صنعاء 19C امطار خفيفة

في طفولتها كانت الوحدة خياراً بيولوجياً

فائقة السيد تروي حكايتها عن عدن الأممية وثورات التحرر

فائقة السيد تروي حكايتها عن عدن الأممية وثورات التحرر

في حلقة مفعمة بالتفاصيل والذاكرة الحيّة، تأخذنا الأستاذة فائقة السيد في رحلة تبدأ من حارات الشيخ عثمان في عدن، وتحديدًا من بيت الأصنج وبيت الدبعي، حيث تشكّلت أولى معالم الانتماء الوطني، والمزج العائلي بين شمال اليمن وجنوبه، لتكون الوحدة، كما تصفها، جزءًا "بيولوجيًا" من تكوينها العائلي، لا شعارًا سياسيًا فقط.

تكشف الحلقة عن عدن الأممية كما عايشتها طفلة ثم طالبة، مدينة تتجاور فيها اليهودية والبُهرية والصومالية والفرس والهنود، وتُحترم فيها الهويات بلا تنافر، فيما تُروى الحكايات في المقاهي والمدارس عن ثورات التحرر، من إذاعة صوت العرب إلى استشهاد المقاومين ضد الاستعمار، وميلاد الجمهورية العربية اليمنية في الشمال.

في سرد مشوّق، تتحدث فائقة السيد للزميلة رحمة حجيرة، عن دراستها المبكرة، وأول خطبة ألقتها في الطابور المدرسي، والكتب التي كانت تتداولها سرًا، والقيادات النسوية في عدن، ثم تنقلنا إلى تجربتها في روسيا والجزائر، ومشاركتها في دورة عسكرية ضمن كتيبة الجرمق في جنوب لبنان، ومرافقتها للرئيس علي ناصر محمد في زيارات رسمية إلى العراق والكويت، قبل أن تبدأ تجربتها السياسية والتنظيمية في اليمن.

في هذه الحلقة، نكتشف كيف تتشكل الهوية من البيت والمدرسة والحيّ، ومن دماء الأخ الذي استُشهد، ومن الجدران التي كانت تتقاطع فيها الاتجاهات السياسية دون أن تمزّق العائلة.

"النداء" تنشر النص الكامل للحلقة بالتزامن مع عرضها المصوّر على قناة "حكايتي" في يوتيوب.

رحمة: مشاهدينا، مساء الخير. اليوم حلقتنا مع امرأة من فولاذ، امرأة عاصرت أهم التحولات السياسية في اليمن شمالاً وجنوباً، وسافرت إلى الجزائر وروسيا وجنوب لبنان، قبل أن تأتي أحداث 13 يناير الدامية، وتنتقل مع جماعة الزمرة إلى شمال اليمن، لتبدأ من هناك سيرة جديدة مع المؤتمر الشعبي، وتقلدت موقع الأمين العام المساعد لحزب المؤتمر الشعبي العام، ورافقت الرئيس علي عبدالله صالح في ظروف صعبة، ثم أصبحت وزيرة للشؤون الاجتماعية والعمل، ووزيرة لشؤون الدولة.
غير أن القضية الفلسطينية لم تغب عن خطابها، بل أصبحت جزءًا ثابتًا من رؤيتها السياسية. ومؤخرًا، جمدت عضويتها في المؤتمر الشعبي العام، وتبدلت الأمكنة التي تقيم فيها، لكن المبدأ ظل ثابتًا. مشاهدينا، رحّبوا معي بالأستاذة فائقة السيد أحمد باعلوي.
مرحبا بك أستاذة فائقة في برنامج حكايتي، ونبدأ من الجذور: من هي عائلة فائقة السيد؟
فائقة: بكل فخر واعتزاز أقول: أنا أنتمي إلى أسرة جسدت الوحدة اليمنية بيولوجياً. أبي السيد أحمد بن أحمد محمود باعلوي ينتمي إلى أبٍ حضرمي هاشمي من وادي حجر، ووالدتي من قدس، ولكن عُرفوا في عدن وفي الشيخ عثمان حيث سكنوا ببيت الدبعي، لأن أهل جدتي أم والدتي كانوا هم أكثر في عدن والأقوى، فانتسب لهم الانتماء الذين هم بيت حيدر سعيد وفارع سعيد الدبعي، الذين هم مجموعة البلوبيرد.
حضرموت
بالطبع، جدتي أم أبي هي فاطمة بن سعيد الأصنج، شقيقة محمد سعيد الأصنج، وعمّة الشاعر الكبير المعروف عبدالمجيد الأصنج، وعمّة الشخصية الاجتماعية، أحد أكبر أعيان مدينة عدن، أحمد محمد سعيد الأصنج. وخالات أمي من النساء: جدة نظيرة، وخدوج، وعيشة، وبالطبع جميعهم رحمهم الله.
هذه التركيبة المزدوجة ساعدت إلى حد كبير في العشق الوحدوي، لأنه ليس شيئاً غريباً لأسرة الأكل والشرب والحياة. أشخاص يأتون من تعز وآخرون يذهبون إلى تعز، كل هذا موجود في عائلتنا. وأسرتنا، أشخاص يأتون من حضرموت، ونحن محطتهم في عدن، وجميعهم يمرون علينا، لذلك لم يكن هناك استغراب أو شيء جديد. فموضوع الوحدة اليمنية والانتماء إلى الشطرين موجود منذ طفولتي.
رحمة: أستاذة فائقة، هناك سؤال دائماً يتردد.. الآن من يكون والداه من المناطق الشمالية كانوا يسمونهم "جبالية". فإذا قلنا: أغلبية من حاورتهم كانوا من الشمال، فكم نسبة من هم من عدن تحديداً؟
فائقة: من هم من عدن: الصيادين، بيت النَيقة، بيت الأصنج. هم في الأصل صيادون، الأسر الذين كانوا يعملون في الاصطياد، الذين سكنوا وعشقوا وعاشوا شواطئ عدن في الخيسة، البريقة، والبريقة الفارسي، صيرة. هؤلاء هم أبناء عدن الأصل.
