هل سيصبح قرار رئيس الوزراء بإنهاء الإعاشة زوبعة في فنجان؟
يقال: في الشدائد كل واحد يعصب على بطنه، بمعنى أن يتكيف مع أوضاع ومعاناة لم يعهدها، وأن يتعفف ويعتمد على نفسه في حل مشاكله. القيادة الأمينة على مصالح الناس، كل الناس، تصبح في ظرف كهذا محل امتحان، ولا بديل لها إلا أن تكون القدوة في التقشف والحث عليه، والحرص على المال العام والشفافية في إنفاقه. ما فعلته القيادة هو العكس، فقد أدت سياستها إلى إثراء غير مشروع لقلة منتقاة تعيش في الخارج، ولم تظهر ما هو متوقع منها من حرص على المال العام المقدس، الذي عليها إنفاقه للضرورات القصوى العامة، ولا تُعين إلا المستحق وفي أضيق الحدود. لقد بلغ الاستهتار بالمال العام أن البعض يتسلم ثمانية آلاف دولار كإعاشة شهرية وهو يعيش في مصر، بما يعني أن مصروفه اليومي يساوي ثلاثة عشر ألف جنيه مصري، وهذا ليس المرتب اليومي لرئيس جمهورية مصر في أي عصر.
عشنا لعقود نتحدث عن العبث بالمال العام والبعد عن العدالة في توزيعه بشكل خدمات، على رأسها التعليم والخدمات، وكان هذا ديدن كل الأنظمة باستثناء نظام الشهيد الحمدي الذي لم تتحمله مراكز الفساد ومساندوها، وتكاتفت لاغتياله.
من أسباب هدر المال العام شعور الحاكم بالضعف، وخاصة في بداية عهده أو بضعف شرعيته، أو أن له سجلاً في الفساد لا يستطيع الحياد عنه، مضافًا إلى ذلك عامل مهم هو عدم تقدير الناس لقيمة المال العام ودوره في النهوض بأحوالهم الخاصة والعامة، وانتظارهم للحساب وللتعويض في الحياة الأخرى. في اليمن تتناسل وتتنوع قوى الفساد، ويمثلها اليوم أصحاب الياقات البيضاء... فقراء الضمير الجدد الذين تشدوا ألسنتهم بالوطنية حيثما حلوا.
كانت "الإعاشة" في "العهد البائد"، ثم في "العهد الجمهوري"، تُقرر لقلة من الفقراء، وكانت في غالب الأحيان تمنح بشهادات تؤكد فقر طالبها أو طالبتها، وشملت في الغالب الأسر التي لا عائل لها.
أما إعاشة اليوم فلإثراء نخب جديدة هي من مخرجات عاصفة الحزم التي تحولت إلى عاصفة أمل، ثم سراب وتقسيم للوطن نصمت عنه ونكرر الشكر لمرتكبيه.
وكانت الإعاشة للمشايخ مستنكرة من قبل من حلوا محلهم اليوم، وكان لأولئك مؤسسة حكومية علنية ترعاهم هي مصلحة شؤون القبائل، وقد بلغت آخر ميزانية سنوية لها عام 2013 ثلاثة عشر مليار ريال. وفي عام 2013 أقسم رئيس وزراء أنه لن يصرف الميزانية، ولكن الضغوط كانت أقوى من إرادته.
أقرب تعريف للأثرياء الجدد أو "نوفو رِش"، أنهم أمراء حرب، عوضًا عن تجار الحروب، وهو الأكثر قسوة، ويشمل منتهزي فرص الحروب للإثراء غير المشروع، ومنها عندنا الصمت على تجزئة اليمن.
الإعاشة الزائدة عن الحاجة ولغير مستحقيها تتم بالانتقاء لكسب الولاء، رغم أنها تعني النكث بقسم دستوري على المصحف الشريف من مانح يفترض فيه أن يكون أمينًا على المال العام. ولكنه بحكم التاريخ الطويل للعبث به، وربما لسجله هو، يرى نفسه حرًا في التصرف فيه، لأنه لا يخضع اليوم كما لم يخضع أسلافه لأي نوع من أنواع الرقابة. لقد كان من أسباب الانفصال الاختلاف الحاد بين طرفي الوحدة حول كيفية ضبط التصرف في المال العام، ووفق أسس علنية شفافة تسير عليها حتى دول تقودها أسر، كما هو الحال في الكويت.
لقد ظن المانح أن شأن حرب العاصفة سيظل فاتحًا خزائنه، أو أن الحرب لن تطول، وأنه سيتوج بصنعاء على أسنة رماح الأجنبي. نحن اليوم في عام العسر الأخلاقي والسياسي والمالي الحادي عشر، وفي كل هذه السنوات تاهت الرغبة السياسية للتصحيح المالي. لهذا السبب رأى البعض أن ما بادر به رئيس الوزراء الجديد سالم بن بريك خروج عن المألوف المعوج.
ردود الفعل:
قوبل التصحيح المحدود لرئيس الوزراء بمقاومة علنية وخفية. على المستوى المؤسسي وصف البعض الإعاشة بالحق المكتسب، وسيكون الأمر كذلك إذا اتسمت بالشمول لكل موظفي الخدمة المدنية وفي حدود ما تعنيه كلمة الإعاشة. مثلًا: من يقيم في مصر، إذا لم يكن قد اشترى له سكنًا من المال العام، يكفيه مبلغ ألف ومائتي دولار، أما من لديه سكن ففي الستمائة دولار الخير والبركة. وعلى المستوى غير الرسمي وُصفت مبادرة رئيس الوزراء بأنها تخدم أنصار الله، الحوثيين، مع أن العكس هو الصحيح، لأن الفساد هو الذي يوفر فرص التخادم بين الخصوم.
لقد قرع الجرس قبل رئيس الوزراء محافظ البنك المركزي ومدير البنك الأهلي بعدن، وقد كشف الأول أن الإيرادات تتسرب كتسرب الماء في رمال الصحراء إلى خارج البنك المركزي بالمليارات، ولم يُتخذ أي إجراء لتصحيح هذا الانحراف. وهذه من التحديات الكبيرة لرئيس الوزراء.
من يحب اليمن فعلاً عليه الاصطفاف مع رئيس الوزراء، وليس وضع العراقيل في طريقه. إن الطبيعي مساندته من قبل الكل، لأنه قام بما يفترض أن يُفعل منذ عقد من الزمان. ومن يضعون أنفسهم ممثلين لمصالح الناس عليهم التوقف عن العرقلة وعدم التدخل في شؤون سلطة مستقلة دستوريًا بموجب مبدأ الفصل بين السلطات.
ومن الطبيعي أن بعض أمراء الحرب الذين يعيشون في بحبوحة سيقفون ضد تجفيف ضرع البقرة التي تدر عليهم وحدهم حليبها.
التحدي:
رئيس الوزراء أمام تحدٍ كبير، وإذا لم ينجح في تطبيق رؤيته لتصحيح جزئي يلقى مساندة عامة، فسيتلاشى أمل نجاحه بالقيام بأي تصحيح خدمة للصالح العام، ثم البناء على هذه الخطوة البسيطة في بلد عانى من الفساد والمحسوبية لعقود عديدة، ونتج عن ذلك نهب ثروته المحدودة، التي لعب التسييس دورًا في نقلها من خانة الحرام إلى موضع الحلال بقرارين دوليين.