صنعاء 19C امطار خفيفة

التحولات شرقاً وتداعياتها على المركز القانوني للدولة اليمنية

التحولات شرقاً وتداعياتها على المركز القانوني للدولة اليمنية
قوات تابعة للمجلس الانتقالي

شهدت المحافظات الشرقية في اليمن، وتحديداً حضرموت والمهرة، خلال الأيام الماضية سلسلة تحركات عسكرية وسياسية للمجلس الانتقالي الجنوبي شكّلت نقطة تحول حقيقية في مسار الأزمة اليمنية.

حيث تمكن المجلس الانتقالي من فرض السيطرة على محافظتي حضرموت والمهرة. وشملت سيطرة الانتقالي على مؤسسات حكومية وأمنية، فضلاً عن مناطق استراتيجية كآبار النفط والموانئ والمنافذ الحدودية؛ الأمر الذي يقلّص فعلياً من رقعة نفوذ الحكومة الشرعية في تلك المحافظات.
استجابة لذلك، غادرت الحكومة المعترف بها دولياً — جزئياً على الأقل — العاصمة المؤقتة عدن، في إشارة احتجاجية على ما وصفته بـ“تمدد نفوذ الانتقالي” خارج إطار الدولة.
في حين كشف رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي عن موقف رسمي، حذّر فيه من أن “الإجراءات الأحادية” للانتقالي تمثل “تقويضاً للمركز القانوني للدولة” وتهديداً لوحدة القرار الأمني والعسكري.
في المقابل، يرى الانتقالي سيطرته على حضرموت والمهرة جزءاً من مشروعه السياسي؛ الأمر الذي يعني أن هذه السيطرة لا تُعد “انقلاباً” بل “تحريراً” في نظره. وهي في واقع الحال شرعية موازية، بحكم الأمر الواقع، للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً.
كل ذلك يقود إلى نتيجة حتمية، هي أن الحكومة لا تزال تحتفظ بشرعيتها، لكنها فقدت السيطرة الفعلية على مناطق واسعة من الجغرافيا اليمنية؛ صار معها المركز القانوني للدولة هشّاً.
هذه التحولات لم تعد مجرد إعادة تموضع تكتيكي، بل تمثل انتقالاً لنفوذ المجلس الانتقالي من الجنوب التقليدي (عدن–لحج–الضالع–أبين) إلى مناطق ظلت بعيدة عن الاستقطاب، بل كانت آخر المساحات التي حافظت فيها الحكومة الشرعية على حد أدنى من المركز القانوني والمؤسسي لها.
ما يجري شرقاً يعيد تشكيل معادلات القوة، ويؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها “المركز القانوني للدولة” أمام اختبار غير مسبوق؛ إذ باتت سلطة الأمر الواقع تتقدم على الشرعية الدستورية في مناطق إضافية، في ظل عجز الحكومة عن فرض سيادتها أو حتى التعبير عن موقف حاسم تجاه هذه التحركات. وكانت قد فقدت من قبل مناطق واسعة في شمال البلاد، التي باتت تحت سيطرة القوات الحوثية الانقلابية.

المشهد العام في المحافظات الشرقية

يتلخص المشهد العام في المحافظات الشرقية بتحوّل في ميزان السيطرة، لجهة توسع الانتقالي نحو ساحل ووادي وصحراء حضرموت والمهرة.
هذا التوسع لم يكن حركة منعزلة، بل جاء في سياق الفراغ السياسي والأمني المتراكم لسنوات، وتراجع نفوذ الحكومة المعترف بها دولياً، مع قبول ضمني من بعض الأطراف الإقليمية، يقابله انقسام داخلي في القوى المحلية بين قبول ورفض أو حياد مربك.
وكل ذلك كان نتاجاً طبيعياً لانفراد وهيمنة حزب الإصلاح وعلي محسن الأحمر على القوات الأمنية والعسكرية في نطاق المنطقة العسكرية الأولى، الواقعة ضمن النطاق الجغرافي الجنوبي، مع فرض سيطرة محكمة على مناطق الثروة، خصوصاً النفط.
هذا الواقع جعل الجنوب والمحافظات الشرقية، التي كانت تعد آخر “معقل” للدولة، تدخل في دائرة الصراع الجنوبي–الشمالي، ويعيد للأذهان نتائج الحرب الظالمة على الجنوب في 1994م، والاجتياح الحوثي للجنوب في 2015م، وهيمنة المركز الشمالي.