رحمة: وكم نسبتهم برأيك؟
فائقة: بالنسبة لنسبتهم، هي ليست قليلة جداً، ولكنهم ذابوا في إطار المجتمع. وعدن هي عاصمة أممية بطبيعتها. أتذكر في إحدى المرات ذهبنا إلى ورشة عمل في أحمد أباد بلاد الجزرات في الهند، وهي منطقة غاندي. الجمعية المستضيفة لنا رئيستها قالت إن جدها مدفون في عدن، لأنه كان يعمل في المستشفى العسكري الـ(RF).
إحدى مقابر الإنجليز في عدن
وبحسب الاتفاق، فإنهم يستضيفونا عندهم ثم نستضيفهم نحن، وفعلاً استضفناهم وعقدنا ندوة ثلاثة أيام في مدينة المحويت، ثم ذهبت هي إلى عدن وزارتها كما زارت قبر جدها. والسفيرة البريطانية السابقة فرانسيس جي، كان جدها مقبوراً في المعلا. عدن تشكيلة معقدة، وطيبة، وسموحة، لأنها هكذا.. وهذه هي عدن.
رحمة: وصفتيها كذلك بالأممية.
فائقة: أممية، لأن فيها الهنود والصومال وانحدارات مختلفة. هناك البُهرة والفرس، وكان هناك تعايش جميل جداً. في المدارس، الذين سبقونا، عندما كان أخي في كلية عدن وقريباتنا في كلية البنات بقرب خور مكسر في فترة أوائل الستينات، كانوا يدرسون معهم بنات من البُهرة واليهود، وأولاد أيضاً من اليهود.
عدن في الماضي
رحمة: بمعنى أن عدن تستوعب الجميع.
فائقة: عدن للجميع.
رحمة: دعينا نعود إلى الهاشمية. اسمك "فائقة السيد"، فهل السيد مرتبط كما ذكرتِ أنك هاشمية؟
فائقة: أبي كانوا ينادونه السيد أحمد، وأبي كان سائق تاكسي، ولكنه كان معتزاً بنفسه وقوياً، وخاله الأصنج، فكان مميزاً في الشيخ عثمان. ووالده من الأشخاص الذين يذهبون بالبضائع إلى شرق إفريقيا ويزور الموانئ. كان جدي عندما يأتي من إحدى هذه الرحلات، رأساً يقوم بعمل العشاء و"شوبانية" وهي الرقص الشعبي الحضرمي في حارة الأصنج. ونحن كنا نعيش في نفس حارة بيت جدي. بيتنا يقابله بيت جدي الأصنج، وهم عبارة عن سبعة أو ثمانية بيوت عليها "مدروجات"، والمدروجة تعني أن كل بيت له باب داخلي إلى البيت الآخر.
رحمة: بمعنى كنتم جميعاً تسكنون في بيت واحد؟
فائقة: نحن كنا بالجهة المقابلة للبيت، وكانت جدتي أم والدي تقيم في منزل أخيها وليس منزلنا، لأنه كان ابن أخيها مؤمناً عليها، وهو الأستاذ عبدالمجيد الأصنج، وكان لا يتناول الغداء ظهراً إلا بوجودها. بعد ذلك حدثت قصة وأنا أرغب في التنويه حولها.
مدينة الشيخ عثمان في الستينيات
كما قلت لك: أبي سائق تاكسي، ولم يكن يسمح للعرب بصعود التاكسي، وقال إن العربي يدفع شيلين ونص، ويقوم بإغلاق باب التاكسي بقوة. وكان ينتظر المركب في الميناء ولا يسمح بركوب التاكسي إلا للإنجليز. وكان يضحكنا ونحن أطفال. أدركنا ذلك بعد أن كبرنا. كان يحضر الإنجليز ويتركهم بركن الحارة فوق التاكسي ويدخل إلى البيت ليغتسل، وهم منتظرون بشكل غير عادي، وهو يكون قد جاء بهم من بستان الكمسري. وعندما يدخل ليغتسل نكون نحن الأطفال مجتمعين حول السيارة.
بعد ذلك، أصدقاؤه صوماليون، وكانت التواهي تمتلئ بالصوماليين، وهو كان يقضي معظم وقته في ميناء التواهي لانتظار المركب. كانوا يقولون للسيد "سيَّدو"، فلصق فينا هذا اللقب.
رحمة: يعني أنت فائقة سيدو؟
فائقة: لا، ولكن هذه عبارة عن ألقاب خاصة في الحارة، وليست الموجودة في شهادة الميلاد. فكانوا يقولون "بيت سيدو". نحن لا نستعير، وهؤلاء أصدقاء والدي.
رحمة: هل كانت هناك أفضلية لأنكم هاشميون؟ مثلاً، لو قلنا هناك نقطتان أو ثلاث تميز الهاشميين في ذلك الوقت، ما هي؟
فائقة: في عدن؟
رحمة: نعم.
فائقة: الاحترام. في عدن مجتمع مدني كما أخبرتك، مجتمع أُممي يتعايش فيه الهندي واليهودي والصومالي والفارسي والبنجالي. تتميز فقط بأن الناس تحترمك.
رحمة: هل هناك قيم زائدة لديكم بحكم أنك هاشمية؟ هل هناك إثراء لقيمك؟
فائقة: بالطبع: الرحمة، ومساعدة الضعفاء، وإقامة موالد القرآن في المناسبات أو على موتانا. أبي لم يكن يهتم في ذلك الجانب، ولكن أمي كانت تتشيع لذلك، ابنة الدبعي.
