساومة في التفاوض، وسلاحًا في الخطاب الديني، وذريعةً لإطالة عمر أنظمة فقدت شرعيتها. أما الفلسطينيون أنفسهم، فقد ظلوا وحدهم على خط النار، يُقاومون بدمائهم، فيما يتاجر العالم بدمائهم.
ومع ذلك، فإن غزة اليوم وضعت العالم أمام امتحان أخلاقي لا يمكن تجاوزه. لم يعد ممكنًا دفن الحقائق تحت ركام الإعلام الرسمي. لم يعد ممكنًا تجاهل صوت الأطفال تحت الركام، أو صور الأمهات المكلومات التي تملأ الشاشات. لقد باتت فلسطين مرآة تكشف عجز العرب، وتفضح نفاق العالم، وتختبر صدق الإنسانية نفسها.
إن القضية الفلسطينية اليوم ليست قضية وطنٍ مسلوبٍ فحسب، بل قضية العدالة الإنسانية في زمن تتسع فيه الفجوة بين الشعارات والواقع. وما لم تتحوّل هذه القضية من مادةٍ للاستهلاك السياسي إلى مشروع تحرري جامع، ستظل فلسطين تنزف، وسنظل نحن ندور في دائرة العجز ذاتها.
فلسطين، التي ورثناها قضيةً منذ طفولتنا، لم تعد اليوم مجرد ذكرى أو شعار. إنها امتحان مفتوح: إمّا أن نرتقي به فننقذ ما تبقّى من إنسانيتنا، أو نظل أسرى الشعارات، ونترك التاريخ يحاكمنا كما حاكم غيرنا من الصامتين على الظلم.