أثر التحركات على المركز القانوني للدولة

التحركات الأخيرة للانتقالي في حضرموت والمهرة أضعفت المركز القانوني للدولة بشكل ملحوظ، لأنها نقلت الصراع إلى نطاق أوسع في الجنوب، عنوانه البارز تآكل السيادة المكانية للشرعية.
فضعف الدولة لا يعود لغياب القوة فقط، بل لغياب القدرة على التعبير القانوني عن سيادتها في الواقع؛ اليوم تتراجع سلطة الدولة في المنافذ البرية والبحرية، مع فقدانها القرار الأمني والعسكري والتعيينات والإدارة المحلية والتحكم في شبكات الموارد والجباية، ويقابل ذلك صعود نموذج “سلطة الأمر الواقع”.
إن تعدد سلطات الأمر الواقع في نطاق السيادة المكانية للشرعية تسبب في ازدواجية السلطة، وتراجع الاعتراف الداخلي بها لصالح سلطات بديلة تمتلك أدوات فعلية، تتحول معها الشرعية إلى مركز رمزي.
ومع تفكك القدرة التنفيذية تصبح الشرعية “قانوناً بلا تطبيق”، وهو ما يخلق فجوة خطيرة بين الاعتراف الدولي والممارسة المحلية للسلطة.
باختصار: تحركات الانتقالي أضرت بشكل كبير بما يُفهم تقليدياً من المركز القانوني للدولة في اليمن — (السيادة، الشرعية، الوحدة، المؤسسات، احتكار القوة) — وباتت الدولة تواجه واقعاً خطيراً يجعلها في حالة ضعف شديد، وموضع صراع على النفوذ والسيادة.

السيناريوهات المحتملة

السيناريو الأول: ترسخ واقع تعدد سلطات الأمر الواقع داخل دولة واحدة (الأكثر احتمالاً)
يتعزز نفوذ الانتقالي شرقاً مقابل شرعية ضعيفة. وبالتالي تكون النتيجة سلطة شرعية دون سيطرة واقعية، وانقسام سياسي–عسكري طويل الأمد، يعزز معه المجلس الانتقالي من سلطة الأمر الواقع دون إعلان رسمي. كما يساهم في شرعنة وتكريس الانقلاب الحوثي وتعزيز سيطرته على المناطق الشمالية.
السيناريو الثاني: تسوية سياسية جديدة تعيد توزيع السلطة (احتمالية متوسطة)
قد تواجه السلطة الشرعية ضغوطاً سعودية ودولية لإعادة هندسة المشهد اليمني، نتيجتها إشراك الانتقالي ضمن ترتيبات أمنية وإدارية رسمية، وبروز شكل شبه فدرالي غير معلن، لتعود معه السلطة الشرعية كمظلة شكلية فوق سلطات متعددة.
السيناريو الثالث: صدام سياسي أو أمني محدود (احتمالية منخفضة)
في هذا التوقع قد تبرز مقاومة قبلية أو حكومية في المهرة ووادي حضرموت، تحدث توترات موضعية سرعان ما يتم احتواؤها إقليمياً، لكنها في المحصلة تمثل خسارة إضافية للدولة، خاصة إذا بدت عاجزة عن فرض قرارها.

المواقف الدولية والإقليمية

1. السعودية: القلق الهادئ ومعادلة الحدود شرقاً
تنظر السعودية إلى تحركات الانتقالي في حضرموت والمهرة من زاويتين:
رغبة في استقرار حدودها الشرقية.
وحاجة إلى شريك جنوبي قوي ضمن حدود معينة.
لا تمانع بنفوذ جنوبي محدود في حضرموت ما دام لا يهدد الوادي أو مراكز النفط، بينما تمثل المهرة حساسية خاصة لارتباطها بالأمن الحدودي والبحري.
الأثر القانوني:
السعودية لا تريد انهيار الدولة، لكنها تريدها قابلة للضبط. وأي شرعية مستقبلية تمر عبر الرياض.
2. الإمارات: الداعم الرئيسي للانتقالي و“هندسة الجنوب”
ترى الإمارات في الانتقالي مشروعها السياسي الأكثر نضجاً وتستثمر في بناء كيان جنوبي مستقر. وتعد السيطرة على حضرموت والمهرة خطوة لازمة لمشروع “الجنوب الكلي”.