رحمة: بمعنى أن الباقين لم يكونوا يقومون بذلك؟
فائقة: كانوا يقومون بذلك، ولكن أقول لك: على حسب مستوى أسرتي، أمي تتشيع لذلك، وتعطي الفقيهة التي تقوم بتعليم القرآن الكريم مبلغًا ماليًا شهريًا، وتطلب منها أن تقرأ القرآن على أجداد أبنائها ولولد ابي باعلوي.
رحمة: والدتك اسمها سعاد...
فائقة: سعاد مقبل محمد، وهي من أوائل الفتيات اللاتي درسن في مدارس حكومية. تُذكر في الوثائق أنها من النساء اللواتي درسن في مدارس حكومية، وقامت بتدريسها السيدة نور حيدر، وهي أول امرأة قادت عملية التعليم في عدن.
رحمة: كم لديك إخوة، وما هو ترتيبك بينهم؟
فائقة: نحن كنا تسعة إخوة، واحد من إخواني استشهد في سبتمبر 67 في الحرب الأهلية الأولى في الشيخ عثمان بين جبهة التحرير والجبهة القومية، وكان عمره آنذاك 11 عامًا. أنا ترتيبي بينهم الوسط.
رحمة: ألم تكوني محرومة من الحب والحنان؟ لأنه في العادة الأخ أو الأخت الأوسط لا يجد الحب، والكبير والصغير يجدانه.
فائقة: أنا أجلبه.
رحمة: يعني أنك كنت مدللة مع والدك؟
فائقة: أنا كنت حتى عمر التسع سنوات أنام بجوار والدي.
رحمة: متى توفي والدكِ؟
فائقة: توفي والدي في يناير 1973 عندما كنت في الثانوية.
رحمة: كان عمرك حينها 20 عامًا؟ أنتِ من مواليد أكتوبر 1953.
فائقة: عندما حدث الاستقلال الوطني في 67 أعادونا سنة دراسية بعد تغيير المناهج ونظام التعليم.
رحمة: دعينا نتحدث عن فترة التعليم في عدن حينها، هل يمكن أن تصفي لنا كيف كانت المدارس، والزي المدرسي، والمصروف، وساعات العمل، والمناهج؟
فائقة (ممازحة): أنتِ تريدين أن تؤلمي قلبي.
رحمة: لماذا؟
فائقة: لأن تلك الفترة كانت أجمل فترة في حياتنا. مثلاً، عندما تكوني صغيرة، شاطرة ومتميزة ويقِظة، يُعطى لك الحق في الحصول على مصروف إضافي، وتشتري به مجلات للأطفال: "ميكي" و"سمير" و"سندريلا" وغيرها من القصص. لقد كانت هذه أيامًا جميلة، نتذكرها أنا وصديقاتي وزميلاتي عندما نتحدث في الموبايل عن هذه الفترة، وهن صديقات منذ المرحلة الابتدائية ولا تزال تربطني بهن علاقة حتى اليوم.
رحمة: والمتابعون أيضًا يريدون أن يعرفوا ما الذي كنتِ تقومين به؟
فائقة (متابعة): بعد ذلك دخلنا إلى المدرسة الحكومية، بعد أن أخذتنا والدتي إلى الدراسة في "المعْلامة"، وهو المكان الذي نتعلم فيه القرآن. كنا نتعلم في الصباح كأننا سنذهب إلى كامبريدج، وفي الظهر قراءة وكتابة وحساب، كان ذلك في جو عدن الرطب.
رحمة: وتحفظين قرآنًا وقواعد وغيرها. كم من القرآن حفظتِ أستاذة؟
فائقة: حفظت مجموعة من الصور، وكان لدي طبع ولا أعلم ما الذي كان قصدي في تلك الأيام. كنت أقول لوالدتي: أنا لن أذهب إلى الفقيهة. وتقول: لماذا؟ فأقول: لأنها ضربت الأولاد بالخيزران. وكانت تقول: ولكنها لم تقم بضربك. فقلت لها: ولكني شعرت بالخوف، أنا خائفة. وكنت أصر على عدم الذهاب. هي مبدأها جميل، وهو أن أدرس حتى لو كنت في المريخ.
احد الفصول الدراسية في عدن
رحمة: كانت حريصة على العلم لأنها تعلمت.
فائقة: هي بدأت في مدارس حكومية وكانت شاطرة، حتى إن السيدة نور حيدر طالبتها بالعودة إلى الصف الدراسي. طبعًا، جدي كان من البلاد ويشتغل في مشروع المياه في جبل حديد، وأمي وإخوتها وأخواتها كانوا من مواليد جبل حديد.
رحمة: كم كان عمر والدتك حين تزوجت؟
فائقة: تزوجت في سن مبكرة، تقريبًا 13 عامًا. والدتي كانت تريد إكمال دراستها، وما لم تستطع تحقيقه حققته فينا أنا وشقيقتي فريدة، وهي من أوائل الطلاب الذين دخلوا كلية التربية العليا.
رحمة: كم عددكن خواتك؟
فائقة: نحن خمس أخوات.
رحمة: هل جميعهن أكملن الدراسة التعليمية والجامعة؟
فائقة: نعم.
رحمة: والجميع تزوجن وأنجبن الأطفال؟
فائقة: نعم.
رحمة: والإخوة أربعة، واحد منهم استشهد، فتبقى ثلاثة منهم.
فائقة: الآن لم يتبقَّ سوى واحد؛ أحدهم مات بكورونا (أثناء الجائحة)، والآخر توفي بسبب ارتفاع السكر وتم بتر ساقه، وتبقى الأخ الأكبر واسمه فيصل، وهو متواجد معي في مصر.
رحمة: فترة الابتدائية والإعدادية، ما هي أبرز الأنشطة التي كنتِ تمارسينها وكانت تمثل أنشطة قيادية؟
فائقة: الخطابة.
