صنعاء 19C امطار خفيفة

ملعب الشهداء

ملعب الشهداء

إهداء: إلى الصديق الكابتن الخلوق عبدالله عبدالنبي، رحمه الله.

كان الوقت عصراً، وقد بدأت الشمس تميل نحو المغيب، ترسل أشعتها الذهبية بخجل على جنبات المدينة. ورغم ضغط الارتباطات العائلية، أبت قدماي إلا أن تقوداني مباشرة إلى هناك... إلى ملعب الشهداء. لم يكن مجرد ملعب، بل ذاكرة حيّة، وأيّ ذكريات! واليوم، وأنا أقف هنا، لا أرى فقط مدرجاته وعشبه بحلّتهما الجديدة، بل أرى طفولتي، أسمع ضحكات أصدقائي، وأشمّ عبق الذكريات.

في أيام الطفولة، حين لم نكن نملك ثمن التذكرة، كنا نلجأ إلى طريقتين: إما تسلّق السور خلسة من أنظار الشرطة العسكرية، أو التوسّل لأحد الكبار ليدخلنا معه: "لو سمحت، دخلنا معك... لو سمحت". ضجيج المدرجات وصخب الجماهير سحرني، فتعلّقت بالمكان منذ تلك اللحظة.
كان الملعب يقع في منطقة نابضة بالحياة، تحيط به معالم بارزة: من الشرطة العسكرية، إلى مبنى صحيفة الجمهورية، ومدرستي الثلايا والفاروق (والتي درستُ فيها ثلاث سنوات واختتمت بها دراستي الثانوية)، ومبنى القيادة، وجامع العرضي، ونادي الضباط، والمتحف الوطني ومرافقه، الذي بات اليوم محط أنظار العالم بعد أن أدرجته مؤخرًا منظمة اليونسكو ضمن قائمة الحماية المعززة، اعترافًا بقيمته التاريخية والثقافية، ومديرية الأمن، والمؤسسة الاقتصادية سابقًا (حاليًا البنك اليمني). كل زاوية تحكي قصة، وكل جدار يحمل صدى هتاف قديم.
في قلب هذا المحيط، وعلى تلك المدرجات، ارتسم أول موسم كروي في مخيلتي ومخيلة المحافظة: موسم 1986، موسم "أهلي تعز" بلا منازع. أذكر تلك المباريات التي اهتز فيها الملعب، والرايات الحمراء ترفرف، يتقدمها المشجع المخلص عبدالله الشابع، الذي كانت حنجرته تصدح بالأهازيج. كانت تعز كلها خلف الفريق، تهتف وتتمايل، والصفير يملأ الأرجاء.
جماهيرهم كانت استثنائية، ترافق الفريق في كل محافظة، كأنهم أبناء كل مدينة. لم يكن ثمة فريق يرافقه جمهوره خارج محافظته كما كان الحال مع "أهلي تعز". كانت حناجرهم تسبق صافرة البداية، وأهازيجهم تملأ المدرجات.
ذلك الفريق كان أسطورة. لن أذكر أسماء نجومه، فالفريق بأكمله كان كوكبة من النجوم، يتألقون تحت قيادة المدرب الملهم عبدالله عتيق، وكابتن الفريق الكابتن الخلوق عبدالعزيز القاضي، رحمهما الله، والحارس الأمين محمد ناجي.
وعندما أحرزوا البطولة، خرجت أحتفل معهم ومع الجماهير صوب مقر النادي القريب من الملعب. كانت لحظة لا تُنسى، فرحة غامرة عمّت المدينة. حتى أنا، رغم تشجيعي لطليعة تعز، وجدتني أحتفل معهم. كانت تعز كلها تحتفل، وكأن كل بيت فيها يملك لاعبًا في الفريق.
ولم تقتصر أفراح تعز على "أهلي تعز"، بل احتفلت لاحقًا بفريق "الصقر" الذي فاز بالدوري أكثر من مرة، تحت رعاية رجل الأعمال شوقي هائل سعيد. عادت المدينة لتلبس ثوب الانتصار من جديد.
لكن البطولة لم تكن كل شيء، فلكل مباراة طقوسها وتفاصيلها الصغيرة التي قد تبدو عابرة، لكنها تبقى عالقة في الذاكرة. من بين تلك التفاصيل، الباعة المتجولين الذين كانوا جزءًا من المشهد، ينادون: "ماء بارد... زعقة... مجلجل... طرمبة!"، إلى صوت بائع العتر الشهير: "عتر... عتر!"، الذي كان صوته إعلانًا غير رسمي لانطلاق اللقاء.
تحوّل الملعب من وطن للطفولة إلى حلم تحقق حين أصبحت أحد ناشئي "طليعة تعز".
كانت لحظة دخولي إلى أرضية الملعب لأول مرة كلاعب، لا كمشجع، لحظة لا تُنسى. شعرت حينها أنني أحقق حلمًا طالما راودني وأنا طفل أتسلق السور لأشاهد الكبار.
كنا نتدرب بقيادة الكابتن فؤاد عبدالله، الرجل الذي سبق عصره، وكان أبًا ومُلهمًا، يزرع فينا الأخلاق قبل المهارة. كثير من اللاعبين الذين تألقوا لاحقًا، كانت بدايتهم معه. تدريباتنا أغلبها كانت تقام في وقت الظهيرة، بعد انتهائه من عمله اليومي متعبًا، إذ كان يخصص وقت راحته الثمين لنا.
تدريباتنا كانت شاقة، لكنها ممتعة. كنا نركض بكل طاقتنا، نقلّد نجوم الفريق الأول، ونحلم بالصعود إلى التشكيلة الأساسية. أتذكر أول مباراة ودية لنا، كيف ارتجفت أقدامي مع صافرة البداية، ثم تحوّل الخوف إلى حماسة مع أول لمسة للكرة.
كنا نلعب أحيانًا مع قدامى الأندية، أولئك الكبار الذين لم تُثقلهم السنوات عن الركض خلف الكرة. على الرغم من امتلاء أجسادهم وتقدّمهم في العمر، كانوا يلعبون معنا بخفة مدهشة وندية حقيقية. يراوغوننا بخبرة، ويضحكون من قلوبهم كلما باغتنا أحدهم بتمريرة ذكية أو هدف. لم نلعب لنفوز، بل لنتعلم، وننهل من شغفهم وروحهم الرياضية.
ولم تقتصر حكاياتنا على ملعب الشهداء؛ فملعب كرة السلة الملاصق له كان ملاذنا الآخر. بأرضيته الإسمنتية الملساء، كنا نلعب لساعات، نجد فيه متعة خاصة، حيث كان حجمه المصغر يتيح لنا اللعب بندّية وحرية أكبر.
في ذلك الزمن، لم يكن لدينا من متنفس سوى كرة القدم. ننتظرها بشغف، وكأنها نافذتنا الوحيدة على الفرح. وفي المساء، نلوذ بالكتب، نقرأ بنهم، ونعيش مغامرات لا تقل إثارة عن تلك التي عشناها في الملعب. كانت حياتنا بسيطة، لكنها مليئة بالمعنى. لا شاشات تسرق الوقت، ولا هواتف تشتت الانتباه. كنا نعيش اللحظة، ونحلم بقلوب مفتوحة.
كنا نملك القليل، لكنه كان كافيًا لنحيا أجمل الأيام.
فملعب الشهداء لم يكن محطة عابرة، بل زمنًا جميلاً حملناه معنا.

الكلمات الدلالية