صنعاء 19C امطار خفيفة

الملثم

الملثم

أبو عبيدة سيظل رمزًا للقوة والتحدي عبر أجيال كثيرة، فلم يكن مجرد ناطق، ولن يُحسب البتة على فصيل ما؛ إنه صورة للفدائي والعربي الصاعد من أغوار اللهب.

ملايين وملايين عربية وغير عربية تتمنى أن تكون شيئًا، ووجدت بعضًا من غليانها يصعد ويتشكل في ملامح أبي عبيدة.
إنه مرحلةٌ وعصرٌ من الموت والظلم والقوة المُبتغاة. في البدء، لم يستسغ البعض لثامه وكنيته، باعتباره حالةً مجتزأةً من ظاهرة الجماعات الإسلامية المفخخة، لكنه سرعان ما بدد هلام وأهوال الساسة والدخلاء، وحوّل مخاوف المرتابين إلى ثبات غير متوقع.
لم نعد كعرب نملك من العروبة والإسلام شيئًا، وبتنا فرضيةً منسية في متلازمة حمقاء تغرز أنيابها بداخلنا كأمةٍ سلمت نفسها للشيطان سرًّا وجهرًا.
أما أبو عبيدة فقد ملأ فراغًا واسعًا في أمة متصدعة، واستطاع أن يقضي على مسلّماتنا الذليلة بصوتٍ يزداد إباءً وعزّة، وتحولت شخصيته إلى فتوّةٍ مُلهمةٍ لملايين مازالت تنتظر الفرصة كي تحمل السلاح وتثب دفاعًا عن كرامةٍ عربيةٍ مستباحة.
إنه عصر "أبو عبيدة" بلا منازع؛ عصر المواجهة المثخنة بالخذلان، عصر الصمود الفردي والخيار الفردي للتعبير عن أمةٍ لم تتمكن من الكلام ولا حتى من الاختيار.
وسواء استُشهد أبو عبيدة أو بقي، فالمعادلة لن تتغير، وستبقى الحرية حكرًا لمن طلبها ويطلبها بصوتٍ عالٍ، وستبقى الحياة برمتها ككيانٍ مجلجلٍ لا يهمد أبدًا، وستبقى صورة الملثم حقبةً وتاريخًا ونبرةً عصيّة، مهما تواترت الغوايات والخِيانات والإغراءات، فلن تزيدها إلا عظمةً وخلودًا.
من هناك، وعلى تراب غزة والجليل ورام الله وبيت لحم، وفي كل فلسطين، وُلد الأنبياء، ومضى كلٌّ في رسالته، قصصٌ أتت وولدت في الأضغاث نفسها، حاملةً الراية ذاتها: راية الحق والعدل والحرية.
وكلما سقط نبيٌّ، تفتقت رايات، وكُتبت رسالات.
لم تعد المعركة دينيةً ولا سياسية، ولن يُحسب هذا الاستبسال النادر إلا كشعلةٍ للحق الإلهي، والتي أوقدها أبو عبيدة ورفاقه في لحظة مبايعة الإنسان لنفسه، كوثيقةٍ وتوثيقٍ لتحول البشرية وانعطافها لولادة زمنٍ جديدٍ مختلف قد تتشابه حيثياته مع تضحيات ويليام والاس، وسيدني كارتون، وتاراس بولبا، وبابلو نيرودا، لكنها ستغدو الأعظم إيمانًا، والأكثر فداحةً وقسوةً على مرّ العصور والأزمنة.

الكلمات الدلالية