رحمة: في أي سنة؟
فائقة: بعد 67، أتذكر. كنّ المدرسات، وعلى وجه التحديد السيدة أسمهان عقلان العرْس، وهي من شابات الجبهة القومية ومن حارتنا. (أريدك أن تعرفي أني أعرف عدن شارعًا شارعًا حتى بعد كل هذه السنوات). كانت السيدة أسمهان تدفع بي، وكانوا يضعون كرسيًا في ساحة المدرسة، ويخرجون جميع الصفوف في مناسبة 14 أكتوبر أو أي مناسبة وطنية أخرى أصعد على الكرسي وألقي الخطاب.
رحمة: هل كنتِ تكتبين؟
فائقة: كنت أكتب، ومواضيعي تُقرأ في الصفوف الأخرى.
رحمة: هل كانت هناك نشرة في المدرسة أم ماذا؟
فائقة: كانت أستاذة اللغة العربية، السيدة أم الخير أحمد حيدرة، زوجة المناضل الأستاذ أنيس حسن يحيى. أنا إلى اليوم أستخدم واحدة من الأبيات عندما استُشهد الزعيم علي عبدالله صالح.
رحمة: هل كنتِ تكتبين الشعر؟
فائقة: لا، ولكن هي قصيدة كانت مقررة علينا في الصف الثالث إعدادي، وهي القصيدة اليتيمة لابن زريق البغدادي:
لا تَعذُلِيهِ فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قُلتِ حَقًّا وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي نُصحِهِ حَدًّا أَضَرَّ بِهِ
مِن حَيثُ قَدرتِ أَنَّ النُّصحَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِّفقَ فِي تَأنيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجَعُهُ
البيت الذي اخترته للزعيم:
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أُوَدِّعُهُ

رحمة: أنتِ معروفة بوفائكِ أستاذة. نعود إلى فترة الابتدائية والإعدادية، هل كنتِ رئيسة الفصل أو كما يُعرف "مُراقبة"؟
فائقة: نعم.
رحمة: حدّثينا عن العملات "الشلن والبيسة والعانة"، والمصروف، كم كان يساوي، وكم كان مصروفك في الابتدائية والإعدادية؟
فائقة: الشلن، كان يمكنك أن تشتري به بيبسي وساندويتش، وليس "الروتي" ولكن "السليس". نحن في المدرسة لدينا فسحتان: فسحة نشتري بها، والفسحة الأخرى نحتفظ بما تبقى من المال.
رحمة: ألم تكونوا تحصلون على طعام في المدرسة؟
فائقة: كانوا يقدمون لنا كأسًا من الحليب صباحًا. نذهب طوابير، وهناك غرفة خاصة كبيرة يقومون بإعطائنا الحليب فيها.
رحمة: إذن دعينا نتحدث عن الأحداث السياسية التي شكّلت شخصية فائقة. هل كنتِ تستمعين إلى "صوت العرب"؟
فائقة: نعم.
رحمة: في عمر كم؟
فائقة: "الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة، وكذلك يفعلون".
شغفي الثوري التحرري كان مبكرًا. كل هذا الجو إلى أين سيؤدي؟ إخواني كانوا في العمل الوطني، وجيراننا: الجدار في الجدار زكي بركات وفريد بركات، وجدي الأصنج أمامنا، وعبدالله الأصنج زعيم في الحركة العمالية والنقابية ورئيس اتحاد الشعب الاشتراكي ورئيس اتحاد العمال... واقع كله يفور.
رحمة: وفيما يتعلق بأمنيتك أو النماذج التي كانت ملهمة لكِ، من أكثر نموذج تمنّت فائقة أن تكون مثله من بين كل هذه الأسماء؟
فائقة: أنا لا أستطيع أن أكون مثله، ولكن قريبة منه ونهلت من ينبوعه الذي لا ينضب، وهو عبدالله عبدالرزاق باذيب.
عبدالرزاق باذيب
رحمة: هذا كان لاحقًا، ولكني أقصد في مرحلة الابتدائية والإعدادية، هل كانت هناك نماذج؟
فائقة: أنا قرأت له "توابل" في سن مبكرة، لأن الكتاب كان مع أخي، وأنا أحب أن أبحث في الأشياء التي يمتلكها أخي. قرأته وأعجبني كثيرًا، وبعدها ظلت الفكرة في رأسي.
رحمة: وما هي الصحف التي كنتِ تقرئينها بعد "ميكي ماوس" عندما بدأتِ تكبرين؟
فائقة: "أخبار اليوم"، "الأهرام"، "آخر ساعة"، "المصور"، "روز اليوسف".
رحمة: وهل كانت توزّع في عدن؟
فائقة: كان يبيعها "الشيباني" أمام مسجد النور.
مسجد النور
رحمة: وهل كان جميع الناس يقرأون ويُقبلون على القراءة؟
فائقة: بالطبع، كان هناك هامش من الديمقراطية. مثلاً، ايام لاستعمار البريطاني... أتذكر، أخي كان يراسل مكتب جمال عبدالناصر، وكانوا يردون عليه ويرسلون له كتبًا لجمال عبدالناصر، ويأتي ساعي البريد ويطرق الباب ويسلمها.
رحمة: بالنسبة لوعيكِ فيما يتعلق بشمال اليمن، من المؤكد أنه كان هناك نازحون من شمال اليمن هاربون من جحيم الإمامة. فهل كنتم تلتقون بهم وتتعاطفون معهم في تلك الفترة، عندما كنتِ في الإعدادية أنتِ وإخوتكِ ومحيطك؟
فائقة: من أتى إلى عدن تزيّن وعاش. أنا أخبرتك مسبقًا بأنها بلد ذات طابع أُممي. هناك عائلات كانوا يعيشون في عدن، هناك تجار من بيت الجبلي وغيرهم. كانت هناك أسر أشد غنى من أهل عدن أنفسهم. في عدن الناس تعيش، وليسوا بحاجة إلى العطف.
رحمة: وتحديدًا القادمون من الشمال؟
فائقة: القادمون من الشمال، والذين يذهبون إلى الشمال: الأبناء الذين هربوا وأهلهم نائمون ذهبوا لدعم الجمهورية والتطوع ضمن القوات المدافعة عنها.
