صنعاء 19C امطار خفيفة

قطر بين دعم القضية الفلسطينية وتوظيفها في صراعات الآخرين

تظل القضية الفلسطينية دائمًا الميدان الذي تتنافس فيه الدول لإثبات شرعيتها أمام شعوبها، خصوصًا في اليمن شمالًا وجنوبًا، رغم غياب مؤسسات الدولة، وما أقدمت عليه قطر خلال العقدين الأخيرين تجاوز حدود الدعم السياسي أو الإنساني إلى تورط مباشر في تمويل جماعات مسلحة تُصنَّف في نظر العالم متطرفة أو إرهابية.

هذا التهور الذي سعت إليه الدوحة عبر المال والإعلام، جعلها تبدو كأنها الراعي الرسمي للقضية، بينما في الواقع قدمت لإسرائيل فرصة ذهبية لتثبيت روايتها، حتى باتت غزة في نظر الأنظمة العالمية مأوى للإرهاب، في الوقت الذي تجوب فيه المظاهرات الدولية الشعبوية شوارع العواصم رفضًا للجرائم والإبادة ضد أبناء القطاع.
فأي هجوم على حماس أو غيرها يصوَّر على أنه حماية للأمن القومي العالمي، لتحصل إسرائيل على الغطاء السياسي الذي يبرر أكثر بجاحة عملياتها، بما فيها الاغتيالات الأخيرة التي اخترقت كل اعتبارات السيادة، وسط صمت دولي يصور الأمر باعتباره حربًا على التطرف، وصولًا إلى العملية الأخيرة في الدوحة، ولا نعلم من التالي.
الدور القطري لم يكن معزولًا، بل ارتبط عمليًا بشبكة إيرانية تمتد من اليمن إلى لبنان، حيث يغطي المال القطري الكلفة السياسية والإعلامية، بينما توفر إيران السلاح والخبرة والتكنولوجيا، في اليمن تحولت هذه الشبكة إلى دعم مباشر للحوثيين، حرب استنزاف لا تنتهي سعت إلى تعطيل فرص السلام، فأحرقت البلد، ودفعت المجتمع إلى اقتصاد التهريب والمخدرات والمال الأسود، وأعطت فرصة لنهب الثروات والتراث، وفي غزة تكررت الصورة نفسها سابقًا إلى أن أصبحت منطقة محروقة ومجبرة على الترحيل، حيث حصلت حماس على تمويل يغطي وجودها الإعلامي والسياسي، وتسليح إيراني يحافظ على قدرتها الصاروخية. لكن هذا التوازن الهش سمح لإسرائيل بلعبتها المفضلة، وهي الاغتيال الانتقائي والتوسع الاستيطاني.
العملية الأخيرة ضد قيادات الصف الأول في حماس عكست هذه المعادلة بوضوح، فإسرائيل لم تكن تسعى للقضاء على الحركة كليًا، بل للتخلص من الأصوات الأكثر تشددًا، وفتح الباب أمام وجوه أكثر براغماتية تقبل بفكرة غزة منزوعة السلاح مقابل بعض التسهيلات الاقتصادية وصفقات الأسرى. المفاجأة منحت العملية وزنًا استثنائيًا، لكنها في الوقت نفسه كشفت كيف تحوّل الدعم القطري إلى فخ. فقد تصورت الدوحة أن تمويلها يحمي تلك القيادات، ويمنحها موقع الوسيط في ملف الأسرى، ليس هي فحسب، بل انضمت مصر لاحقًا لتفكيك الأزمة وحماية حدودها، لكن في حقيقة الامر استغلت إسرائيل الأمر كذريعة، وأظهرته كموضع ضعف، وذلك باختراق صارخ للسيادة القطرية، لتفرض منطقها بلا خشية من رد.
وفي الواقع، ورغم الإدانات العربية لهذا الاختراق، لن تجرؤ قطر على الرد، فلديها الحوثيون الذين يتولون هذه المهمة بعمليات لا تمس الصف الأول لجماعة الحوثي، وإنما تستهدف واجهاتها السياسية التي مثلت عائقًا لمصالح فساد الحوثيين ومواقع الخدمات التي يعيش عليها المواطنون في مناطق سيطرتهم.
