صنعاء 19C امطار خفيفة

الأيديولوجيا والشراكة: المشكلة والحل

حين أُبرمت اتفاقية الكويت بين شطري اليمن في ثمانينيات القرن الماضي، نصّت على تشكيل لجان للوحدة اليمنية. وكان والدي أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور عن الشطر الجنوبي. يومها اعترض بعض مشايخ الشمال على اختياره بحجة انتمائه اليساري، فما كان منه إلا أن قال عبارته الشهيرة:

«عندما يتعلق الأمر بالوحدة اليمنية فلتذهب كل الأيديولوجيات إلى الجحيم، قولوا “بسم الله الرحمن الرحيم” ولنبدأ».
كانت تلك العبارة، مع البسملة، كفيلة بإسكات المعترضين وفتح الطريق أمام صياغة دستور وطني متوازن غير «مؤدلج».
هذا الموقف لم يكن وليد لحظته، بل كان امتدادًا لمسار طويل؛ فوالدي تبنّى فكرة الوحدة منذ نعومة أظفاره، وقبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر بسنوات. منذ مطلع الخمسينيات، كان يقرأ تجارب الدول التي طردت الاستعمار وسعت إلى توحيد أراضيها، ولا سيما النموذج الفيتنامي الناجح مقابل النموذج الكوري المتعثّر وغيرهما من النماذج بما في ذلك نماذج المنطقة وتجاربنا المحلية أيضًا.
ومن خلال تلك التجارب برز عاملان رئيسيان يحددان النجاح أو الفشل:
1. أولوية الخيار الوطني على الأيديولوجيا
في فيتنام، كان الخيار الوطني للوحدة أسمى من الالتزام الصارم بالأيديولوجيا الماركسية، بينما انحازت كوريا الشمالية إلى تشددها العقائدي على حساب بناء مشروع وطني جامع.
2. إدماج قوى الجنوب في مشروع الشمال
نجح الفيتناميون في إدماج الجنوبيين في الثورة رغم أن معقلها كان في الشمال، وكان على رأسها «هوشي منه» المولود في جنوب فيتنام، بينما فشلت المقاومة الكورية الشمالية في استيعاب الجنوبيين، فبقيت حركة شمالية صِرفة إلا من استثناءات محدودة.
هذه العوامل انعكست على التجربة اليمنية. ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان على رأس الدولة الجنوبية شماليون في حين كانت دولة الشمال مغلقة على الجنوبيين، وربما كان ذلك أحد عوامل تفوق الجنوب عسكريًا في حروبه مع الشمال. لكن التشدد الأيديولوجي حال دون تحويل تلك المكاسب إلى مشروع وحدة حقيقي حتى مطلع التسعينيات، حين ألقى طرفا القيادة في الشطرين الأيديولوجيا جانبًا، وذهبا إلى شراكة كاملة تحققت معها الوحدة اليمنية عام 1990.
غير أن حرب صيف 1994 غيّرت المعادلة. فقد اعتمد الشمال على شراكته مع جناح «الزمرة» من الجنوبيين لتحقيق النصر، بينما انكفأ الجنوب على ذاته وأقصى الشماليين، فكانت الهزيمة مدوية. وما لبث الشمال بعدها أن همّش شركاءه الجنوبيين، الأمر الذي سرّع في بروز الحراك الجنوبي وتفاقم التمزق الوطني، وصولًا إلى المشهد الراهن من تفكك وتدخل خارجي مباشر.
اليوم، نجد أنفسنا أمام المشهد ذاته، أشبه بتجربتي كوريا وفيتنام معًا. فصنعاء تغلب عقيدتها الأيديولوجية على خياراتها الوطنية، وتشترك مع بقية الفرقاء في الإقصاء على أساس مناطقي، وهو ما يغذي الانقسام ويعطل أية إمكانية لبناء دولة جامعة.
الخلاصة التي لا مفر منها:
إن إعادة بناء الوحدة اليمنية لا يمكن أن تُحسم بالقوة، ولا بالتشبث بالأيديولوجيات الضيقة أو الحسابات المناطقية، وإنما عبر التخفف من الأيديولوجيات وإرساء شراكة وطنية حقيقية تفتح الطريق أمام مشروع جامع لكل اليمنيين. دون ذلك، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الحروب والتمزق مهما بلغت قوة أي طرف من الأطراف. ولنا في التاريخ وتجارب الشعوب عبرة.

الكلمات الدلالية