رحمة: كان عمركِ عندما قامت ثورة 26 سبتمبر 1962 عشر سنوات. هل لا زلتِ تذكرين كيف تلقيتِ أنتِ وأسرتكِ والحي الذي تسكنين فيه خبر ثورة 26 سبتمبر؟
فائقة: شعرنا بسعادة. وكانت في الجهة الخلفية لحينا مدرسة اسمها "المدرسة الشمالية للبنات"، وهي أول مدرسة للبنات في مدينة عدن بناها الإنجليز. كانت كبيرة وضخمة. كنا نمشي من المدرسة إلى البيت ونحن نستمع إلى الراديوهات في كل مكان: أحمد سعيد والأغاني "إلا يا طير يا رمادي، السلال حرّر بلادي". إذا كان المشوار يأخذ عشر دقائق، أنا آخذه في نصف ساعة، لأنني أقضي وقتي في الاستماع إلى الإذاعات.
رحمة: بمعنى كنتِ عندما تسيرين بجوار المقاهي تستمعين إلى الإذاعة؟ وهل كان هناك إذاعة بصوت عالٍ؟
فائقة: نعم، كان الصوت عاليًا.
رحمة: كان هناك ذاك المذياع الخشبي الكبير؟
فائقة: نحن نمتلك في المنزل الراديو الذي فيه غطاء خشبي. كانت أيامًا جميلة وحلوة، وفيها انتماء حقيقي وصادق.
رحمة: وبدأت تتشكل شخصيتكِ قليلًا قليلًا؟
فائقة: بالطبع، وبدأ إخواننا يدخلون إلى السجون. أخي الكبير دخل إلى السجن لأنه اشترك في مظاهرة.
رحمة (مقاطعة): إذًا بدأ الحراك يزداد ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب بعد ثورة 26 سبتمبر؟
فائقة: الاستعمار البريطاني وأعوانه في المنطقة... أتذكر أن أخي خرج في مظاهرة منددة بإعدام ثلاثة وعشرين يمنيًا قامت بإعدامهم إحدى دول الجوار.
رحمة: تحدثتِ عن بداية الحراك السياسي الذي حدث في جنوب اليمن بسبب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وقلتِ إن إخوانك شاركوا فيه. هل يمكن أن تسترسلي أكثر حول هذه المشاركة؟
فائقة: طبعًا، أخي الكبير كان في جبهة التحرير، وأخي الأوسط في الجبهة القومية، وعليك أن تري الديمقراطية التي كانت في المنازل.
رحمة (متعجبة): ألم يكونوا يتصارعون رغم وجود حرب بين جبهة التحرير والجبهة القومية؟
فائقة: مطلقًا. وأخي الأصغر منهم كان في جبهة التحرير، وكان لكل واحدٍ منهم اتجاهه.
رحمة: وبالنسبة لكِ، أنتِ كنتِ مع أي جهة حينما كنتِ طالبة؟
فائقة: سأخبرك بشيء، ويبدو أنني منذ طفولتي كانت تركيبتي توافقية، كنت آخذ المنشورات من الطرفين وأذهب لتوزيعها في المدرسة.
رحمة: سواء من جبهة التحرير أو الجبهة القومية؟
فائقة: المهم عمل ضد الاحتلال البريطاني. وصارت لنا قصة عندما ذهبنا إلى المدرسة، وكان معي في السيارة مدرسات، وكنا حينها نذهب بسيارات خاصة تقريبًا في عام 65. وفي ذلك اليوم قُتل الشهيد عبد الله عبدالمجيد السلفي، أحد قادة الحركة العمالية، وأحد الذين قاموا بتجهيز الشباب وإرسالهم إلى صنعاء لدعم الثورة والجمهورية. كانت عائلة السلفي من العائلات الميسورة ماديًا، وكانوا يملكون حديقة حيوانات خاصة، وهو كان مقدامًا، اغتيل في نفس يوم عرس شقيقته، وتحولت "المخدرة" المخصصة للزفاف إلى مكان للعزاء.
رحمة: من الذي اغتاله؟
فائقة: لا أعرف، كان الإنجليز منتشرين، وقاموا بإيقافنا. في ذلك الوقت كانت حقيبتي ممتلئة بالمنشورات، وكان معي مدرسات ليس لهن ذنب، ولكننا استطعنا أن نمر بعد أن تحدثت مع الجنود المدرساتُ باللغة الإنجليزية. كنتُ حينها من شدة الخوف أشعر بالصداع.
رحمة: اثنى عشر سنة كنتِ حينها طالبة، فهل كانت علاقتك مع المدرسات جيدة؟ وهل كنتم تتحركون جميعًا إلى المدرسة؟
فائقة: صاحب السيارة الذي نستأجره كان يقوم بأخذ مجموعة طالبات مع المدرسات.
رحمة: إذًا بدأتِ باكرًا نضالك ضد البريطانيين.
فائقة: بوعي أو بدون وعي تندمجين عاطفيًا.
مناضلون ضد الاحتلال البريطاني
رحمة: وعندما جاءت ثورة 14 من أكتوبر 1963، كيف تلقيتِ الخبر؟ وكيف شاركتِ؟ وما الذي تتذكرينه حول احتفالكم في العائلة والمدرسة؟
فائقة: في 14 أكتوبر حدثت مشكلة ما بين الجبهة القومية ومنظمة التحرير التابعة لعبدالله الأصنج، ونحن انحزنا انحيازًا كاملًا لعبدالله الأصنج.
عبدالله الأصنج
رحمة: ماذا كانت المشكلة؟
فائقة: منظمة التحرير والجبهة القومية اختلفوا، وعبدالله الأصنج كان حركة عمالية ومرتبطًا بمجلس العمال البريطاني.