الدعم المالي الذي يتدفق عبر بعض قنوات تلفزيونية في صنعاء، بمساندة قطرية، لم يقف عند هذا الحد، بل حتى السعودية وجدت نفسها تضخ أموالًا للحوثيين لتأمين حدودها، فيما اليمنيون من الشمال إلى الجنوب يدفعون الثمن وبلا رواتب، فععذرهم الوحيد هو مواجهة إسرائيل التي يفترض أنها "قضية الأمة"، لم تجلب سوى مزيد من الفوضى الداخلية والعزلة الدولية، وتحولت مناطق الجماعة إلى مرتع لتجارة السلاح والمخدرات، بينما جرى استنزاف ونهب موارد بلد كامل، وتعكير السلام تحت شعار فلسطين.
الولايات المتحدة من جانبها تواصل غض الطرف عن هذه المفارقة، فهي المستفيد الأول من وجود قطر بصفقات القواعد العسكرية والاستثمارات، في الوقت الذي تواصل فيه تصوير إيران كتهديد وجودي بالرغم من المفاوضات بينهما في خط مفتوح إلى نهاية العام، غير أن الواقع يظهر تقاطعًا عمليًا بين الدوحة وطهران؛ الأولى تدفع المال الإعلامي والاستثمارات وتغطي الكلفة، والثانية تقدم السلاح والخبرة، لتجد واشنطن نفسها أمام معادلة تسمح لها بالاستفادة من الجميع في آن واحد. هذه الازدواجية منحت قطر هامشًا واسعًا للحركة، لكنها أسهمت في تعقيد الأزمة الإنسانية بدل حلها، بينما بقيت إيران المستفيد الأكبر، لأنها تمسك بورقة السلاح والتمويل معًا، وتستثمرها في تفاوضها مع واشنطن وتل أبيب.
المحصلة أن اندفاع قطر لم يخدم الفلسطينيين، بل خدم إسرائيل بشكل مباشر، فقد وفّر لها المبرر لتصوير المقاومة على أنها "إرهاب ممول"، وأتاح لها تنفيذ عمليات اغتيالها العلنية تحت شعار مكافحة التطرف. القصف الأخير لم يكن مجرد اغتيال لقيادات حماس، بل محطة فارقة رسخت فكرة أن السيادة القطرية نفسها قابلة للاختراق بلا تكلفة، ومن يبالغ في اللعب بالأوراق لا يملك في النهاية سوى مشاهدة خصومه يستخدمونها ضده.
التوقعات للمشهد المقبل لا تحمل كثيرًا من الاستقرار، إسرائيل ستواصل سياسة الضربات المركزة بعدما أثبتت فاعليتها، وحماس ستدخل مرحلة إعادة تشكيل داخلية تفرضها خسارة قادتها، وقد تنتهي بنسخة أكثر براغماتية، قطر ستضاعف من تمويل إعلامها في المنطقة لتثبت أنها لم تُهزم، الحوثيون سيواصلون ادعاء المشاركة في معركة فلسطين، بينما اليمن سيدفع الثمن الحقيقي عبر فوضى اقتصاده ومجتمعه، وإيران ستبقى الرابح الأكبر لأنها تجمع بين السلاح والمال، وتستثمرهما كورقة تفاوضية مع الولايات المتحدة وإسرائيل لحلحلة أزماتها. أما القضية الفلسطينية فلم تعد المستفيد الأول للأسف، بل على أرض الواقع المسار السياسي تحول إلى الخاسر الأكبر بعدما استغلتها إسرائيل لتظهر كضحية للإرهاب أمام الأنظمة العالمية، وتمارس مزيدًا من البجاحة في ضرباتها، وستبقى غزة من تدفع الثمن أولًا، وجر اليمن إلى مسار معطل داخل لعبة الرد الهش، والأهم من ذلك أن العراق أيقن أنه لن يخوض في هذه المهزلة، وجر دولته إلى حرب هي الأخرى، لأنه وصل إلى الاستقرار السياسي.

الكلمات الدلالية