الأثر القانوني:

يتقوض المركز القانوني للدولة لصالح مراكز محلية تمتلك شرعية القوة والدعم.
3. سلطنة عمان: الحذر من أي قوة جنوبية على حدودها
أولوية عمان هي حماية حدود ظفار ومنع تمدد أي نفوذ مسلح جنوبي قريب منها.
وقد ترد على تمدد الانتقالي في المهرة بدعم قوى محلية أو عبر الوساطة.

الأثر القانوني:

أي توتر سيدفع عمان لتقوية فكرة الدولة المركزية اليمنية.
4. الولايات المتحدة: منع الانهيار لا دعم المركزية
تركيز واشنطن على منع فراغ أمني قد تستفيد منه الجماعات المتطرفة. ولا تعارض الترتيبات التي توفر استقراراً نسبياً.
الأثر القانوني:
يدعم هذا موقف “سلطة الأمر الواقع” على حساب الدولة المركزية.
5. بريطانيا: بين التاريخ والمصالح
تتابع لندن المشهد دون تدخل مباشر، وتميل لدعم حلول تضمن الاستقرار.
الأثر القانوني:
قد تلعب دور الوسيط لكنها لن تمنح شرعية لكيانات بديلة عن الدولة.
6. الأمم المتحدة: “شرعية الدولة” خط أحمر
الأمم المتحدة لا تستطيع قانوناً الاعتراف بكيانات موازية، لكنها عملياً تتعامل معها لضمان استمرار العمليات الإنسانية.
الأثر القانوني:
ازدواجية بين الاعتراف القانوني بالدولة والتعامل العملي مع سلطات الأمر الواقع.

الخلاصة

ميزان القوى الخارجي يعيد تشكيل الدولة اليمنية دون إسقاطها.
السعودية والإمارات ترسمان شكل النظام اليمني القادم: دولة متعددة المراكز.
عُمان ترفض تمدد الانتقالي نحو المهرة.
واشنطن ولندن تضعان الاستقرار أولاً.
والأمم المتحدة تتمسك بالشرعية لكنها عاجزة عن فرضها.

خلاصة تحليلية

ما يحدث في حضرموت والمهرة ليس مجرد توسع عسكري، بل إعادة صياغة لتموضع قوى النفوذ على حساب الدولة اليمنية نفسها. فالدولة التي كانت تعتمد على شرعيتها القانونية أصبحت بلا أدوات تنفيذية، والقوة الجنوبية التي كانت محدودة أصبحت فاعلاً يمتلك مشروعاً سياسياً وغطاءً إقليمياً وقدرة على فرض معادلات جديدة.
وفي ظل البراغماتية الإقليمية والدولية، يبقى المركز القانوني للدولة هو الطرف الأكثر تضرراً، مع ضعف قدرتها على المبادرة أو الدفاع عن ما تبقى من نفوذها.

توصيات استراتيجية

للحكومة الشرعية:

بناء استراتيجية “استعادة الوظائف” قبل “استعادة المساحات”.
بناء تحالفات محلية في جنوب اليمن ومأرب وتعز.
إعادة دمج الانتقالي والمقاومة الوطنية ضمن إطار مؤسسي.
الضغط لإعادة هيكلة القوات تحت قيادة موحدة.
القضاء على الفساد وإصلاح الاختلالات المالية والإدارية.

للمجلس الانتقالي:

تجنب التمدد الصدامي.
تعزيز مؤسسات الدولة وليس القوة وحدها.
اتباع مسار قانوني–توافقي مع الشمال.

للإقليم:

دعم استقرار الجنوب دون خلق حالة انفصالية متفجرة.
دعم الشرعية في مناطق سيطرتها.
دعم التنمية وتحسين الوضع الاقتصادي وإعادة الإعمار.

الكلمات الدلالية