رحمة: ولكن كان عمرك حينها عشر سنوات؟ هل كان هناك موقف شخصي أم هو موقف العائلة بشكل عام؟
فائقة: نعم، كان موقفًا وجدانيًا وليس رسميًا، وتعبئة أوراق، لأنه لا يمكن أن يتم تعبئة استمارة لي وأنا لا زلت طفلة.
رحمة: عشر سنين، كنتِ فعلًا بعمر صغير.
فائقة: المهم وجدنا أنفسنا في هذا الجانب: في جبهة التحرير، والتنظيم الشعبي لجبهة التحرير، والقطاع النسائي لجبهة التحرير، لأن قريباتنا كن بارزات في هذا الجانب: الأستاذة صفية حميدان، وآسيا محمد الحاج، وبلقيس محمد الحاج، وبنات باسندوة وصديقاتهن.
رحمة: من هن بنات با سندوة؟
فائقة: هن شقيقات الأستاذ محمد سالم با سندوة، والسيدة حليمة خليل وشقيقتها. كل هؤلاء كن تربويات عدنيات رائعات. وكان من أحد المقرات المهمة لهن بيت جدي الأصنج.
Img
رحمة: ومن هنا بدأتِ المشاركة بشكل أو بآخر، رغم صغر سنك، في هذا النضال.
فائقة: وجدانيًا.
رحمة: بعد ذلك جاءت ثورة أكتوبر 1963 ثم تلتها مواجهات بين جبهة التحرير والجبهة القومية. كيف تصرفتم وأنتِ لديكِ كل أخ مع جهة؟ ألم تحدث أي شجارات في المنزل بينهما؟
فائقة: لم تحدث بتاتًا. قبل 67 انضممت إلى القاعدة الطلابية لجبهة التحرير، نوزع المنشورات ونحرّض على المسيرات. كانت تقودنا تربوية وهي أخت شهيد. ثم قُتل أخي برصاص الجبهة القومية في 67، وهذا عمّق لدينا الانحياز التام إلى جبهة التحرير. ورغم التعب والمعاناة التي عانيناها كثيرًا في الأسرة من فقداننا لهذا الصغير، لكن شاءت الأقدار أن يأتي الاستقلال الوطني والجبهة القومية تكون في الحكم.
رحمة: في تلك الفترة، ما الذي قامت به فائقة؟ وبالمناسبة، أول راتب استلمته فائقة السيد بيدها، أنتِ كنتِ ناشطة وتكتبين؟
فائقة: في تلك الفترة؟
رحمة: نعم، لأن عمرك كان 14 أو 15 سنة.
فائقة: نحن لا نستلم مرتبات في تلك الأعمار، نحن تربية الإنجليز. نستلم راتب ونحن بعمر 15 عامًا!
رحمة: بعد انتهائك من الثانوية العامة، هل هناك شيء بارز في ذاكرتك فيما يتعلق بمرحلة الثانوية؟
فائقة: بعد الثانوية أديت الخدمة الوطنية في التربية والتعليم، في الدائرة السياسية التي أسسناها، وهناك استلمت أول راتب.
رحمة (مقاطعة): لم أفهم، كيف أسستم الدائرة السياسية؟
فائقة: لم تكن هناك دائرة سياسية. كان الرئيس علي ناصر محمد وزير التربية والتعليم، ورئيس وزراء، ووزير دفاع. جاء وزار ثانوية البنات في خور مكسر، وهي أول ثانوية للبنات في الخليج والجزيرة، وتعرف على قيادات المدرسة. أنا كنت من ضمن القيادات، رغم أنني من فصيل محارب في تلك الأيام وهو "اتحاد الشعب الديمقراطي" رفاق باذيب. فقال: أنتِ ستكونين معنا في التربية والتعليم.
رحمة: لماذا قال ذلك؟ هل سمعك تلقيْن خطابًا أو كلمة؟
فائقة: عملنا حفلًا وحضر، فرأى حالة تميزي كما يبدو لي، ثم ذهبنا إلى الدائرة السياسية في التربية والتعليم.
رحمة (مقاطعة): وبدأتِ معرفتك بالرئيس علي ناصر محمد من حينها.
فائقة السيد والرئيس علي ناصر محمد
فائقة: نعم.
رحمة: بعد ذلك بدأتِ في الدائرة السياسية عقب إلقاء الخطابات والكتابة وتوزيع المنشورات في سن العشر سنوات، وهنا بدأتِ تستلمين أول راتب في حياتك.
فائقة: طبعًا.
رحمة: في أي عام؟
فائقة: في عام 1974 أو75.
رحمة: وكم كان الراتب حينها؟
فائقة: تقريبًا 350 شلنًا.
رحمة: وهل كان يكفي لمساعدات الوالدة والأسرة؟
فائقة: نعم، كان مناسبًا.
رحمة: ووالدتك، ألم تقلق بعد قتل أخيك واستشهاده أنكِ كامرأة ستدخلين وتشاركين في العمل السياسي؟
فائقة: عارضوا في البداية وربما من خوف، خاصة بعد أن ألقى سالمين الخطاب التاريخي الذي قال فيه: "أطول حوار في أصغر بلاد في العالم". أذكر أن والدتي قالت: "انتظروا المشانق"، وكانت خائفة. فقلنا لها: لا توجد مشانق، والعالم كله سينهض. هذا الكلام أدى إلى توسط الروس، والحزب الشيوعي اللبناني، وعدة جهات، ليقوم حوار بين فصائل العمل الوطني والجبهة القومية واتحاد الشعب الديمقراطي (رفاق باذيب)، وحزب الطليعة الشعبية الذي كان يرأسه الأستاذ أنيس حسن يحيى. وتم الإعلان عن التنظيم السياسي الموحد: الجبهة القومية، كخطوة نحو الحزب الاشتراكي اليمني.
