صنعاء 19C امطار خفيفة

من الثورة إلى التشويه: التاريخ يشيطن أبطاله(1-6)

لو كان للتاريخ حسّ فكاهة لكان ضحك طويلًا على مفارقة اليمن.. كل ثورة تنجح تلد قاتلًا لأبطالها. التاريخ في اليمن ليس مرآة تعكس الحقيقة، بل شاشة تعرض رواية كتبها المنتصرون وموّلتها السلطة. وما من ثائر خرج ليغيّر المعادلة إلا وانتهى إمّا مذبوحًا في فراشه أو مذبوحًا في ذاكرة الناس. والنتيجة واحدة، السلطة تنجو، والثورة تتحوّل إلى حكاية وعظية عن عاقبة التمرد.

من عبهلة العنسي الرجل الذي أصرّ أن يكون سيد مصيره، فتحوّل من بطل طرد الفرس، وثائر رفض دفع خراج صنعاء إلى يثرب، إلى "نبي أسود" يُروى مقتله كفتح مبين.. مرورًا بعلي بن الفضل الذي كتب فصلًا جديدًا لليمن قبل أن يُكتب عليه فصل من الشيطنة، والحسن الهمداني الذي قرر أن يكتب تاريخ اليمن قبل أن يكتبه الهادي، ثم نشوان الحميري الذي حمل معجمه كمن يحمل بندقية فكرية ليعيد تعريف معنى "اليمني" خارج قوالب الإمامة، وصولًا إلى عبدالرقيب عبدالوهاب، أيقونة حصار السبعين الذي انتصر ثم سُحل ودُفع إلى حتفه، وكأن اليمن لا يطيق أن يترك لأبطاله شرف النجاة بعد المعركة.
التاريخ اليمني ليس رواية عن الثورات بقدر ما هو رواية عن الخيانة. الثورة عندنا تبدأ بالقصيدة وتنتهي بالمرثية.. أبطالنا لا يموتون في المعارك، بل في غرف مغلقة، ولا يغيبون عن الذاكرة إلا حين يحاولون قتل ذاكرتهم مرتين.
العجيب أن كل هذه الحكايات، مهما غُلّفت بالمداد الأسود، تبقى تتسرّب من بين أصابع التاريخ الرسمي كالماء. فاسم عبهلة مازال يثير الحيرة، وابن الفضل مازال يطلّ من شقوق المخطوطات كظلّ يرفض أن يُمحى، والهمداني مازالت كتبه تقضّ مضاجع المتعصبين حتى بعد ألف عام، ونشوان الحميري مازال يلقي قصائده في آذاننا كلما حاولت سلطة أن تقول إن الحق محصور في البطنين. أما عبدالرقيب عبدالوهاب، فصورته لاتزال ترفرف في ذاكرة صنعاء كأنها راية على حصن لم يسقط.
ربما هذا هو سرّ اليمن، أن الثورة عنده لا تموت حتى لو قُتل الثوار. تظل كالنخلة التي قُطعت جذوعها فتنبت من جديد.. كل قرن يخرج ثائر جديد، يعرف مسبقًا أن نهايته ستكون الخيانة، لكنه يخرج على أي حال. وكأن اليمن يريد أن يثبت للعالم أن البطولة ليست في الانتصار، بل في الإصرار، وأن الدم إذا سفك ظل يكتب، حتى لو كان الحبر خصومًا وحكامًا.
إنها محاولة لاستعادة الأصوات التي جرى خنقها، والوجوه التي طُمست ملامحها عمدًا. محاولة لكتابة الهامش بحبر جديد، محاولة لإعادة الاعتبار لأولئك الذين لم يطلبوا أكثر من أن يكون اليمن لليمنيين، فإذا بالتاريخ الرسمي يحوّلهم إلى شياطين.
الثوار في اليمن لا يموتون فعلًا، بل يتحولون إلى فكرة تنتظر قرنًا آخر لتخرج من جديد.. ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال عنهم أنهم السطر الذي لم يُمحَ في دفتر التاريخ، حتى لو كُتب فوقه ألف كذب.. إنهم الحكاية التي تظل تعيد كتابة نفسها كلما حاولت السلطة تمزيق الصفحة.

الكلمات الدلالية