الإعاشات أولاً... والبقية إلى الجحيم!
في بلادٍ أنهكها الفقر، وأثقلتها الحروب، وصار فيها تنفس المواطن مكلفًا كالأكسجين في غرف العناية المركزة، تظهر الدولة -ببسالةٍ نادرة- لتقول لنا:
"اطمئنوا، الإعاشات بخير!".
فمن قال إننا بحاجة إلى مراكز غسيل الكلى؟ أو طلاب علم؟ أو دفاع مدني ينقذ ما تبقى من أرواح بين الركام؟ لا يا سادة... الأولوية لمن يعِش! وليس لمن "يُنعَش"!
الاقتصاد المقلوب
حين تصبح الإعاشة بندًا ثابتًا في موازنة حكومة لا تملك حتى ثمن كيس دم لمريض، فنحن لا نتحدث عن اقتصاد دولة، بل عن بازار مفتوح للمحاباة والفساد.
فالموازنات تُعدّ، والمليارات تُرصَد، لا للمستشفيات ولا للتعليم ولا حتى للجيش، بل لـ"السادة" الذين لا يتحملون مشقة البقاء بدون مخصص شهري لتغذية بطونهم المنتفخة من أموال الفقراء.
مكافآت، وجبات، مصاريف نثرية، مخصصات إعاشة... لكل شيء إلا الحياة.
في بلد يموت فيه طفل كل 10 دقائق (وفقًا لليونيسف)، لا بأس إن عاش مسؤول واحد بكل وسائل الرفاهية الممكنة. المهم أن الحساب البنكي منتعش، حتى لو كانت أجهزة الإنعاش معطلة.
المجتمع الميت سريريًا
المجتمع اليمني لم يمت فجأة، بل دخل غرفة الإنعاش منذ سنوات، والآن يصارع الموت الاجتماعي ببطء مقصود.
تُقفل مراكز الغسيل الكلوي بسبب انعدام التمويل،
تُرك الطلاب اليمنيون في الخارج يبيعون "الشلل اليمني" في شوارع الغربة،
يموت الناس أمام بوابات الطوارئ لعدم وجود إسعافات...
كل ذلك، مقابل ماذا؟
مقابل أن تُصرف إعاشات شهرية لمسؤولين لم يتحملوا يومًا صيام فكر أو عطش مسؤولية.
حتى باتت الدولة تمارس شكلاً جديدًا من الرعاية الاجتماعية: رعاية الفاسدين اجتماعيًا!
السياسة في خدمة "المعدة الوطنية"
في السياسة، يُفترض أن تكون الأولويات لصيانة السيادة، تقوية الجيش، دعم الدبلوماسية، وتعزيز القضاء...
لكن في النسخة اليمنية، السيادة تُؤكل، ولا تُحمى!
والجندي الذي يدافع عن الجبهة، يتقاضى نصف راتب كل ستة أشهر، بينما مسؤول في وزارة شبه منقرضة يتقاضى إعاشة كاملة ومكافآت سفر حتى لو لم يغادر سريره.
أصبحت الوظيفة العامة صفقة إعاشة، وليست خدمة عامة.
الوزارات الخدمية تئن، التعليم يُذبح، الصحة تذوب، بينما الوزارات السيادية في توزيع الإعاشة تعمل بكفاءة سويسرية!
فساد بطعم اللحم المشوي
الطريف أن هذه الإعاشات تُصرف أحيانًا تحت بند "الضيافة"، وكأن الوطن صار ضيفًا ثقيلاً على طاولة بعض المسؤولين، يحتاج إلى كرم لا حدود له...
فيأكلون على اسمه، ويشربون نخب دمه، ثم يتهمون المواطن بالتقصير في الوطنية!
ولأن "الأمن الغذائي" بات يُقاس بعدد وجبات المسؤول اليومية، فقد صعدت الإعاشات إلى رأس قائمة أولويات الصرف، بينما ماتت الخدمات العامة شبعًا من الإهمال.
في الختام: لا عزاء للأولويات
دعونا نعيد ترتيب الدولة، كما يبدو من الواقع لا من الخيال:
1. الإعاشات
2. الإعاشات
3. الإعاشات
4. ما تبقى من الدولة... إن تبقى شيء.
فمن يعيش يأكل، ومن لا يأكل... يموت بصمت، أو يعيش ليأكل الوجع.
تنويه ساخر، لكنه صادق:
إذا كنت من المتفاجئين بترتيب الأولويات، فأنت إما مواطن نزيه بلا واسطة، أو طالب مبتعث ينتظر الحوالة منذ ثلاث سنوات.
وفي كلا الحالتين، نواسيك بهذه الجملة الشهيرة:
"مخصصاتك تحت الإجراء، والأولوية حالياً للإعاشة!".