الرئيس سالم ربيع علي (سالمين)
رحمة: إذًا عاصرتِ جميعهم، وبدأتِ الرؤية السياسية تتشكل لديكِ. وبعدها قررتِ الذهاب إلى روسيا. كيف جاءت فكرة أن تذهبي إلى روسيا وتتركي خلفك هذا التقدم الذي بدأتِ بإنجازه في النشاط السياسي؟
فائقة: أنا كنتُ حريصة على أن تكون لدي شهادة، كل هذا لم يكن كافيًا. وأريد أن أقول لكِ إنه مبكرًا، في امتحان الثالث إعدادي وكان وزاريًا، حصلتُ حينها في اللغة العربية على 85%. وكان رئيس لجنة التوزيع بوزارة التربية والتعليم الأستاذ أبو بكر باذيب رحمه الله، قال لي عندما جاء وقت مقابلتي: "أنتِ ستذهبين مع تدريب المعلمات، لأن لغتك العربية جيدة ويمكن أن تكوني مدرسة لغة عربية"، بمعنى سيختصر حياتي. فقلتُ له: أنت تريد أن تختصر حياتي؟ لا، أنا أريد أن أدرس الجامعة. وأصر، وكان رجلًا عنيدًا. وبعدها قلتُ له سنتفاهم. وتفاهموا معه، خاصة وأنني من نفس التنظيم، وكنتُ على وشك أن أدخل اتحاد الشعب. وتفاهموا معه على أن يصرف نظر عن ذلك وأذهب إلى الثانوية. فقال: هي لن ترضى وستجلس في البيت. قالوا: لا، هي طموحة وتريد الدراسة.
ذهبتُ إلى اتحاد الشعب الديمقراطي "رفاق باذيب"، وكانوا يحصلون على منح مجانية من الروس، وكان الجميع يمكن أن يحصل عليها، أعضاء وغير أعضاء. الجميع كان يذهب، وهذه كانت ميزة عند الأستاذ عبدالله باذيب، لأنه كان يسمح للناس أن يدرسوا ويتعلموا بشكل غير مشروط. بعد ذلك ذهبنا مجموعة من الأعضاء والعضوات إلى روسيا في 1975. بعد أشهر بدأت عندي حساسية شديدة، ورقدت في المستشفى. وفي روسيا إذا زادت الحرارة على 39 يرسلون إليك سيارة إسعاف، الإنسان أثمن كنز. وبقيت في المستشفى لمدة شهر، وبعدها قالوا إن لدي حساسية من الجو. ثم سافرت إلى عدن وجلست حتى تبدأ السنة الدراسية الجديدة، وقمت بتجهيز نفسي. وأذكر حينها رتب لي الرئيس سالمين دراسة في الجزائر.
رحمة (مقاطعة): قبل دراسة الجزائر.. ما هو التخصص الذي اخترته في روسيا؟ وكم المدة التي قضيتِها هناك؟
فائقة: علاقات دولية. درست اللغة وتاريخ الحزب الشيوعي الروسي السوفيتي حينها. بقيت هناك لما يقارب السنتين.
رحمة: ثم ذهبتِ إلى الجزائر؟
فائقة: عدتُ حينها إلى عدن واشتغلت في وكالة أنباء عدن، ورافقت الرئيس علي ناصر محمد في رحلته إلى العراق والكويت، وقابلنا صدام شخصيًا.
رحمة: وكيف كان اللقاء؟
فائقة: كان لقاءً بروتوكوليًا كما هو معروف. دعانا إلى العشاء، وكان يحترم الرئيس علي ناصر محمد كثيرًا. الجميع كان يحترم الرئيس علي ناصر محمد، حتى أمير الكويت استقبلنا بحفاوة.
رحمة: وأنتِ كنتِ ترافقينه في تلك الفترة؟
فائقة: نعم، ذهبت من وكالة أنباء عدن، عندما طلبوا مندوبًا من الوكالة، قلتُ: أنا سأذهب. بعد ذلك عدت وذهبت إلى الجزائر.
رحمة (مقاطعة): لتدرسي ماذا؟
فائقة: علوم سياسية وإعلام. عندما ذهبنا إلى الجزائر، وفي اليوم الذي كنا نريد الذهاب فيه للتسجيل في الجامعة، كان هناك مسيرة ضد كامب ديفيد. حينها لم نذهب إلى الجامعة للتسجيل، ولكننا شاركنا في المسيرة (مشاغبين).
رحمة: ما الذي وجدته مميزًا في الأربع سنوات التي قضيتِها في الجزائر؟
فائقة: كانت جميلة، تعرفت على مجتمع جديد وعادات جديدة، وهي أحب بلدان شمال إفريقيا الكبيرة. وتعرفنا على حركات التحرر. كنا نحن اليمنيين نائب رئيس اتحاد الطلاب العرب، وكان الرئيس فلسطينيًا. والفلسطينيون لم يكونوا متفرغين، لأن لديهم مشاكلهم في الفصائل، فكنّا نحن نقود العملية.
رحمة: ألم تشتاقي إلى والدتك؟
فائقة: كنتُ أذهب لزيارتها، وكانت أيامًا مميزة. الجزائر جميلة، تتعرفين فيها على مجتمع متعدد: العرب والفلاحون والمدنيون والأمازيغ. كل هذا تجدينه في الجزائر، وكانت تجربة جميلة.
رحمة: وما الذي ذهب بكِ بعد ذلك إلى جنوب لبنان؟
فائقة: عندما كنا في الجزائر، كانت بالنسبة لنا مدرسة مفتوحة، تعلمكِ الثورية والديمقراطية وغيرها من الأشياء، تشبع نفسك ونهمك. مقاهي الجزائر وكافيهاتها على الطريقة الفرنسية، كنا نجلس فيها عندما لا تكون لدينا دراسة. بعد ذلك كنا كل خميس نقوم بعمل مهرجان لمناهضة الإمبريالية: "يا شباب العالم ثوروا، يا عمال يا فلاحين". وجاءت فترة الحرب والاجتياح، الطلاب والطالبات الفلسطينيون غادروا إلى لبنان، ونحن قلنا من المخجل أن نناهض بالكلام. أنهيتُ مشروع تخرجي وتركته لأصدقائي، وقلت لهم: إذا متُّ أو استشهدت، قدموه إلى الجامعة وأرسلوا الشهادة إلى والدتي. بهدوء، ودون الرجوع إلى السفارة، قطعت تذكرتي وذهبت إلى سوريا. ذهبت إلى مكتب أبو عمار. سعد كان المسؤول عن إقليم سوريا بأكمله، وتعرفتُ عليه عن طريق عباس زكي في ألمانيا. وتواصل مع عباس زكي، فقال له: اليمنية موجودة هنا.

الاجتياح الاسرائيلي للبنان

رحمة: ألم يستغرب من وجودك؟
فائقة: عباس زكي كان حينها المفوض السياسي لقوات الثورة في لبنان، وسفير فلسطين في عدن. قال له: إنها موجودة. فقال له: تمام، اصرفوا لها البطاقة وأرسلوها إلينا. وكان هناك في البقاع، وأُرسلت إلى البقاع، والتحقت هناك بدروة عسكريةحول: تركيب الألغام وتشريكها، استخدام الـRPG7، وإطلاق الـRPG7.
رحمة: هل شاركتِ عسكريًا؟
فائقة: هذه فقط كانت الدورة. كانوا جادين في التدريب، ويضربون الرصاص بالقرب من أسماعنا. وعندما أسألهم: لماذا؟ يقولون: حتى تتعودوا. كان فصيل نساء، ووجدت مجموعة من صديقاتي وزميلاتي في الجزائر. وكنا نحن في أقوى كتيبة، وهي "كتيبة الجرمق"، بقيادة الوليد سعد صائل، وهي من أقوى الكتائب. ووجدت متطوعة كويتية، قلتُ لها: ما الذي أتى بكِ؟ هي كانت مريضة، وكانت مصابة بشلل، وكنت أهتم بها.
فائقة السيد والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
رحمة: هل شاركتِ في المواجهات العسكرية؟
فائقة: كنا نمسك حراسة ونتناوب كل ساعة، حتى تصبح قصبة السلاح الحديدي باردة جداً كقطعة ثلج من شدة البرد.
رحمة: من الجيد أنهم لم يأخذوكم للتمريض.
فائقة: انتظري، لا تستعجلي. نحن دخلنا بالتمريض، وجاء متطوعون من مدينة تعز، وجاؤوا إلي في الليل وقالوا: نحن لدينا يمنيون لم نعرف كيف نعمل معهم، نريد أن نعالجهم لأنهم مرضى. أخذونا في الليل إليهم وكانت لمبة السيارة مطفأة، ورأيناهم. فسألنا: ما الذي حدث لكم؟ كان أحدهم يقول: "بي وقيص في بطني، رازم"، فقلنا لهم: عندهم آلام في البطن وربما لديهم ديدان أو أوجاع، واحد من الاثنين. اتركوا الأطباء يفحصونهم.
بعد ذلك انتقلنا إلى الخدمات الطبية لحركة فتح في سهل البقاع، وكان - رحمه الله - دكتور صديق مسؤول علينا، اسمه داوود الحسن. كنا نذهب بالأدوية إلى الشمال اللبناني، وكانت فيها مخاطرة، إلى المخيمات في لبنان. وفي إحدى المرات شعرت بالخوف، لأني رأيتهم يزغردون وآخرون يضربون الرصاص في الجو، ولم أكن أفهم ما الذي يحدث. وعندما سألت قالوا: إن لديهم شهيداً.
رحمة: كم بقيتِ في جنوب لبنان؟ ومتى عدتِ إلى عدن؟
فائقة: لم أعد إلى عدن، ولكن إلى الجزائر.
الجزائر في الستينيات
رحمة: كان ذلك قبل أن تنتهي من الدراسة؟
فائقة: نعم، وبقيت في جنوب لبنان ما يقارب الشهر أو الشهر ونصف، ثم انعقد صلح منفرد ما بين سوريا وإسرائيل عبر فيليب حبيب، الذي كان يقوم بزيارات مكوكية نشطة إلى منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص لبنان وسوريا. وعقدوا صلحاً منفرداً ووقف إطلاق النار، ونحن كان يجب أن لا نبقى، لأننا سنكون عبئاً. كان المتطوعون من كل بلد: هنغاريا، رومانيا، روسيا، وبنغلاديش. وحتى لا نبقى عبئاً، قررنا جميعاً العودة إلى حيث كنا. عدتُ إلى سوريا ومنها إلى الجزائر، وقدمت مشروع تخرجي.
رحمة: حول ماذا كان مشروع تخرجك؟
فائقة: حول الحركة العمالية في الصحافة.
بعد ذلك غادرتُ إلى بريطانيا، وأمسكوا بنا في مطار لندن، لأن آخر بلد زرته كانت سوريا. نحن ذهبنا إلى بريطانيا لأنه كانت لدي دعوة، وقلت: قبل أن أعود إلى عدن سأذهب إلى بريطانيا، لأنني لن أستطيع بعدها الذهاب من هناك إليها. الذهاب إلى أوروبا يكون سهلاً إذا ذهبت من الجزائر. ساعتين في مطار لندن وبعد ذلك أطلقوا سراحنا، ثم عدنا إلى الجزائر ومنها إلى عدن.
رحمة: بعد أن عدتِ إلى اليمن كان متبقياً أربع سنوات على أحداث 13 يناير الدامية. نريد أن نعرف كيف قاد الاحتقان الموجود إلى هذه الأحداث، وانطباعاتك حولها، ولكن في الحلقة القادمة.
مشاهدينا، نلقاكم في الحلقة الثانية من مذكرات الأستاذة فائقة السيد.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)

الكلمات الدلالية